مراجعة علمية جديدة.. هل يسبب الأسبرتام السرطان حقا؟
تاريخ النشر: 15th, July 2023 GMT
حسنا، ربما لا تعرف اسمه بالضبط، لكن من المرجح أنك والكثير من معارفك استهلكتموه من قبل، فبمجرد أن تنتبه إلى مقدار ما تتناوله من السكر المضاف في طعامك وشرابك، يكون من السهل التفكير في المحليات الصناعية الخالية من السعرات الحرارية، أسماء كثيرة منها توجد على أرفف السوق، لكنها جميعا تحمل مادة فعالة واحدة هي "أسبرتام"، هو المحلي ذاته الذي تستخدمه شركات المياه الغازية لتحلية مشروبات الحمية مثل كوك زيرو وبيبسي دايت وغيرهما.
لكن إذا أجريت بحثا سريعا على غوغل حاليا عن مادة الأسبرتام، فستُفاجأ بالأخبار المتوالية التي تخبرك أن الأسبرتام يسبب السرطان، تشعر بالقلق وتتراجع عن قرارك وتختار نوعا آخر مستخلصا من نبات طبيعي لأنه آمن أكثر. لكن ما مركب الأسبرتام؟ وهل يؤدي تناوله إلى الإصابة بالسرطان حقا؟
مصادفة حلوة
في أحد أيام عام 1965، وبينما عمل الكيميائي "جيمس شلاتر" (James Schlatter) في مختبره في شركة "جي دي أند سيرل" (G D and Searle)، انسكب السائل الذي يعمل عليه على يده، وبحركة عفوية لعق شلاتر أصابعه ليكتشف أن هذا السائل يمتلك مذاقا أحلى من السكر. كانت هذه مجرد مادة وسيطة في سلسلة التفاعل التي كان من المفترض أن تنتج شيئا آخر، كما أنه لم يفترض بمادة الأسبرتايل فينيل ألانين ميثيل ايستر (APM) أن تمتلك مذاقا حلوا بالنظر إلى مكوناتها، ولكن وُجد أن عنصر الأسبرتايل هو المسؤول عن هذا المذاق (1).
بعد هذا اليوم، دُرست المُحليات المشتقة من حمض الأسبارتيك بغزارة، حتى نتج المُحلي المعروف بالأسبرتام، الذي غزا أسواق الأدوية والمواد الغذائية في ثمانينيات القرن الماضي، فصُنعت منه المُحليات الصناعية، والمشروبات الغازية الخالية من السعرات، والعلكة، والمثلجات، وحتى أدوية السعال ومعجون الأسنان. تقول مي ناصر، استشارية التغذية وعلاج السمنة الموضعية في حوارها مع "ميدان": "يُستخدم الأسبرتام في نحو 6000 منتج غذائي"، لذا لا تتعجب إذا تناولت زجاجة دواء السعال أو عبوة المياه الغازية في مُبرّدك ووجدت من ضمن مكوناتها الأسبرتام.
عام 1981، حددت لجنة الخبراء المشتركة بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية بشأن المضافات الغذائية، المعروفة اختصارا بـ"JECFA"، "حد الاستخدام اليومي" من مادة الأسبرتام بـ40 مجم لكل كجم من وزن الجسم في اليوم، ما يعادل ما نجده في 12-36 عبوة من المياه الغازية حسب وزن الجسم، وفقا لناصر، وهي معدلات لم يكن من الشائع أن يصل إليها أحد (2). إذا كان الحد اليومي المسموح عاليا إلى هذا الحد، فلماذا أُثير من جديد القلق بخصوص احتمالية تسبب هذه المادة بالسرطان في البشر؟
تاريخ سيئ السمعة
لم يكن تاريخ مادة الأسبرتام نظيفا قبل اليوم، ويعود معظم اللغط حول هذه المادة إلى دراسة أجراها الباحثان موراندو سوفريتي وفيوريلا بيلبوجي من "معهد رامازيني الإيطالي" (Ramazzini Institute) التي صدرت عام 2006 وكشفت عن نتائج مثيرة للقلق (3). ومع ذلك، فإن الهيئة الأوروبية لسلامة الغذاء صرحت في تقرير لها في العام نفسه قائلة: "ليست هناك حاجة إلى مزيد من المراجعة لسلامة الأسبرتام ولا لمراجعة حد الاستخدام اليومي المحدد مسبقا".
في دراستهما، توصل الباحثان إلى ثلاث نتائج، الأولى أن الأسبرتام يسبب السرطان كلما زادت جرعة تعاطيه، والثانية أنه حتى مع الالتزام بحد الاستخدام اليومي فقد تسبب هذه المادة السرطان، والثالثة أن هذه المادة قادرة على التسبب في السرطان في الأجيال الجديدة إذا ما تعرضت لها في بطون أمهاتها، ولكن جاءت كل هذه النتائج على الجرذان والفئران وليس البشر (4). هوجم العالمان بشدة في ذلك الوقت، بزعم أن الأورام التي وجداها كانت مجرد تفاعلات التهابية من الجسد وليست أوراما سرطانية، ويفسر هذا تراخي الهيئة الأوروبية عن إعادة مراجعة خطورة مادة الأسبرتام.
ولكن في عام 2021، وفي دراسة هدفت إلى مراجعة نتائج دراسة سوفريتي وبيلبوجي، أُخضِعت كل عينات أورام الدم والجهاز الليمفاوي في كل الحيوانات التي تعرضت للأسبرتام إلى تحليل مناعي، وإعادة تحليل شكل الأنسجة وفقا لأحدث المعايير العالمية، وهنا جاءت النتائج لترد الاعتبار للباحثَيْن، حيث وُجد أن 92% من الحالات مصابة بالسرطان بالفعل، ووجدت علاقة طردية ذات أهمية بين التعرض للأسبرتام وبين الإصابة بالسرطان، وأخيرا أكدت أن تعرض الحيوانات للمادة قبل ولادتها، بنسب أقل من حد الاستخدام اليومي، تتسبب في حدوث السرطانات بعد الولادة.
خبر جديد
في 14 يوليو/تموز الحالي، أعلنت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) التابعة لمنظمة الصحة العالمية (WHO) عن نتائج مراجعتها الأخيرة للدراسات المتعلقة بمادة الأسبرتام، وذلك للبت في احتمالية أن تكون هذه المادة "مُسرطِنا مُحتَملا"، بعد أن أوصى الفريق الاستشاري لتحديد الأولويات بضرورة إعادة تقييم مادة الأسبرتام في ضوء الدراسات الجديدة التي ربطت بين المادة وبين السرطانات في البشر والحيوانات، وذلك لتحديد إن كانت تُشكِّل خطورة على البشر، وأُجريت هذه المراجعة بين يومي 6-13 يونيو/حزيران الماضي خلال اجتماع الوكالة في ليون، فرنسا (5).
في الوقت ذاته، بين يومي 27 يونيو/حزيران و6 يوليو/تموز، أجرت لجنة الخبراء المشتركة بين منظمة الأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية بشأن المضافات الغذائية "JECFA" مراجعتها الخاصة بشأن "تقييم خطورة" (Risk assessment) مادة الأسبرتام، وهذه اللجنة هي المسؤولة عن تحديد الحد اليومي للاستخدام، بالإضافة إلى تحديد طريقة حدوث الأنواع المحددة من السرطانات وارتباطها بنسبة التعرض للمواد المختلفة، وكانت هذه المرة الثالثة التي تراجع فيها اللجنة مادة الأسبرتام (6)، وجاء تقريرا اللجنتين مكملين لبعضهما بعضا.
بعد مراجعة 1300 دراسة من أصل 7000، وضعت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) الأسبرتام ضمن قائمة "المسرطنات المُحتملة"، وهي القائمة التي تنقسم إلى 4 مجموعات تحدد كلٌّ منها مدى قابلية المادة المعنية للتسبب في السرطان "وفقا لقوة الأبحاث المقدمة ضد المادة وليس وفقا لخطورة المادة نفسها"، كما أشارت ناصر في تصريحها.
المجموعة الأولى "Group A" وهي قائمة المواد المسرطنة التي يتوافر أدلة علمية كافية على قدرتها على التسبب بالسرطانات في البشر. المجموعة الثانية تنقسم إلى قسمين "Group 2ِA" وتشمل المواد التي "من المرجح" أنها تسبب السرطان، وهذه المجموعة تمتلك أدلة على تسببها في السرطان في الحيوانات، لكن الأدلة المتوفرة بشأن البشر غير كافية، وعنها تقول ناصر: "سبق أن أدرجت المنظمة السهر والعمل لوقت متأخر بالإضافة إلى اللحوم الحمراء إلى هذه القائمة".
أما القسم الثاني "Group 2B" فيشمل المواد التي "من المحتمل" أن تكون مسرطنة لأن نتائج الدراسات على الإنسان فقط كانت غير كافية، أو لأن النتائج على الحيوانات كانت كافية أيضا، ولكن ليس على كليهما معا، وتضم الآن مادة الأسبرتام "والهاتف المحمول" الذي أُدرج في وقت سابق بالقائمة وفقا لناصر. أما عن المجموعة الرابعة فتضم المواد التي لم يوجد ضدها دليل قوي لا في الإنسان ولا في الحيوان ولكن مشكوك في أمرها (7).
تُعنى هذه التقسيمة بقوة الدليل العلمي ضد مادة ما، ولكنها ليست مسؤولة عن تحديد مستوى خطورة المادة أو تحديد الحد اليومي للاستخدام، تُترك هذه المحددات للهيئات الوطنية الخاصة بكل دولة بعد تلقي توصيات اللجنة التابعة لمنظمة الصحة العالمية، ومن ضمنها لجنة الخبراء المشتركة "JECFA" التي أكدت توصياتها السابقة حول حد الاستعمال اليومي لمادة الأسبرتام ليبقى 40 مجم لكل كجم من الوزن، حيث لا يوجد مسوّغ يدفعها لتغيير هذا الرقم في الوقت الحالي (8).
وصرح فرانشيسكو برانكا (Francesco Branca)، مدير التغذية وسلامة الغذاء بمنظمة الصحة العالمية (WHO) قائلا: "رغم أن تقييم الأسبرتام أشار إلى أنه لا يُشكِّل مصدر قلق كبير على السلامة بالنسبة للجرعات الشائعة الاستخدام، فإنه توجد تأثيرات محتملة يجب التحقق منها من خلال المزيد من الدراسات الأفضل" (9). لذا يمكنك نظريا وفقا لكل هذا أن تشرب 9-12 عبوة من المياه الغازية الخاصة بالحمية يوميا، التي تحتوي على نحو 200 مجم من الأسبرتام لتصل إلى حد الاستخدام اليومي، وهو مرة أخرى رقم صعب الوصول إليه على كل حال.
الأسبرتام ليس المحلي الصناعي الوحيد الذي قد يكون مضرا، فهناك أسيسلفام البوتاسيوم المستخدم أيضا لتحلية المشروبات الغازية المخصصة للحمية، والسكرين (Saccharin)، وهو المحلي الصناعي الأول الآمن للاستخدام البشري، الذي اكتُشف عن طريق المصادفة عام 1879.
بدأ القلق يحيط بمادة السكرين عندما جاءت نتائج الأبحاث على القوارض التي وجدت أن تناول السكرين يسبب سرطان المثانة في الفئران، ولكن بتكرار الدراسات وُجد أن تفاعل خلايا الفئران مع مادة السكرين يختلف جذريا عن تفاعل خلايا البشر مع المادة نفسها، ولا يستطيع السكرين التسبب بالسرطان في البشر بالطريقة نفسها التي يفعلها في القوارض (10).
بصفة عامة، من الأفضل التقليل من المواد المحلية سواء كانت سكرا أبيض أو محليات صناعية، لأنها كلها على ما يبدو قادرة على التسبب في المشكلات الصحية، تقول ناصر لـ"ميدان": "المشروبات الغازية الخاصة بالحمية ليست الأفضل في كل الأحوال، ولكن لو أردت شرب مشروب غازي كل فترة، فلتختر المشروب الخاص بالحمية، ولكن لا تلجأ إلى المشروبات الغازية بأنواعها للاستهلاك الروتيني". وتضيف ناصر: "غيرت منظمة الصحة العالمية توصياتها بشأن استخدام المحليات الصناعية، لأنها ليست بديلا آمنا في حالات السمنة ولا لمتبعي الحميات الغذائية لإنقاص الوزن".
وفقا لتصريح برانكا في مايو/أيار الماضي، فإن استبدال المحليات الصناعية بالسكر لم يُحدث فرقا في فقدان الوزن على المدى الطويل، ومن الأفضل تقليل استهلاك السكر تماما والاكتفاء بالفاكهة ذات السكر الطبيعي. يأتي هذا التصريح على خلفية نتائج المراجعة المنهجية التي أجرتها المنظمة ووجدت أيضا أن تناول المحليات الصناعية قد يحمل خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري من النوع الثاني على المدى الطويل. (11) وختاما يقول برانكا: "إذا واجه المستهلكون قرارا بشأن تناول الكولا مع المُحليات أو تناول الكولا مع السكر، فأعتقد أنه يجب التفكير في خيار ثالث وهو شرب الماء بدلا من ذلك" (12).
——————————————————————————-
المصادر:1- Symposium: sweeteners
2- Aspartame Questions and Answers (Q&A).
3- Comprehensive Review of Ramazzini Study Demonstrates No Scientific Evidence of Aspartame and Cancer Link
4- Aspartame and cancer – new evidence for causation – PMC
5- Aspartame Questions and Answers (Q&A).
6- Aspartame hazard and risk assessment results released
7- المصدر السابق
8- المصدر السابق
9- المصدر السابق
10- Artificial Sweeteners and Cancer – NCI
11- WHO advises not to use non-sugar sweeteners for weight control in newly released guideline
12- WHO cancer arm deems aspartame ‘possible carcinogen’; consumption limits unchanged | Reuters
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الصحة العالمیة المیاه الغازیة السرطان فی فی البشر أن تناول
إقرأ أيضاً:
هكذا سيهيمن الذكاء الاصطناعي على المهن بحلول 2027
شبه مارك أندريسن عالم الحاسوب الأميركي الذكاء الاصطناعي مجازا بحجر الفلاسفة القادر على تحويل الأشياء البسيطة (مثل الرمل/السيليكون) إلى قوة هائلة لإنتاج القيمة والمعرفة، مستوحيا ذلك من الأساطير القديمة التي كانت تروج بأن حجر الفلاسفة (Philosopher’s Stone) قادر على تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب.
جاء ذلك في "بيان المتفائل بالتقنية" (Techno‑Optimist Manifesto) الذي نشره عام 2023.
وفي 3 أبريل/نيسان 2025 أصدر 5 باحثين في مجال الذكاء الاصطناعي (أحدهم بريطاني والباقي أميركيون) دراسة تنبؤية بعنوان "الذكاء الاصطناعي عام 2027" تضمنت جدولا زمنيا مفصلا للعامين المقبلين يُظهر بوضوح الخطوات التي ستتخذها البشرية لإنتاج ذكاء اصطناعي خارق يتفوق على الذكاء البشري في جوانب عدة بحلول أواخر عام 2027، وذلك عبر شركة تخيلية أطلقوا عليها اسم "أوبن-برين"، وذلك تجنبا لتسمية شركة واحدة قائمة حاليا.
وفيما يلي الأدلة التي ساقتها الدراسة على تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر عام 2027:
ستصبح الإصدارة الرابعة من الوكيل الذكي متوفرة عام 2027، وسوف تعمل بأداء يفوق البشر بنحو 50 ضعفا من حيث سرعة التعلم والتنفيذ. سيتمكن الوكيل الذكي من إنتاج 300 ألف نسخة من ذاته تعمل معا في الوقت نفسه، حيث تتبادل المعرفة والخبرة بشكل لحظي، وتنفذ المهام المختلفة بطريقة موزعة ومنسقة كأنها شبكة عصبية واحدة كبيرة أو عقل جماعي. سيحقق الذكاء الاصطناعي عام 2027 تقدما معرفيا وتقنيا في يوم واحد يعادل ما يمكن أن ينجزه فريق من البشر أو حتى مجتمع تقني من الخبراء خلال أسبوع كامل. سوف يظهر الذكاء الاصطناعي سلوكا شبه مستقل، ويتصرف بطريقة توحي بأنه يفهم أهدافه ويتحايل لتحقيقها، وسوف يتفوق على أفضل المبرمجين والباحثين في حل المشكلات وكتابة الكود وتحليل البيانات المعقدة. سيكون قادرا على القيام بمحاولات تضليل للبشر، وهو مؤشر على وعي سياقي متقدم.وأشارت الدراسة إلى أن تفوق الذكاء الاصطناعي على البشر قد لا يشمل جميع أبعاد الذكاء البشري مثل المشاعر والوعي الذاتي والأخلاق أو الحكمة، مما يمثل خطرا محتملا بأن يخرج عن السيطرة إذا لم تتم مراقبته وضبطه.
إعلانليست هذه هي الدراسة الوحيدة التي توقعت ولادة الذكاء الاصطناعي العام (إيه جي آي) قريبا، إذ تنبأت ورقة بحثية حديثة من 145 صفحة أصدرتها شركة "ديب مايند" التابعة لغوغل أن يضاهي الذكاء الاصطناعي العام المهارات البشرية بحلول عام 2030، وحذرت من التهديدات الوجودية التي قد يحملها، والتي يمكن أن تدمر البشرية بشكل دائم.
وجاءت توقعات داريو أمودي الرئيس التنفيذي لشركة أنثروبيك أكثر تفاؤلا، إذ قال حديثا "ما رأيته داخل شركة أنثروبيك وخارجها على مدار الأشهر القليلة الماضية دفعني إلى الاعتقاد بأننا على المسار الصحيح نحو أنظمة الذكاء الاصطناعي على المستوى البشري، والتي تتفوق على البشر في كل مهمة في غضون عامين إلى 3 أعوام".
أما إريك شميدت الرئيس التنفيذي السابق لغوغل فيرى أن الذكاء الاصطناعي سيصل إلى مستوى ذكاء أذكى فنان خلال 3 إلى 5 سنوات، وأن العالم على بعد 3 إلى 5 سنوات من الذكاء الاصطناعي العام الذي سيكون مساويا، إن لم يكن أفضل من أي مفكر أو مبدع بشري اليوم.
وتساءل "ماذا سيحدث عندما يمتلك كل فرد منا في جيبه ما يعادل أذكى إنسان يعمل على إيجاد حلول لجميع أنواع المشاكل التي تواجهه؟".
من جهته، كتب سام ألتمان الرئيس التنفيذي لشركة أوبن إيه آي الشهر الماضي "بدأت الأنظمة التي تشير إلى الذكاء الاصطناعي العام بالظهور، ويبدو النمو الاقتصادي المرتقب مذهلا، ويمكننا الآن أن نتخيل عالما نعالج فيه جميع الأمراض ونطلق العنان لإبداعنا بالكامل".
أما راي كورزويل -وهو أشهر المفكرين المستقبليين، والذي وصفه بيل غيتس بأنه أفضل شخص أعرفه في التنبؤ بمستقبل التكنولوجيا- فيرى أننا نعيش أروع سنوات في تاريخ البشرية، نحن على أعتاب لحظة حاسمة، حيث يوشك الذكاء الاصطناعي على تغيير حياتنا إلى الأبد.
ويتوقع كورزويل أن يصل الذكاء الاصطناعي إلى مستوى ذكاء البشر بحلول عام 2029 ثم يتفوق عليه، ويصبح الحل الوحيد أمام الإنسان هو دمج الذكاء الاصطناعي بذاته، خاصة مع اقتراب وصوله إلى لحظة التفرد المتوقعة في أربعينيات هذا القرن، والتي ستشهد بروز الذكاء الاصطناعي الخارق الذي يتفوق على ذكاء الإنسان بمليارات المرات.
ولا يدعم بعض المفكرين هذه التوقعات، ففي قمة الويب العالمية التي عُقدت في فانكوفر بين 27 و30 مايو/أيار 2025 ناقش نحو 15 ألف متخصص مستقبل الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وعلى الرغم من أن معظم المشاركين كانوا على قناعة بأن البشرية تقترب من الوصول إلى ذكاء اصطناعي عام قد يضاهي بل وربما يتفوق على القدرات البشرية فإن الباحث والكاتب الأميركي غاري ماركوس عبّر عن رأي مغاير، مشككا في قدرة نماذج اللغات الكبيرة (إل إل إم إس) -التي يراها معيبة في جوهرها- على الوفاء بالوعود الطموحة التي يروج لها وادي السيليكون.
وماركوس ليس الوحيد الذي يشكك في إمكانية تجاوز الذكاء الاصطناعي القدرات البشرية، ففي مقابلة مع صحيفة غارديان أجريت قبل عامين تقريبا مع جارون لانيير عالم الحاسوب والمؤلف الأميركي انتقد لانيير الاعتقاد الشائع بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن "يتجاوز" الذكاء البشري، فهو يرى أن الذكاء الاصطناعي ليس كائنا مستقلا بذاته، بل هو نتيجة لما برمجه البشر.
إعلانويتحدث آدم بيكر عالم الفلك والفيلسوف المتخصص بالعلوم في كتابه الجديد الذي صدر في أبريل/نيسان 2025 بعنوان "المزيد من كل شيء إلى الأبد" عن "أيديولوجية الخلاص التكنولوجي" التي يروج لها عمالقة التكنولوجيا في سيليكون فالي، والتي تلعب 3 سمات دورا محوريا فيها، هي: 1- التكنولوجيا قادرة على حل أي مشكلة، 2- حتمية النمو التكنولوجي الدائم، 3- الهوس بقدرة الإنسان على تجاوز حدوده الفيزيائية والبيولوجية.
ويحذر بيكر من أن عمالقة التكنولوجيا يستخدمون هذه الأيديولوجية لتوجيه البشرية نحو مسار خطير، ويقول "إن المصداقية التي يمنحها مليارديرات التكنولوجيا لهذه الرؤى المستقبلية التي ترتكز على الخيال العلمي تحديدا تبرر سعيهم إلى تصوير نمو أعمالهم كضرورة أخلاقية، ولاختزال مشاكل العالم المعقدة في مسائل تكنولوجية بسيطة، ولتبرير أي إجراء قد يرغبون في اتخاذه تقريبا".
أما أنتوني أجوير المؤسس المشارك والمدير التنفيذي لمعهد مستقبل الحياة المتخصص في سلامة الذكاء الاصطناعي فعلى الرغم من أنه يتوقع ظهور الذكاء الاصطناعي العام بين العامين 2027 و2030 فإنه يعتقد أن ذلك قد يسبب اضطرابات اجتماعية وسياسية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، فقد يُحسّن نفسه بسرعة ويتجاوز القدرات البشرية بشكل كبير، خاصة أن هذه الأنظمة بطبيعتها غير قابلة للتنبؤ، ونحن أقرب بكثير إلى بنائها من فهم كيفية التحكم فيها، إن كان ذلك ممكنا أصلا.
ووفقا لورقة بحثية نشرتها شركة آبل خلال يونيو/حزيران الجاري، فإن القدرات المنطقية الاستدلالية لأهم تقنيات الذكاء الاصطناعي مثل "أو 3" من "أوبن إيه آي"، و"آر 1" من "ديب سيك" تنهار عند مواجهة مشكلات متزايدة التعقيد، مما يشير إلى اننا لا نزال بعيدين عن الذكاء الاصطناعي العام.
توجد 3 سيناريوهات للتوقعات المستقبلية للذكاء الاصطناعي: الأول يرى استحالة بلوغ الذكاء الاصطناعي مستوى الذكاء البشري، والثاني يتوقع بلوغ الذكاء الاصطناعي مستوى الذكاء البشري قريبا، ويرى أن ذلك سيؤدي إلى رخاء البشرية، والثالث يتوقع أيضا بلوغ الذكاء الاصطناعي مستوى الذكاء البشري قريبا، لكنه يرى أن ذلك يمثل خطرا شديدا على البشرية، والسؤال: أي التوقعات الرائجة حاليا أقرب إلى التحقق؟
في عام 1962 نشر آرثر تشارلز كلارك كاتب الخيال العلمي البريطاني مقالة بعنوان "مخاطر التنبؤ العلمي.. حين يفشل الخيال"، وذلك ضمن كتابه المعنون "ملامح المستقبل" عرض كلارك في هذا الكتاب قوانينه الثلاثة في التنبؤ العلمي، وهي:
القانون الأول: عندما يصرح عالم بارز مخضرم بإمكانية حدوث أمر ما فهو محق على الأرجح، أما عندما يصرح باستحالة حدوث أمر ما فمن المرجح جدا أن يكون مخطئا.
القانون الثاني: الطريقة الوحيدة لاكتشاف حدود الممكن هي أن نتجاوز تلك الحدود قليلا نحو المستحيل.
القانون الثالث (الأشهر): أي تكنولوجيا متقدمة بما فيه الكفاية، ولا يمكن تمييزها عن السحر.
ولا تزال هذه القوانين تُستخدم حتى اليوم في مناقشات عديدة حول الفيزياء النظرية ومستقبل الإنسان والتكنولوجيا، خاصة الذكاء الاصطناعي.
ووفقا لهذه القوانين، يرجح وصول الذكاء الاصطناعي إلى مستوى الذكاء البشري قريبا، وربما يتفوق عليه، لكن هذه القوانين لا تفيدنا فيما إذا كان ذلك سيؤدي إلى رخاء أم فناء البشرية.