الفكر والثقافة بين الاختراق والتفاعل في واقعنا الراهن
تاريخ النشر: 14th, February 2024 GMT
لا تزال قضية الثقافة والفكر محط النقاش والحوار بين الاستمساك بها، أو الانصهار وقبول ما يسميها بعض المتغربين، بالثقافة العالمية ثقافة التنوير الحديث، ويقصدون بذلك الثقافية الغربية وما تمثله من فكر وقيم، باعتبار أنها الأكثر تسيدًا من حيث إنها ثقافة العلم والتقدم والحداثة بحسب اعتقادهم، وهذه طرحه العديد من المثقفين العرب، ممن تأثروا بالثقافة الغربية، أو الذين تتلمذوا على يد بعض المستشرقين في الجامعات الغربية، أو انبهروا بالمستشرقين الذين جاؤوا إلى البلاد العربية في النصف الأول من القرن الماضي قبل الحملة الاستعمارية، ومنهم العديد من المفكرين، ومن هؤلاء الدكتور عبد الله العروي، وجورج طرابيشي، وإلى حد ما الدكتور محمد أركون، وفي المقابل هناك العديد من المفكرين العرب البارزين في الساحة الفكرية العربية في الثلاثة العقود الماضية، ممن يخالفون هذا الفكر التغريبي، ويعتبرون أن الاختراق الثقافي والفكري حقيقة واقعة في حياتنا المعاصرة لا جدال في صحته، ومن هؤلاء الدكتور حسن حنفي، والدكتور محمد عابد الجابري، والدكتور محمد عمارة وغيرهم، وكتبوا في ذلك مؤلفات أو دراسات عن مسألة الاختراق الفكري والثقافي، ولا شك أن المسألة لا تتعلق بالحديث عن العرب والمسلمين، بل إن دولاً في أوروبا وفي آسيا وفي إفريقيا، تتحدث عن مخاطر الاختراق الثقافي والفكري لبلادهم، والمقصد منها تجفيف منابع الفكر الذاتي، وإلحاقهم بالغرب ليصبحوا تابعين له في ثقافته، وهذا هدف من أهداف الاستعمار، منذ أن غزى الكثير من الدول وفي أغلب القارات، واستعمل كل الوسائل لتذويب الثقافات وحصارها في مجال التعليم، في المؤسسات التربوية والجامعات والمؤسسات الثقافية، ومنها العالم العربي، وقد أشرت في بعض ما كتبت إلى ما جرى في الوطن العربي من محاولات الاستعمار في الاختراق، في دول مثل مصر والجزائر والمغرب والعراق والشام.
وهذا التحرك كان ولا يزال ينشط من خلال طرق وأساليب عديدة منها التقنيات الحديثة، من خلال بعض من أصبح يتحدث بما يقوله الغرب ويتفق معه فكريًا بل ويركز على غرس هذه الثقافة بحيث تكون هي المقياس للعلم والتمدن والرقي، وهذه نتيجة التأثر بهذه الأفكار التغريبية، ويقولون هذا الرأي وفق ما يقوله الغربيون بأن لا فائدة من البقاء على ثقافة أمتكم؛ لأنها ثقافة التخلف والتراجع، مع أن في الغرب الكثير من الغربيين ـ خاصة النخب المثقفة المنصفة ـ الذين درسوا التاريخ الفكري والثقافي للعرب والمسلمين، وتتحدثوا بإكبار وتقدير عما أسهمت به الحضارة العربية/ الإسلامية في نهضة الغرب نفسه في أوج ازدهارها الفكري والعلمي والأدبي، خاصة بعد الحروب الصليبية، والتي أبقت الغرب عدة عقود في الوطن العربي، خاصة في الشام والقدس بالأخص، فاطلعوا على العلوم المختلفة في وقت نهضتها، فأخذوا منها وأضافوا إليها، وهذه من طرق ووسائل كل الحضارات الإنسانية، أنها تأخذ وتعطي، والحضارة العربية/ الإسلامية، أخذت بعض المناهج والمعارف من الحضارات التي سبقتها، وأضافت إليها، وهذا لا يعني أنها تتخلى عن فكرها وثقافتها وقيمها، وهذا ما فعله الغرب نفسه عندما استفاد من الحضارة العربية/ الإسلامية، لكنه توقف عن أخذ الفكر والثقافة، وأخذ الطرق والوسائل والمناهج العلمية للتقدم في المعارف المختلفة، وعلينا نحن أن نسلك نفس الطرق التي سار عليها الغرب في نهضته وتقدمه في العلوم والتكنولوجيا.
وأحد الكتاب العرب كما قرأت له في إحدى الصحف العربية، انتقد قبل سنوات كتابات بعض الباحثين والكتاب عن الاختراق الفكري، ويرى أن البعض يحذرنا من الغزو الثقافي مخافة أن «نتأثر من ثقافة الغرب، على أساس أن لأمتنا حضارة تخصها وتراثا قائما بذاته، يجب علينا أن نحافظ عليه ونبعثه إلى الحياة من جديد حتى يملأ كل ساحات عقولنا، فلا يترك فيها فراغًا يلقي فيه الغربيون ثقافتهم وحصيلة حضارتهم، فيشوهون فكرنا ويلوثون سلوكنا ويعطلون تقدمنا». مضيفا في فقرة أخرى «إن دعاة فكر الغزو الثقافي ليسوا سوى حراس على حدود تخلفنا الحضاري يذودون عنا حصيلة حضارة الغرب المتقدم وثقافته، ويحفرون حول عقولنا خنادق التحذير والتخويف». فهل صحيح ما قاله هذا المثقف والسياسي؟ وأنه لا يعرف أن هناك كلامًا عن الغزو الثقافي يتحدث عنه المفكرون والسياسيون، ويستنهضون تراثهم للدفاع عنه من خارجها؟. وهذا الاختراق الذي أصبح حديث الساعة منذ عدة عقود أو يزيد، وهي قضية لا تزال تتوقد ليس على المستوى السياسي والاقتصادي، بل على المستوى الفكري والثقافي والفلسفي.. فتعالوا نقرأ لبعض الكتاب الفرنسيين حول الغزو الثقافي الأمريكي لفرنسا، وأوروبا مع ضآلة الاختلاف الفكري والعقدي بينهما لكونهما ينتميان إلى حضارة وثقافة واحدة.
الشاعر الفرنسي البارز (اندريه فيلتير) قال في هذا الصدد: (إن أية ثقافة أو لغة تتعرض للانقراض أو تهدد بالزوال هي خسارة للبشرية وللإرث البشري ذلك وأن وعي البشر يتشكل من خلال المعطيات اللغوية أولا. من هنا اختلاف الوعي البشري وتنوعه الذي هو مصدر غني للبشرية).
لم تكن عبارات هذا الشاعر التي تنطلق بالمرارة والأسف من مستقبل الهيمنة والاكتساح الثقافي على أوروبا وتدمير الوعي الفكري والتحذير منه، بل تعدى ذلك إلى الغضب والاستنكار من هذا الغزو الثقافي الجديد الذي تقوم به الولايات المتحدة لأوروبا «نعم هناك إمبريالية ثقافية أمريكية.. طبعًا هذه الإمبريالية اقتصادية وسياسية.. لكن ما يهمنا هو الميدان الثقافي، ولا سيما أن الهدف الذي يدور حوله الصراع في العقد الأخير من هذا القرن فإما أن يدجن العالم ويخضع لمعايير الثقافة الأمريكية.. وإما أن تظهر فيه وتتشكل مراكز مقاومة ثقافية تتيح أن تتمحور حول ثقافات وحضارات مناهضة للثقافة الأمريكية المهيمنة». فلماذا يعتقد البعض أن حديثنا وتحذيرنا أوهام وتخلف عن العصر؟. واستنكار الغرب وتحذيره من نفسه وأقرانه تجاه السيطرة الثقافية، لا يجد المعايير التي يسوقها البعض كتبريرات مخالفة لتلك الأفكار؟.
كما أن ليس البديل للاختراق الثقافي والاستلاب الحضاري، هو الانغلاق عن كل جديد؛ لأنه من غير الممكن وليس البديل من جهة ثانية الاستسلام والذوبان في الآخر، كما يطالب بعض المتغربين. ويرى المفكر الجزائري مالك بن نبي: «أن مقاييس الذاتية التي تتمثل في قولنا (هذا جميل) و (ذاك قبيح)، هذه المقاييس هي التي تحدد سلوكنا الاجتماعي في عمومه كما تحدد موقفنا أمام المشكلات قبل أن تتدخل عقولنا. إنها تحدد دور العقل ذاته إلى درجة معينة وهي مع ذلك درجة كافية تسمح لنا بتمييز فاعليته الاجتماعية في مجتمع معين بالنسبة لمجتمع آخر. وهذا يفسر لنا الفروق العامة المنطبعة في أسلوب الحياة في مجتمعين مختلفين تفصل بينهما حدود ثقافية حتى لو كانا يتعايشان في مكان واحد وبذلك نستطيع أن نعلم (شيئا) ما قد يموت بصورة ما إذا ما قطع وسطه الثقافي المعتاد إذ أن لغته خارج هذا الإطار تفقد معناها»، ألم يقل لنا بعض المثقفين العرب أن الانفتاح والتلاقح والتواصل، هو سر الإبداع والتطوير والتقدم؟ لماذا تخاف فرنسا من الغزو الثقافي ومن منظمة التجارة العالمية (الجات)؟ نريد أن نعرف هذا السر الذي لا نجد له تبريرًا منطقيًا، والأغرب أننا في المقابل الآخر عندما نردد نفس المعايير التي تطلقها الدول الأخرى، نجد الاستنكار والسخرية والتحقير من هؤلاء، لماذا يستنكرون عبارة (التمايز ـ الخصوصية ـ الهوية)، عندما تقال في وطننا العربي والإسلامي؟ ويجد المسوغات التبريرية عند هؤلاء عندما تطلقها فرنسا مثلا! والذاتية الثقافية لا تعني على الإطلاق العزلة والانطواء، بل إنه سلوك محمود في التميز عن الآخرين وثقافاتهم كأسلوب للعيش وصياغة النموذج الخاص الذي تعرفه الشعوب والحضارات الإنسانية منذ فجر التاريخ، فهل نحن أكثر قدرة وحصانة من فرنسا عندما تدق ناقوس الخطر من خلال بعض المفكرين والأدباء والسياسيين الذين تحدثوا بشجاعة عن الغزو الأمريكي لبلادهم؟!
لكن هناك وعيًا بذلك الخطر ودلالاته المستقبلية، ونحن نعتبر مسألة الاختراق الثقافي حقيقة جلية في هذا العصر، عصر الثورة المعلوماتية والاتصال الرهيب، ولكن المواجهة وعدم القبول بكل ما يفد إلينا، ليس بالتقوقع والانعزال بل بالفرز والانتقاء والاستعداد والتكيف مع الواقع والدعوة إلى الخصوصية الحضارية والتمايز الثقافي والفكري، مع الانفتاح على الآخر والتفاعل مع الجديد المفيد، بما لا يجعلنا متلقين سلبيين، بل علينا استغلال الفرص المتاحة بما ينعكس على قضايانا المختلفة، والتفاعل مع كل جديد في هذا العصر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الغزو الثقافی من خلال
إقرأ أيضاً:
ليبيا تحت صفيح ساخن: بعد مقتل الككلي وعودة شبح داعش!!
منذ سقوط نظام العقيد معمر القذافي في 2011، لم تهدأ نيران الفوضى في ليبيا، بل ازدادت اشتعالًا مع كل محطة انتقالية لم تكتمل، وكل محاولة فاشلة لبناء دولة مؤسسات، وانقسام سياسي وعسكري مزمن.
واليوم، تعود العاصمة طرابلس إلى واجهة العنف من جديد، بعد مقتل عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، قائد "جهاز دعم الاستقرار"، في ظروف غامضة فجّرت اشتباكات عنيفة في قلب العاصمة.
مقتل الككلي.. رصاصة في قلب المليشيات.. .؟
عبد الغني الككلي لم يكن مجرد قائد ميليشيا محلية، بل أحد أبرز رموز مرحلة ما بعد القذافي، ومن اللاعبين الرئيسيين في غرب ليبيا، خاصة في طرابلس. كان رأس حربة في شبكة التحالفات التي نسجتها حكومات متعاقبة مع الجماعات المسلحة، بحثًا عن السيطرة مقابل الشرعية. وفاته لم تكن مجرد خسارة لرجل، بل اهتزاز لتوازن هشّ يقوم على توزيع الغنائم لا على بناء الوطن.
الاشتباكات التي اندلعت فور إعلان مقتله، وامتدت إلى مناطق متفرقة، أبرزها صلاح الدين والهضبة، تشير إلى أن الانقسام لم يعد سياسيًا فقط، بل بات اجتماعيًا وقبليًا وأمنيًا متشابكًا، مع غياب الدولة المركزية وانهيار الثقة الشعبية.
داعش يطل برأسه من جديد..
وسط هذه الفوضى، تؤكد مصادر أمنية محلية ودولية تصاعد مؤشرات وجود عناصر تابعة لتنظيم "داعش"، سواء في جنوب ليبيا أو عبر تسربهم إلى الفراغات الأمنية في الغرب.
فشل الحكومة في توحيد الأجهزة الأمنية، وتضارب المصالح الإقليمية، سمح للتنظيمات المتطرفة بإعادة التموضع، مستفيدة من انشغال الفرقاء بصراعات النفوذ.
في الأيام الأخيرة، تم رصد تحركات مريبة لعناصر تحمل فكر التنظيم في مناطق جبلية جنوب غرب البلاد، وسط تحذيرات من عودة الهجمات الانتحارية، لا سيما في ظل تساهل بعض المجموعات المسلحة في تمرير عناصر إرهابية مقابل المال أو التحالفات المؤقتة.
(من هو عبد الغني الككلي.. ؟ ولماذا يشكل مقتله نقطة تحول.. ؟
وُلد الككلي في أحد أحياء طرابلس، وبزغ نجمه مع بداية الانتفاضة ضد القذافي، حيث أصبح لاحقًا من أبرز القادة الميدانيين الذين حجزوا لأنفسهم موقعًا في الخارطة العسكرية الجديدة. قاد "كتيبة الأمن المركزي" التي تطورت إلى "جهاز دعم الاستقرار"، وهو جهاز أمني بمسميات رسمية لكنّه في الواقع ظل أداة من أدوات التوازن الميليشياوي.
امتاز الككلي بأسلوب مزدوج: خليط من الشراسة الميدانية والمرونة السياسية، حيث لعب دور الوسيط أحيانًا، والمهيمن في أحيان أخرى. ارتبط اسمه بتهم تعذيب واعتقالات خارج القانون، لكنّه ظل محصنًا تحت مظلة الدولة الضعيفة التي احتاجت إليه أكثر مما خافت منه. اغتياله، إن ثبتت فرضية الاغتيال، قد يُفهم كرسالة لتصفية مراكز القوى القديمة في سبيل إعادة تشكيل سلطة جديدة، أو على الأقل إعادة ترتيب أوراق الغرب الليبي.
البعد الإقليمي: ساحة لتصفية الحسابات، ،
ليبيا لم تكن يومًا شأنًا داخليًا صرفًا منذ 2011، بل تحولت إلى رقعة شطرنج إقليمية ودولية. إذ دعمت تركيا حكومة طرابلس ومليشياتها في الغرب، فيما وقفت الإمارات ومصر إلى جانب قوات حفتر في الشرق، وتورّطت فرنسا وروسيا في اللعب خلف الستار. ومع توغل النفوذ القطري سابقًا، وعودة السعودية إلى التأثير مؤخرًا عبر القنوات الدبلوماسية، بات لكل طرف إقليمي "أوراق ضغط" داخل ليبيا.
أما مقتل الككلي، فيأتي في لحظة حساسة إقليميًا، إذ تشهد علاقات أنقرة وأبوظبي تقاربًا هشًا، ومحاولة لإعادة رسم النفوذ في الساحل الشمالي الأفريقي. من هنا، فإن غياب الككلي قد يخدم ترتيبات جديدة لتوزيع أدوار الميليشيات، أو إعادة دمجها ضمن رؤية دولية لتفكيكها تدريجيًا، خاصة بعد فشل مسارات الحوار السابقة.
ويبقى السؤال معلقًا: هل ما يحدث اليوم هو مخاض لولادة دولة بعد طول غياب.. ؟ أم بداية لمرحلة أكثر تعقيدًا تقود نحو التشظي الكامل.. ؟ ما بين الغياب السياسي وعودة أشباح الإرهاب، تبقى ليبيا تئن تحت صفيح ساخن، واللبن المسكوب بعد القذافي لم يجف بعد.، ، !!محمد سعد عبد اللطيف
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية، !!
[email protected]