في مقالي السابق حاولت البرهنة على أن التعليم والثقافة هما الطريق الذي يؤدي إلى إمكان قيام أية نهضة حقيقية لدولة ما؛ بحيث يصبح لها مكان في مصاف الدول المتقدمة. وفي مقالي هذا أحاول رسم الخطوط العريضة أو الملامح الرئيسة التي تبين معالم هذا الطريق، ولنبدأ بتناول خارطة التعليم. وبطبيعة الحال؛ هناك دراسات ومقالات لا حصر لها حول إصلاح التعليم في العالم العربي قام بها كثير من المفكرين المهتمين بالشأن العام وبأسئلة النهضة، فضلًا عن أساتذة متخصصين في شؤون التعليم يعكفون على الدوام على البحث في تطوير مناهج وطرق التعليم.

ولكن أغلب هذه الدراسات قد غرقت في أمور تتعلق بتفاصيل عديدة متغيرة ومتضاربة على الدوام، دونما التفات إلى الشروط الأولية لنهضة التعليم الذي لم يتطور كثيرًا منذ نشأته الحديثة في العالم العربي، بل إنه قد تدهور في بعض البلدان التي لها تاريخ طويل من هذا المسار. ولذلك؛ فسوف أحاول هنا أن أتناول ببساطة بعضًا من هذه الشروط التي هي بمثابة معالم لخارطة الطريق.

أول معالم التعليم الجيد أو المتطور أن يكون تعليمًا ليبراليًّا؛ أعني أن يكون تعليمًا حرًّا مستقلًا عن أية سلطة، سواء كانت سلطة سياسية أو دينية، حتى إذا كان التعليم يتعلق بعلوم الدين؛ لأن علوم الدين نفسها ينبغي أن تخضع لمناهج البحث المعاصرة في العلوم الإنسانية، وعلى رأسها التأويل! ووفقًا لمدى تحقق شرط ليبرالية التعليم يمكننا أن نحكم على مدى تطور التعليم؛ فتحقق هذا الشرط يبقى شاهدًا على تطور التعليم في كل عصر.

ولذلك نجد أن التعليم كان متطورًا في الحضارة اليونانية القديمة في فترة تألق الديمقراطية الأثينية بوجه خاص، وشيوع الفكر والتعليم الحر. والحقيقة أن التعليم الليبرالي كان يُقال دائمًا في مقابل التعليم المهني الذي يهدف إلى إعداد حرفيين في مختلف المجالات . وعلى الرغم من أهمية هذا المجال الأخير فيما يتعلق ببناء الدولة؛ فإن التعليم الليبرالي يظل هو مجال الإبداع على الأصعدة المعرفية كافة؛ لأنه يؤكد على الفردانية، وتعزيز إنتاج رؤى خاصة بالمرء، والتحرر من الأيديولوجيات في توجيه المعرفة ومن النزعات الدوجماطيقية (أو الإيقانية) ضيقة الأفق.

المَعلَم الثاني للطريق أو المسار هو اتباع طرق ومناهج التعليم المتطور في عالمنا الراهن؛ فبدلًا من التخبط يمينًا ويسارًا كل فترة في أثناء البحث عن مسار، يمكننا ببساطة اتباع برامج التعليم المتطورة في أفضل الجامعات المرموقة عالميًّا ،وهنا ينبغي أن نلاحظ أن هذه الجامعات ليست على مستوى واحد في كل المجالات، بل إن جامعات بعينها تُعد هي الأفضل في مجالات بعينها. وربما يُقَال هنا إن برامج التعليم لا ينبغي استيرادها؛ لأن التعليم مرتبط بالهوية! ولكن هذا القول غافل عن أن مناهج البحث في العلوم لا وطنَ لها، فعلى الرغم من أنها تنشأ في وطن ما، إلا أنها سرعان ما تستوطن مواطن أخرى، وهذا يصدق على العلوم الطبيعية مثلما يصدق على العلوم الإنسانية.

وفضلًا عن ذلك؛ فإن اتباع برامج ومناهج التعليم المتطورة في عالمنا لا يتعارض مع دعم البرامج الدراسية بالمجالات المعرفية التي تسهم في تأكيد الهوية كدراسة تاريخ الوطن وتراثه، بل إن التعليم الليبرالي يؤكد على تعزيز قيم المرء وثقافته مع احترام الثقافات المغايرة. لكن الأهم من ذلك أن نلاحظ تطوير التعليم العالي والبحث العلمي وفقًا لهذا المسار؛ هو أمر يتطلب اتخاذ هذا المسار نفسه في مراحل التعليم الأدنى.

المَعلَم الثالث للطريق هو أن الطريق لا يسير في اتجاه واحد، وإنما في اتجاهين: أعني أن المسار السابق الذي يتجه إلى استيراد برامج وطرق التعليم ينبغي أن يكون في مقابله مسار آخر في الاتجاه المعاكس، وهو المسار الذي يتوجه نحو إيفاد الدارسين للتعلم في الجامعات والمعاهد المرموقة حول العالم؛ لأن هذا يؤدي إلى تأسيس أجيال من العلماء والأساتذة القادرين على الإبداع في العلم وسائر المعارف في بلدانهم الأصلية.

وليس هذا بالأمر الثانوي في نهضة التعليم، ومن ثم في نهضة الدول، بل إنه أمر أساسي لا غنى عنه. ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد نهضة التعليم الحديث في مصر على يد محمد علي الذي قام بإيفاد البعثات الدراسية إلى أعرق الجامعات الأوروبية في مختلف العلوم والمعارف الإنسانية -بجانب تأسيس جيش قوي-. وقد عاد الدارسون ليؤسسوا مدارس (أي كليات) متخصصة في مختلف المجالات العلمية وغير العلمية، وليشيعوا روح الفكر والتعليم الليبرالي.

وكان من نتائج ذلك أن نشأت حركة نهضة قوية في مصر دامت حتى نهاية النصف الأول من القرن الفائت، حتى إن اليابانيين أنفسهم قد أتوا إلى مصر؛ للتعرف على تجربة النهضة في عصر محمد علي! ولكن التعليم تدهور تدريجيًّا بعد ذلك، وتقلص إلى أبعد حد إيفاد البعثات الدراسية إلى الخارج. ولنا في التاريخ عِبَر.

وبوجه عام يمكن القول إن التعليم في معظم بلدان العالم العربي لا يزال غير قادر على الاستفادة الحقيقية من برامج وطرق التعليم المتطورة، ولا يزال غارقًا في مفهوم التعليم الحرفي أو التقني، وفي تفاصيل جزئية هائلة عن جودة التعليم التي تُعنى بالتتبع الإحصائي لمدى الوفاء بمتطلبات شكلية، دونما اهتمام بأهداف التعليم واستراتيجياته، وشروطه أو أولوياته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: أن التعلیم

إقرأ أيضاً:

جامعة جازان.. من التعليم إلى التمكين الصحي في ضوء رؤية 2030

تبرز جامعة جازان كمنارة للعلم والمعرفة، مسترشدة برؤية المملكة 2030 الواضحة والطموحة، وبخاصة برنامج تنمية القدرات البشرية وبرنامج جودة الحياة بدعم مستمر من القيادة الرشيدة – حفظها الله - ومتابعة دؤوبة من سمو أمير منطقة جازان وسمو نائبه، لتقف الجامعة بمبانيها الحديثة دليلًا على نهضة تعليمية وصحية تسهم بشكل مباشر في تحسين جودة الحياة، عبر مشاريع طبية وأكاديمية تخدم الإنسان أولًا لتبقى الجامعة رمزًا للتميز والعطاء المعرفي والإنساني.

30 ألف مراجع لطب الأسنان

يُعد مبنى كلية ومستشفى طب الأسنان الجديد شاهدًا على الازدهار المستمر للجامعة يضم المبنى أكثر من 200  عيادة مزودة بأحدث التقنيات، لتغطي مختلف تخصصات طب الفم والأسنان. يشرف على هذه العيادات نخبة من الأكاديميين والاستشاريين وأطباء الامتياز، ويستقبل المستشفى أكثر من 30  ألف مراجع سنويًا، ويدرب أكثر من  300 طالب وطالبة بفضل هذا التميز، حصل البرنامج الأكاديمي على الاعتماد الكامل.

50 ألف مستفيد

لقد حقق أطباء الامتياز في الكلية نسبة نجاح بلغت  92% في اختبار الرخصة المهنية، مع قبول عدد كبير من الخريجين في برامج البورد السعودي، مما يرسخ دور الجامعة في إعداد قادة المستقبل في طب الأسنان والقطاع الصحي بشكل عام. كما تطلق الكلية قوافلها الطبية لتصل خدماتها التوعوية والعلاجية المجانية لأكثر من 50 ألف مستفيد في المنطقة سنويًا.

مواكبة التحولات

يمثل مبنى كلية التمريض والعلوم الصحية الجديد نقلة نوعية في تطوير البرامج الأكاديمية والبحثية. تقدم الكلية حاليًا 13  برنامجًا أكاديميًا، منها برنامجان في مرحلة الماجستير، و10 برامج في مرحلة البكالوريوس، بالإضافة إلى برامج الدبلوم بتخصصات تغطي مجالًا واسعًا من التخصصات الصحية التي تلبي احتياجات سوق العمل وتواكب التحولات الوطنية والاحتياج المتزايد في الرعاية الصحية.

كفاءة المخرجات

واستجابة لأولويات المرحلة، تم رفع الطاقة الاستيعابية في برنامج التمريض ليكون من بين الأعلى على مستوى المملكة، مساهمة مباشرة في سد الاحتياج من الكوادر التمريضية المؤهلة، وقد حصلت  6 من برامج الكلية على الاعتماد الكامل؛ مما يعكس جودة المناهج وكفاءة المخرجات وتميز طلبة الكلية في تحقيق نسب نجاح عالية في اختبارات هيئة التخصصات الصحية المهنية.

الخبرة والاحترافية

على صعيد البحث العلمي، تميزت كلية التمريض والعلوم الصحية بمخرجات بحثية نوعية، تُنشر في مجلات علمية مرموقة عالميًا، وتتركز على القضايا الصحية ذات الأولوية في المنطقة والوطن بشكل عام. كما يتميز الكادر الأكاديمي في الكلية بكفاءات علمية متقدمة، حيث يجمع الأعضاء بين الخبرة والاحترافية، ويشارك عدد منهم في لجان وطنية وهيئات علمية، ليسهموا في رسم السياسات الصحية والتعليمية على مستوى المملكة. وتساهم كلية التمريض والعلوم الصحية بدور فاعل في تعزيز الأعمال التطوعية، ويشارك طلابها ومنسوبوها باستمرار في الحملات الصحية الميدانية داخل المنطقة وخارجها.

الطب الحديث

بتدشين عيادات جراحة اليوم الواحد في المستشفى الجامعي، تتعزز لدى الجامعة رؤية متكاملة للمستشفى الذي لم يكن مشروعًا إنشائيًا فقط، بل يهدف إلى توفير رعاية صحية عالية الجودة تلبي تطلعات القيادة الرشيدة. يشمل ذلك إدخال تقنيات الجراحة الروبوتية والمناظير المتقدمة، في توجه نحو مستقبل الطب الحديث والتحكم الدقيق الذي يفوق القدرات البشرية التقليدية ويقلل من فترة التعافي ويرتقي بمستوى الرعاية الصحية.

تشغيل فعال

وعبر ثلاث مراحل لإنشاء المستشفى الجامعي، تضمنت تطوير أقسام النساء والأطفال، ومحطة الغلايات، ووحدة المعالجة، تبع ذلك مرحلة التجهيزات الطبية التي نفذت بأعلى المعايير العالمية لضمان تشغيل فعال "من اللحظة الأولى" في قسم العيادات الخارجية والصيدلية والتأهيل الطبي والعلاج الطبيعي والرعاية العاجلة وقسم الأشعة.

25 ألف مراجع

في عام 2024، استفاد من خدمات المستشفى أكثر من 25  ألف مراجع، وتم إجراء أكثر من  149 ألف فحص مخبري، وصرف ما يقرب من 9,600  وصفة طبية. بتوجيهات مباشرة من سعادة رئيس الجامعة، يواصل المستشفى عطاءه باستقبال آلاف المستفيدين، ليصبح المستشفى الجامعي أحد أركان الرعاية الصحية الوطنية، ويجسد التزام الدولة برفع كفاءة القطاع الصحي.

جودة الحياة

وختامًا فإن جامعة جازان لا تكتفي بتأهيل الطلاب أكاديميًا، بل تسهم فعليًا في تحسين جودة الحياة للمجتمع، من خلال برامج صحية وتوعوية، كمركز رائد في التعليم والبحث العلمي والخدمات الصحية، وتحقق أولويات القيادة في اهتمامها بالإنسان كمواطن وركيزة التنمية الأساسية وتوفير جودة الحياة له.

جامعة جازانأخبار السعوديةآخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • جامعة جازان.. من التعليم إلى التمكين الصحي في ضوء رؤية 2030
  • من التحدي إلى الفرصة.. خارطة طريق لتطوير تعليم العربية في الجامعات البنغلاديشية
  • جامعة الباحة تستحدث برامج ماجستير ودبلوم في تخصصات نوعية
  • مدبولي: أهمية صياغة خارطة طريق لتعزيز نفاذ الدول النامية للتمويل الميسر ومنخفض التكلفة
  • ستيفاني تبحث مع الصغير ضرورة صياغة خارطة طريق لعملية سياسية يقودها الليبيون
  • خوري تبحث مع النائب «الهادي الصغير» سبل دفع العملية السياسية وصياغة خارطة طريق
  • تقرير اقتصادي يسعرض أبرز التحولات التي طرأت على خارطة التمويل الدولي لليمن ويحذر من تبعات تقليص الدعم الخارجي
  • المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية في إشبيلية.. خارطة طريق ومسارات جديدة
  • طريق الطائف السياحي.. رحلة الأسبوع الواحد