شيماء جاد الرب راغب تكتب: أكثر الأمراض رعبا.. الفصام «ألشيزوفري»
تاريخ النشر: 3rd, December 2023 GMT
إن طبيعة الهلاوس البصرية نفسها معقدة ومتداخلة، فهي لا تأتي في الغالب بالصورة التي نراها في أفلام مثل "عقل جميل" (Beautiful Mind) أو "آسف على الإزعاج"، فقد تكون بسيطة للغاية وتظهر في: تغيّر في الألوان أو بقع داكنة أو أشكال هندسية، وقد تكون حيوانات أو بشرا، وتختلف وتتنوع كذلك في المدة الخاصة بها، والتي تبدأ من لحظات صغيرة جدا، قد تكون تلك الهلاوس البصرية موجبة في المشاعر التي تقدمها لكنها في الغالب تكون شديدة القسوة، وفي المجمل فهي ليست متكاملة السياق والقصة بالطريقة التي تعرضها تلك الأفلام.
في الحقيقة، فإن طلبة العلوم الطبية أيضا يقعون في الخطأ نفسه، إذ لا يمكن لهم بسهولة فهم الكيفية التي يمكن أن تتمثّل بها الهلاوس بأنواعها للمرضى، دفع ذلك بفريق بحثي من جامعة كاليفورنيا بقيادة بيتر يلوليز - قبل عام من الآن(5) – لابتكار طريقة مثيرة للانتباه يمكن من خلالها تمثيل الهلاوس السمعية والبصرية للطلبة عن طريق الواقع وإدخالهم لواقع افتراضي يختبرون فيه هلاوس شهيرة، كأن يسمع الشخص أصواتا تنتقده، أو يرى كلمة موت كعنوان في الجريدة، أو يرى شخصيات تنزف دماء من عينيها، أو يرى مراسلا في التلفاز يطلب منه أن يقتل نفسه.
لكن أشهر الأخطاء في الفهم التي تسبّبت بها تلك الفكرة الخاصة بالهلاوس البصرية والفصام هي الربط المباشر بين الحالتين لدى الجمهور.
في الواقع، يمكن أن تكون الهلاوس البصرية عرضا لمشكلات أخرى قد لا تكون بالضرورة مرضية، يظهر ذلك -أكثر ما يظهر- في الأطفال، فحينما يخبر الطفل والديه بأنه يرى أشياء، أو ربما يسمع أصواتا، ليست موجودة فإن كمًّا هائلا من البؤس والحزن والرعب يحطّ على صدورهم فورا لأنهم أصبحوا متأكدين أن هذا الطفل مصاب بالفصام، لكن ذلك في الغالب غير صحيح.
حتى إن دراسة إنجليزية، صدرت قبل عدة أعوام، قد وجدت أن ما يقرب من ثلثي الأطفال يمكن له أن يختبر أعراضا كرؤية أو سماع أشياء غير موجودة بدون سبب مرضي واضح ولا يتطلّب ذلك تدخلا دوائيا، أضف إلى ذلك أنه في حالة الهلاوس البصرية تحديدا فإن الطبيب غالبا ما يذهب إلى تشخيصات أخرى يكون آخرها تماما الفصام، لأنها ليست عرضا مميزا له في غالبية الحالات، ولا بد أن تقترن مع مجموعة أخرى من الأعراض المتنوعة لتشخيص حالة كتلك.
قد توجد أعراض الذهان مع عدة أمراض أخرى مثل الاضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب أو أنواع القلق، كذلك قد تحدث نتيجة لمشكلة في الدماغ، أو نتيجة لاستخدام بعض الأدوية أو المهدئات أو تعاطي المخدرات خاصة الحشيش، أو قد تنتج بسبب الضغط في الحياة أو الصدمات النفسية، بالتالي فإن كل مريض يرى شيئا غير موجود في الواقع ليس بالضرورة مريض فصام، ولكن يجب عند هذه النقطة توضيح أن الهلاوس، في العموم، هي أمر يستدعي الذهاب إلى طبيب متخصص لفهم أسبابها.
وفي الواقع، فإن الفصام -على عكس التصور السائد- هو مرض، رغم قسوته الشديدة، يُمكن علاجه إذا قرر المريض الذهاب إلى طبيب متخصص واتباع خطة علاجية مناسبة، ورغم أن نسب الشفاء التام منه ليست كبيرة، فإن معظم مرضى الفصام يتمكّنون من الاستمرار في حياتهم وعملهم مع برنامج علاج جيد ومتابعة مستمرة، لذلك اسمح لنا أن نقول المرض العقلي يُمكن علاجه أو السيطرة عليه، الطبيب هو الشخص الوحيد القادر على التعامل مع المرض العقلي، وإذا كان العلاج رحلة فإن الطبيب هو الملّاح.
إذا قررت لوهلة أن تتأمل عدد الصفحات التي تقدم مرض الفصام وتداخلاته وأنواعه، في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، الطبعة الخامسة، والذي تصدره الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين، وهو أهم كتاب في هذا النطاق، ستجد أن اضطراب الفصام، لأجل أغراض التشخيص فقط، يوجد في أكثر من 40 صفحة، تتكوّن من ملاحظات وتوجيهات كل سطر منها يحتاج بدوره إلى شروحات طويلة من أجل تفصيله في إطار نتائج مشاهدات واسعة من عدد كبير من المرضى، حيث ان المرض العقلي معقد جدا ومتنوع للغاية، ولكل مرض طيف واسع من الأعراض المختلفة وكذلك الشدة والتردد، وتتشابك الأمراض العقلية مع بعضها البعض بصورة لم نتمكّن من تفسيرها بعد، لكننا فقط بإمكاننا التعامل معها، لذلك سوف يكون من الضار جدا للمريض، وللمجتمع في المقابل، أن نعمل على تنميط الأمراض العقلية في صور محددة غالبا ما تكون هي الأقسى والأدعى للفزع.
ورغم هذا إلا أن دراسة جديدة لباحثين من جامعة فاندربيلت الأمريكية، حددت هدفاً محتملاً يمكن أن يستهدفه علاج جديد لمرض انفصام الشخصية، ويصيب مرض انفصام الشخصية، نحو واحد في المائة من سكان العالم، ومن الصعب علاجه تاريخياً، وتساعد مضادات الذهان الحالية المعتمدة سريرياً في تقليل «الأعراض الإيجابية» مثل الهلوسة والأوهام لدى بعض المرضى، لكنها تفشل في علاج «الأعراض السلبية»، مثل الانسحاب الاجتماعي وقلة الحافز والعجز المعرفي المرتبط بالمرض، ويُعتقد أن الفصام يحدث عندما تصبح منطقة من الدماغ تسمى «قشرة الفص الجبهي» نشطة بشكل غير طبيعي؛ لأن الخلايا العصبية الداخلية، التي تربط الدوائر العصبية أو مجموعات الخلايا العصبية، تصبح غير فعالة وتتوقف عن تنظيم نشاط الخلايا العصبية.
وسعى الفريق من جامعة فاندربيلت، برئاسة جيمس ماكسيمتز، إلى تعديل نشاط تلك الخلايا، وحددوا مستقبلات الجلوتامات الموجهة نحو الأيض، والتي تعرف اختصاراً باسم (mGlu1)، هدفاً محتملاً لدواء يساعد في تحقيق ذلك، وهو ما تأكدوا منه عندما قاموا باختبار مركبات تساعد على تعزيز هذه المستقبلات، تعرف باسم المُعدِلات التعددية الموجبة (PAM) ومن أمثلتها «الديازيبام» و«الألبرازولام» و«الكلورديازيبوكسيد»، حيث وجدوا أنه باستخدام هذه المركبات، تم تعزيز نشاط المستقبلات، وهو ما زاد بشكل انتقائي من نشاط الخلايا العصبية الداخلية المثبطة.
وتشير هذه النتائج التي تم نشرها أمس الأول في دورية «سيل ريبورتيز»، أن استخدام مركبات (PAM) لتعزيز نشاط المستقبلات هو علاج فعّال لمرض انفصام الشخصية.
ويقول ماكسيمتز، في تقرير نشره الموقع الإلكتروني لجامعة فاندربيلت بالتزامن مع نشر الدراسة: «الانفصام مصدر قلق سريري ومجتمعي مهم، والاستجابات غير الكافية للعلاج والفشل في معالجة الأعراض السلبية والعجز الإدراكي يؤدي إلى نتائج سيئة للمرضى، الذين يمثلون عبئاً مالياً كبيراً على الولايات المتحدة والاقتصادات العالمية».
وما يأمل إليه الباحثون في توفير العلاج الراحة للمرضى في نهاية المطاف، وتسمح لهم بإعادة الاندماج والمساهمة في المجتمع، وتقليل العبء على أنظمة الرعاية الصحية.
ولترجمة هذه النتائج إلى دواء يتوفر في الأسواق، سيحتاج الباحثون إلى التحقيق في فعالية المُعدِلات التعددية الموجبة (PAM) عند استخدامها بشكل مزمن وليس على المدى القصير، وتقييم الآثار الجانبية المحتملة.
فإن دور المجتمع في احتضان المريض العقلي لا يختلف عن دور الأسرة أو دور الدواء، لكن إن كان المجتمع يُعادي المريض، الذي يكون بدوره هشًّا جدًّا تجاه التنميط، فإننا سوف نفقد الكثيرين مبكرا، فقط بمجرد نظرة مرتعبة لشخص يمر إلى جوارك.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الخلایا العصبیة
إقرأ أيضاً:
د. منال إمام تكتب: ترامب علامة فارقة في التاريخ السياسي الأمريكي الحديث
في سجل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الولايات المتحدة، يبرز دونالد ترامب بوصفه من أكثر الشخصيات إثارةً للجدل، ليس فقط على المستوى المحلي، بل على الساحة الدولية أيضًا. فقد مثّل نمط قيادته خروجًا صارخًا عن التقاليد السياسية الأمريكية، وأثار بأسلوبه الحاد وتصرفاته غير المألوفة موجات من الانتقاد والانقسام، حتى وُصف بأنه الرئيس الذي لم يشبه أحدًا ممن سبقوه. ومع ذلك، لا يتفق الجميع على وصفه بأسوأ رئيس، إذ يرى البعض أن التاريخ الأمريكي شهد قادة دعموا سياسات عنصرية أو استعمارية كانت لها آثار كارثية، لكن ما يميز ترامب هو تفرده في الطريقة التي تقاطع فيها سلوكه مع القيم الأمريكية الديمقراطية، ومدى تأثيره العميق والمستمر على بنية النظام السياسي الأمريكي وموقعه العالمي.
لقد أحدثت سياسات ترامب تغيرًا جذريًا في طبيعة القيادة الأمريكية، وخلّفت أثرًا طويل الأمد على سمعة الولايات المتحدة، داخليًا وخارجيًا. ومهما حاول أنصاره التقليل من حجم هذه التحولات، فإن الحقائق على الأرض تروي قصة مختلفة، قصة انقسام داخلي حاد، واضطراب في منظومة القيم، وتحول في علاقات أمريكا الدولية لم تشهده منذ عقود.
الداخل الأمريكي تحت حكم ترامب: انقسام غير مسبوق
داخليًا، تسببت سياسات ترامب في انقسام اجتماعي وسياسي غير مسبوق في التاريخ الأمريكي الحديث. لم يكن الأمر مجرد خلاف سياسي بين التيارات، بل أصبح انقسامًا مجتمعيًا عميقًا شمل الهوية الوطنية والقيم الأساسية للدولة.
ساهم سلوك ترامب الشخصي في تعميق هذا الانقسام، حيث لم يتردد في مهاجمة حكّام الولايات، ووسائل الإعلام، والعلماء، والنظام القضائي، بل وكل من اختلف معه في الرأي.
لقد تجاوز ترامب حدود الأعراف السياسية التي كانت تحكم سلوك الرؤساء الأمريكيين، وفتح الباب لتآكل الثقة في المؤسسات، وهو ما ظهر جليًا في تصاعد أعمال العنف والتوتر، كما حدث مؤخرًا في أحداث العنف في لوس أنجلوس. كثيرون داخل وخارج الولايات المتحدة باتوا يعبرون عن قلق حقيقي إزاء مستقبل الديمقراطية الأمريكية، خاصة في ظل التوترات التي غذّاها الرئيس الأمريكي بتصريحاته وأفعاله.
ترامب والسياسة الخارجية: من الدبلوماسية إلى المعاملة التجارية
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد اتبع ترامب نهجًا قائمًا على مبدأ "الصفقة" أو المعادلة الصفرية، حيث اعتُمدت المصالح الأمريكية بشكل أحادي كأساس للتفاوض، متجاهلًا القواعد الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف. هذا النهج لم يكن وليد اللحظة، بل أصبح السمة المميزة لسياساته في قضايا مثل إيران، وفلسطين، والحرب الإسرائيلية على غزة.
في الملف الإيراني، لم يتردد ترامب في استخدام القوة دون اعتبار لمواثيق القانون الدولي أو حتى الدستور الأمريكي وقام بضرب الأهداف النووية الإيرانية بقذائف لم تستخدم من قبل لإحداث دمار شامل لهذه المنشآت.
أما في القضية الفلسطينية، فقد اتضح انحيازه المطلق لإسرائيل، حيث مارس ضغوطًا شديدة على الفلسطينيين، وسعى لإعادة صياغة مفهوم "السلام" ليخدم مصالح إسرائيل وحدها، متجاوزًا مبدأ العدالة الذي يفترض أن يكون أساسًا لأي تسوية.
هذا التوجه جعل العديد من الدول ترى في الولايات المتحدة قوة انتهازية، لم تعد تُعنى بقضايا السلام والاستقرار العالمي، بقدر ما تسعى وراء مصالح ضيقة وأرباح سياسية داخلية. وقد أدى ذلك إلى تراجع صورة أمريكا في العالم، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل أيضًا في ملفات كبرى مثل المناخ، والتجارة العالمية، والصراعات الجيوسياسية في آسيا.
إرث ترامب: تحذير للعالم
يبقى عهد ترامب في الذاكرة السياسية العالمية ليس فقط كرئاسة مثيرة للجدل، بل كمرحلة مفصلية دفعت المراقبين والمواطنين على حد سواء للتفكير بعمق في طبيعة الحكم، وخطورة الفردية والغطرسة السياسية في أنظمة الحكم ذات التأثير العالمي. فقد مثّل ترامب نموذجًا حيًا للمخاطر التي قد تنجم عن تركيز السلطة في يد شخص يفتقر إلى الإيمان العميق بقيم الإنسانية والديمقراطية والحوار والتعددية.
ولا شك أن تصرفاته المتغطرسة وقراراته الأحادية ألحقت ضررًا بالغًا بسمعة الولايات المتحدة كقوة عالمية، وتسببت في آثار سلبية على ملفات وقضايا ذات حساسية كبيرة على المستوى الدولي. ومع ذلك، فإن النظام السياسي الأمريكي لا يزال يمتلك أدوات للتعافي، ويمكن أن يحمل المستقبل فرصًا لإعادة ضبط البوصلة، على الرغم من أن الآثار التي خلفها ترامب قد تستمر طويلًا.
القضية الفلسطينية ومآلاتها بعد ترامب
تبقى القضية الفلسطينية أحد أكثر الملفات تأثرًا بإرث ترامب. فقد كشف انحيازه الكامل لإسرائيل وتهجمه السياسي على الفلسطينيين هشاشة الموقف الأمريكي كوسيط سلام. لكن في المقابل، فإن النضال من أجل العدالة لم يتوقف، ولا تزال هناك شعوب وأنظمة تواصل دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني، حتى في ظل التحديات التي زادت تعقيدًا بعد سنوات حكم ترامب.
وسيذكر دونالد ترامب، دون شك، كأحد أكثر الرؤساء تأثيرًا – وربما ضررًا – في تاريخ أمريكا الحديث. فترة حكمه أعادت تشكيل الخطاب السياسي، وأثارت تساؤلات جوهرية حول مصير الديمقراطية الليبرالية في عصر التوترات والصراعات الداخلية والخارجية. لكن العالم لا يتوقف عند عهد رئيس بعينه، والتاريخ مفتوح دومًا أمام تصحيحات وولادات جديدة قد تحمل معها مستقبلًا أكثر اتزانًا وعدلًا، سواء داخل أمريكا أو على المستوى العالمي. ولن يحمي الأوطان المعسكر الشرقي أو الغربي أو دفع الأموال لن يحي الأوطان سوى سواعد أبنائها ولحمتهم الداخلية وقوة جيشها حفظ الله مصر من كل الشرور.