دخلت حربُ الإبادة الجماعية الظالمة التي يشنها التحالف الصهيو- أميركي ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، شهرها الرابع دون أن تحقق شيئًا من أهدافها المعلنة، واضعة كل طرف من أطرافها المباشرة وغير المباشرة في مأزِق شديد التعقيد؛ بسبب تداعياتها المتلاحقة وردود الأفعال الدولية المتواصلة عليها دون أن يبدو في الأفق أية بوادر للخروج من هذه المآزق.
فالتحالف الصهيو-أميركي يرفض إنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها؛ لأن ذلك بمثابة هزيمة نكراء بالنسبة له، وحركة "حماس" وفصائل المقاومة ترفض الاستسلام وتصرّ على التصدي للجيش الصهيوني، وتكبّده ثمنًا باهظًا، مقابل خسائر فادحة تتكبدها في المدنيين والبنى الفوقية والتحتية. فهل من سبيل لحل هذه الأزمة والخروج من المآزق التي أوجدتها؟
أصبح نتنياهو وحكومته ومجلس حربه عاجزين عن الانتصار في الحرب والقضاء على حماس والمقاومة، وعاجزين عن تحرير الأسرى، وعاجزين عن إجبار سكان قطاع غزة على مغادرته، وعاجزين في الوقت نفسه عن وقف إطلاق النار، وأصبحوا في أمسّ الحاجة إلى من يخرجهم من هذا المأزِق
في انتظار المخرجبالرغم من أن قادة التحالف الصهيو- أميركي توقعوا أن تستغرق حربهم على قطاع غزة سنة أو أكثر من أجل القضاء على حماس والمقاومة الفلسطينية واستعادة الأسرى، فإن تداعيات الحرب العسكرية والإنسانية والسياسية والشعبية التي تجاوزت التصورات؛ أدخلت جميع أطرافها المباشرة وغير المباشرة في مآزق وتحديات معقدة، وفي مقدمة هذه الأطراف:
أولاً: مأزق الكيان الصهيونيفشل مجلس الحرب الصهيوني فشلًا ذريعًا في تحقيق أهدافه من الحرب، بالرغم من أنه لم يدخر وسعًا على الصعيدَين: العسكري والأمني في سبيل ذلك، على مدى الأيام المئة الماضية من الحرب. فقد كان للاستعداد العملياتي المدهش للمقاومة الفلسطينية والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني في وجه أدوات حرب الإبادة الجماعية التي يشنها التحالف الصهيو-أميركي على قطاع غزة؛ الدور الأكبر في هذا الفشل.
أدى ذلك إلى إدخال رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ومجلس حربه، في مأزق متعدد الزوايا، عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وشعبيًا، أدّى إلى زعزعة الثقة في قيادة الجيش وسمعته الدولية وسمعة معداته وقدراته التكنولوجية والاستخباراتية، كما أدّى إلى خلخلة مجلس الحرب والتحالف الحاكم وضعف التأييد لليمين لدى الناخبين، وتصاعد الحملات الحزبية والشعبية ضد رئيس الحكومة، وإلى الإضرار بصورته الإقليمية والدولية، وزيادة المطالب الشعبية بإيقاف الحرب والإفراج عن الأسرى والمختطفين، فضلًا عن خسائره الاقتصادية الهائلة، والتشويه الذي لحق بصورته على المستوى الدولي.
أصبح نتنياهو وحكومته ومجلس حربه عاجزين عن الانتصار في الحرب والقضاء على حماس والمقاومة، وعاجزين عن تحرير الأسرى، وعاجزين عن إجبار سكان قطاع غزة على مغادرته، وعاجزين في الوقت نفسه عن وقف إطلاق النار، وأصبحوا في أمسّ الحاجة إلى من يحفظ ما بقي لهم من ماء الوجه ويخرجهم من هذا المأزق.
ثانياً: الإدارة الأميركيةالسياسة التي اتخذتها الإدارة الكاملة بمشاركة الكيان الصهيوني في حرب الإبادة الجماعية الظالمة في قطاع غزة والإصرار على مواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها؛ ألحقت بها خسائر فادحة على المستويات السياسية والقانونية والإنسانية والأخلاقية والشعبية، داخليًا وخارجيًا، خسائر أدخلتها في مأزق شديد التعقيد متعدد الزوايا كذلك، مع حلفائها ومع شعبها ومع خصومها، فتهاوت شعبية الرئيس بايدن والحزب الديمقراطي، وتضاءلت فرصهم في الفوز في الانتخابات المرتقبة نهاية العام الجاري.
وتحطمت قواعد النظام العالمي القانونية والأخلاقية والحضارية التي طالما تشدّق بها الرئيس بايدن، وانكشفت سوءة الكيل بمكيالين على أشد ما يكون بفعل المقارنة بين موقف الإدارة الأميركية من الحرب على أوكرانيا والحرب على غزة. وقد أدى هذا المأزق بالإدارة الأميركية إلى رفض وقف إطلاق النار، رغم حاجتها الماسة إلى ذلك باعتباره أصبح المطلب الأول على المستويين: الرسمي والشعبي داخليًا وخارجيًا، ولكنها لا تستطيع القيام بذلك؛ بسبب فشل الحرب في تحقيق أهدافها حتى الآن.
ثالثاً: حركة حماس والمقاومة الفلسطينيةحققت حركة حماس والمقاومة الفلسطينية في مواجهة التحالف الصهيو-أميركي؛ إنجازات مبهرة وبطولات استثنائية في ميدان القتال، فرغم الظروف القاهرة التي تتحرك فيها، ورغم شراسة الآلة الحربية الصهيو-أميركية وتجهيزاتها وتفوقها، وسيطرتها البرية والجوية والبحرية؛ ورغم الحصار المضروب على المقاومة وبدائية تجهيزاتها وانقطاع المدد عنها؛ فإنها كبّدت جيش الكيان الصهيوني خسائر فادحة لم تكن في حساباته على الإطلاق، وجعلته عاجزًا عن تحقيق أي من أهدافه.
ومع ذلك؛ فهذه الحرب المستمرة حتى اليوم تضع حركة حماس وفصائل المقاومة في وضع شديد الصعوبة يتمثل بشكل خاص، في الضريبة التي يدفعها المدنيون الذين ماتوا ويموتون بالآلاف، والدمار الذي لحق بالبنى الفوقية والتحتية لقطاع غزة، فيما لم ترضخ إسرائيل بعد للمطالب التي تصرّ الحركة عليها من إجراء مفاوضات إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين قبل الإعلان عن وقف شامل لإطلاق النار.
الأمم المتحدة ومؤسساتها في مأزق كبير جرّدها من مصداقيتها ومرجعيتها وقدرتها على إقامة العدل والمساواة، وإحلال السلام والاستقرار الدوليين، وَفقًا للقوانين الدولية والإنسانية
رابعاً: الدول العربيةتعيش الدول العربية مأزقًا هي الأخرى، فرغم الاجتماعات والمؤتمرات والجولات المكوكية والنداءات والمناشدات؛ فإنها لم تستطع وقف إطلاق النار، ولا تأمين دخول منتظم ومنضبط للمساعدات الإنسانية وتوزيعها، فضلًا عن المساهمة عسكريًا ولوجستيًا في نصرة المقاومة، ما أوقعها في مأزق تاريخي شديد الحرج أمام شعوبها وأمام دول العالم التي تستغرب أن يكون موقفها بهذا المستوى من العجز. أما الدول العربية المؤيدة للحرب على حماس والمقاومة، وعلى رأسها السلطة الفلسطينية، فلا هي بالتي نجحت في إيقاف الحرب، ولا هي بالتي ضمنت هزيمة حماس وفصائل المقاومة، بل باتت تخشى من أن تنتهي الحرب وتعود حماس والمقاومة أقوى مما كانت عليه.
خامساً: محور المقاومة العربيةحافظ حزب الله اللبناني على قواعد الاشتباك مع جيش الكيان الصهيوني، ضربة بضربة، وهدفًا بهدف، محدثًا بعض الإرباك لجيش الكيان الصهيوني خلال حربه ضد حماس والمقاومة في قطاع غزة، واضطره إلى إعادة توزيع انتشاره ومقدراته العسكرية على جبهتين بدلًا من جبهة واحدة.
ومع طول مدة الحرب، لا يملك الحزب خيارات بديلة لتصعيد عملياته لتخفيف الضغط عن غزة؛ وذلك مراعاة لحساسية الوضع السياسي اللبناني الداخلي، وتحسبًا لتدخل الولايات المتحدة عسكريًا بصورة مباشرة في الرد، أو قيام الجيش الصهيوني بتكرار سيناريو حرب 2006 م في بيروت.
وعلى المنوال نفسه ولكن بدرجة أقل؛ شاركت القوات اليمنية (الحوثية) والمقاومة الإسلامية في العراق ببعض العمليات العسكرية ذات الأثر المعنوي مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، وليس لها تأثير مباشر على العمليات العسكرية اليومية هناك، ولا على موقف التحالف الصهيو- أميركي تجاهها.
سادساً: المجتمع الدوليفشل المجتمع الدولي بكل مؤسساته في إيقاف الحرب وإيصال المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة، وانكشفت حقيقة الهيمنة الأميركية على هذا النظام، وتعالي الكيان الصهيوني على القوانين والشرائع والاتفاقيات الدولية، لتجد الأمم المتحدة ومؤسساتها نفسها في مأزق كبير جرّدها من مصداقيتها ومرجعيتها وقدرتها على إقامة العدل والمساواة، وإحلال السلام والاستقرار الدوليين، وفقًا للقوانين الدولية والإنسانية.
سابعاً: مأزق الدول الغربيةوقعت الدول الغربية في مأزق كبير يتهدد المبادئ والأسس الفكرية التي تقوم عليها أنظمتها السياسية، ومع استمرار حرب الإبادة الشاملة، وتفاقم آثارها الإنسانية المأساوية، بدأ التباين يظهر رويدًا رويدًا في مواقف الدول الغربية من الحرب، وانتقل البعض منها إلى الدعوة المباشرة لإيقاف إطلاق النار.
لا مخرج لأي من الأطراف إلا بإيقاف الحرب، والانتقال إلى المرحلة التالية التي لن تغيب عنها حركة حماس والمقاومة الإسلامية، بعد أن أثبتت قدرتها على المقاومة والتمسك بحقوق شعبها الذي التفّ حولها في لوحة صمود أسطورية نادرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینیة على حماس والمقاومة الکیان الصهیونی وقف إطلاق النار فی قطاع غزة حرکة حماس من الحرب فی مأزق
إقرأ أيضاً:
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
اقتصاد الظل في السودان: تحالفات الخفاء التي تموّل الحرب وتقمع ثورة التحول المدني
عمر سيد أحمد
[email protected]
مايو 2025
من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد النهب
في السودان، لم يُولد اقتصاد الظل من فراغ، ولم ينشأ على هامش الدولة، بل تكوَّن داخل قلب السلطة، وتحوَّل إلى أداة محورية في يد منظومة مسلحة — تضم الجيش، وجهاز الأمن والمخابرات، والمليشيات — تحالفت لعقود مع منظومات الإسلام السياسي لتثبيت السيطرة على الدولة والمجتمع. ومع تفجّر الثورة، ثم اندلاع الحرب، تكشّف الوجه الحقيقي لهذا الاقتصاد: ليس فقط مصدرًا للثراء غير المشروع، بل وقودًا للحرب، ومنصة لتشويه الوعي، ودرعًا يحمي شبكات السلطة من الانهيار.
اقتصاد بلا دولة… بل ضد الدولة
اقتصاد الظل في السودان لم يعد مجرد أنشطة غير رسمية كما في التعريف التقليدي، بل أصبح منظومة مهيكلة تعمل خارج إطار الدولة، تموّل وتُهرّب وتُصدر وتُجيّش بلا أي رقابة أو مساءلة. يتجلّى هذا الاقتصاد في تهريب الذهب من مناطق النزاع عبر مسارات محمية بالسلاح وعبر الحدود في كلزالاتجاهات وعبر المنفذ المحمي بالنافذين ، وتجارة العملة التي تغذي السوق الموازي بعيدًا عن النظام المصرفي، إلى جانب شبكة من الأنشطة التجارية الخارجية التي تدار لصالح قلة مرتبطة بأجهزة أمنية وشركات استيراد الوقود لطفيلي النظام السابق محمية من السلطة ، وتحويلات مالية غير رسمية تُستخدم في تمويل اقتصاد الحرب.
تشير التقديرات إلى أن ما بين 50% إلى 80% من إنتاج الذهب في السودان يُهرّب خارج القنوات الرسمية. وتُقدّر خسائر السودان من تهريب الذهب خلال العقد الماضي بما لا يقل عن 23 مليار دولار في حدها الأدنى، وقد تصل إلى 36.8 مليار دولار . هذه الأرقام تُظهر حجم الكارثة الاقتصادية التي يمثّلها اقتصاد الظل، ومدى تحوّل الذهب من مورد وطني إلى مصدر تمويل خفي للحرب والنهب.
من العقوبات الاقتصادية إلى السيطرة: نشأة التحالف الخفي
خلال سنوات العقوبات الأميركية، نشأت شبكات بديلة لحركة المال والتجارة، قادها رجال أعمال ومؤسسات أمنية مرتبطة بالنظام. وبدل أن تواجه الدولة الأزمة ببناء بدائل وطنية، فُتحت السوق أمام فئة طفيلية نمت في الظل، وتحوّلت إلى ذراع اقتصادية للسلطة. وحتى بعد رفع العقوبات عام 2020، لم يُفكك هذا الهيكل، بل تعمّق. ومع انقلاب 25 أكتوبر، استعادت هذه الشبكات سيطرتها الكاملة على الأسواق والموارد، لتبدأ مرحلة جديدة: تحويل اقتصاد الظل إلى مصدر تمويل مباشر للحرب.
اقتصاد الريع: الأساس البنيوي لاقتصاد الظل
من أبرز الأسباب البنيوية التي مهدت لتضخم اقتصاد الظل في السودان هي هيمنة اقتصاد الريع، الذي مثّل النمط الغالب منذ الاستقلال. فقد اعتمد السودان تاريخيًا على تصدير المواد الخام دون أي قيمة تصنيعية مضافة، بدءًا من القطن والحبوب الزيتية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مرورًا بالبترول في العقد الأول من الألفية، وانتهاءً بعصر الذهب بعد انفصال الجنوب عام 2011. هذا النمط الريعي جعل الاقتصاد السوداني مرتهنًا للأسواق الخارجية، ومفتقرًا لقاعدة إنتاجية وطنية مستقلة.
في ظل أنظمة شمولية وفساد مؤسسي، لم تُستثمر عائدات هذه الموارد في تنمية مستدامة، بل أعيد توزيعها عبر شبكات محسوبية وزبونية لصالح نخب الحكم والأجهزة الأمنية. وبدل أن يكون اقتصاد الريع رافعة للتنمية، تحوّل إلى بيئة حاضنة لاقتصاد الظل. والمفارقة أن هذا الاقتصاد لم ينشأ في الهوامش كما قد يُظن، بل نشأ وترعرع في المركز، داخل مؤسسات الدولة نفسها، وبتواطؤ من النخبة الحاكمة، التي استخدمته أداة للتمويل غير الرسمي، ولتثبيت سلطتها السياسية والعسكرية.وهكذا، اندمج الريع مع الفساد والعسكرة، وخلق منظومة اقتصادية موازية، لا تقوم على الإنتاج بل على النهب، ولا تخضع للقانون بل تتحصن خلفه..
تجارة السلاح والمخدرات: الوجه المحرّم لاقتصاد الظل
من أخطر أوجه اقتصاد الظل، تورّط المنظومة المسيطرة في تجارة السلاح والمخدرات. فقد انتشرت تقارير موثقة عبر وسائط الإعلام ومنصات التواصل خلال عهد الإنقاذ، حول “كونتينرات المخدرات” التي وصلت البلاد أو عبرت نحو دول الجوار، تحت حماية أو تواطؤ من جهات أمنية. هذه التجارة، وإن ظلت في الظل، شكّلت مصدر تمويل خفي مكمل للحرب، ومنصة لتجنيد المليشيات، ومجالًا لتبييض الأموال وتوسيع سيطرة مراكز النفوذ.
معركة الوعي المُموّلة: الإعلام كسلاح في الحرب ضد المدنية
لا يقتصر دور اقتصاد الظل على تمويل السلاح فقط، بل يُغذي معركة أخرى لا تقل خطورة: معركة السيطرة على الوعي. تُدار هذه الحملة الإعلامية من غرف خارج السودان، في عواصم مثل القاهرة، إسطنبول، دبي، والدوحة، بإشراف إعلاميين من بقايا نظام الإنقاذ وشبكات أمنية وإيديولوجية. وتنتج هذه الغرف محتوى ممولًا على وسائل التواصل الاجتماعي يبرر الحرب، ويشوّه قوى الثورة، ويُجيّش الرأي العام ضد التحول المدني، ويروّج لاستمرار الحرب التي شرّدت الملايين، وقتلت الآلاف، ودمّرت البلاد.
الهدف لا يقتصر على قمع الثورة المسلحة، بل يمتد إلى اغتيال فكرة الدولة المدنية ذاتها. تُصوَّر الديمقراطية كتهديد للاستقرار، وتُقدَّم السلطة العسكرية كخيار وحيد لضمان وحدة البلاد، في تجسيد صريح لعسكرة الدولة والمجتمع.
تفكيك المنظومة: ليس إصلاحًا إداريًا بل صراع طويل
لا يمكن الحديث عن تفكيك اقتصاد الظل في السودان بوصفه مجرّد قرار إداري أو إجراء قانوني، خاصة في ظل حرب مفتوحة، وانهيار مؤسسات الدولة، وسيطرة المنظومة المسلحة على مفاصل الاقتصاد. فهذه المنظومة لا تُفكَّك من خلال الانتصار الحاسم، بل من لحظة تآكل السيطرة المطلقة، حين تبدأ الشروخ في البنية الأمنية والاقتصادية للنظام القائم.
ورغم عسكرة الحياة اليومية، لا ينبغي أن يؤدي ذلك إلى شلل في الفعل المدني أو استسلام لقوى الأمر الواقع. المطلوب هو العمل من داخل الحرب، لا على هامشها، لصياغة مشروع تحوّل واقعي وجذري. ويبدأ ذلك بخلق وعي جماهيري جديد، يفضح الترابط البنيوي بين السلاح والثروة، ويضع اقتصاد الظل في موضع المساءلة الشعبية والدولية.
يتطلب هذا المسار مراقبة دقيقة للسوق الموازي وتحليل آلياته، تمهيدًا لبلورة سياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تعيد تنظيم السوق وتكسر احتكار شبكات التهريب. كما أن توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، لا بد أن يتحول إلى ملفات قانونية وإعلامية قابلة للمساءلة، لا مجرد روايات متداولة.
إلى جانب ذلك، يبرز دور الإعلام البديل والمجتمعي كجبهة مقاومة مستقلة، تتصدى لخطاب التضليل الذي يُنتج خارج البلاد، وتواجه الرواية الرسمية التي تبرر الحرب وتشيطن التحول المدني. هذه المواجهة الإعلامية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء رأي عام مقاوم ومتماسك.
وأخيرًا، فإن أي محاولة للتغيير لا تكتمل دون بناء شبكات وتحالفات مدنية، تطرح مشروعًا وطنيًا بديلًا يعيد تعريف الدولة، ويفكك الارتباط بين السلطة والثروة، وينقل الاقتصاد من يد المليشيات إلى يد المجتمع. هذا الطريق ليس خطة جاهزة، بل جبهة مفتوحة، تتطلب العمل اليومي، والمبادرة من داخل الشروخ التي فتحتها الحرب، لا انتظار نهايتها.
العمل وسط الحرب: لا وقت للانتظار
ورغم عسكرة الحياة واشتداد المعارك، لا ينبغي أن يكون الواقع ذريعة للتوقف عن الفعل أو الاستسلام للأمر الواقع. بل العكس هو الصحيح؛ المطلوب اليوم هو العمل من داخل الحرب، ومن بين شقوقها، لبناء بدايات جديدة تُمهّد لمسار تحوّل مدني حقيقي. فالتغيير في سياق مثل السودان لا يُنتظر حتى لحظة النصر، بل يُصنع من داخل المعركة، بخطوات واقعية ومدروسة، تستند إلى الفعل الجماهيري والإرادة الجمعية.
أدوات التغيير: من الوعي إلى التنظيم
هذا المسار يتطلب بناء أدوات جديدة، وخلق وعي جماهيري ناقد، يدرك أن المعركة ليست فقط عسكرية أو سياسية، بل أيضًا اقتصادية وثقافية. ويبدأ ذلك بكشف البنية الاقتصادية للمنظومة المسلحة، وفضح العلاقة البنيوية بين السلاح والثروة، بما يتيح خلق ضغط داخلي وخارجي على مراكز النفوذ. كما ينبغي رصد نشاط السوق الموازي وتحليل آلياته، لتجهيزه للمواجهة لاحقًا بسياسات اقتصادية وتشريعات عادلة تفكك احتكارات الظل وتستعيد الاقتصاد لحضن المجتمع.
في الوقت ذاته، يُعد توثيق جرائم التهريب، وتجارة المخدرات، ونهب الذهب، ضرورة لبناء ملفات قانونية وإعلامية يُمكن الرجوع إليها في لحظة المساءلة. وعلى الجانب الإعلامي، لا بد من دعم إعلام بديل، مستقل ومجتمعي، يواجه سرديات التضليل التي تُدار من غرف إعلامية في الخارج، ويقدم خطابًا مقاومًا ينبني على سردية الثورة، لا على خطاب الحرب.
وبالتوازي مع ذلك، يجب العمل على بناء تحالفات مدنية مرنة وواقعية، تطرح مشروعًا سياسيًا واقتصاديًا بديلاً، يعيد تعريف علاقة الدولة بالمجتمع والموارد، ويفكك ارتباط السلطة بالنهب والاحتكار.
جبهة مفتوحة: بداية لا نهاية
إن ما نواجهه اليوم ليس مجرد أزمة سياسية عابرة، بل لحظة تاريخية تتطلب إعادة صياغة المشروع الوطني من جذوره. وهذه ليست خطة جاهزة بقدر ما هي جبهة مفتوحة للتغيير التدريجي، تُصاغ من داخل لحظة الانهيار، لا من خارجها. فالتحدي الحقيقي لا يكمن في انتظار نهاية الحرب، بل في استثمار التصدعات التي خلقتها، وتحويلها إلى مسارات للمقاومة المدنية، وبدايات جديدة تُبنى فيها دولة ديمقراطية مدنية، عادلة ومنقذة، تعبّر عن طموحات الناس لا عن مصالح النخب المتغولة.
المصادر
1. Global Witness (2019). ‘The Ones Left Behind: Sudan’s Secret Gold Empire.’
2. International Crisis Group (2022). ‘The Militarization of Sudan’s Economy.’
3. Human Rights Watch (2020). ‘Entrenched Impunity: Gold Mining and the Darfur Conflict.’
4. United Nations Panel of Experts on the Sudan (2020–2023). Reports to the Security Council.
5. BBC Arabic & Al Jazeera Investigations (2021–2023). Coverage of Sudan’s illicit trade and media operations.
6. Radio Dabanga (2015–2023). Reports on drug trafficking and corruption during Al-Ingaz regime.
7. Sudan Tribune (2020). ‘Forex crisis and informal currency trading in Sudan.’
الوسوماقتصاد الظل السودان تحالفات الخفاء تمويل الحرب عمر سيد أحمد