د. عبدالله الغذامي يكتب: نحن والتراث
تاريخ النشر: 17th, February 2024 GMT
لعل أبرز حضور لجملة «نحن والتراث» هي في عنوان كتاب محمد عابد الجابري، وهو الكتاب الذي صدر عام 1980، وفيه طرح الجابري معالم منهجيته العلمية التي رسمت خطه المنهجي في كل عمل أنتجه بعد ذلك الكتاب.
وفي هذا الكتاب تحرر الجابري من خطاب السياحة الفكرية كما كان كتابه السابق الذي كان بمثابة بيان ثقافي عن حال الثقافة العربية يومذاك وقد جاء كتابه «نحن والتراث» ليتخلص الجابري من الأكاديمية البحتة ويدخل في العلمية المعرفية.
وهذا هو المجاز الثقافي لمفهوم المنهجية، أي أنها عهدٌ وتعهد بين طرف وأطراف، وهو طرف واحد بعقلية يبرهن عليها الكتاب أو يكشفها، بينما الأطراف ليست محددة ومن ثم فهي غير مكشوفة، ولهذا نجد الاختلافات حول أي مؤلف منهجي، لأن العقول بمطلقها ليست منضبطةً منهجياً وبعضها لا يتحمل المنهجية ويؤثر الحرية والانسيابية الفكرية، وهذه صفة تشيع بين عموم القراء الذين يميلون للمتعة أكثر من ميلهم للجدلية تبعاً للدربة الطويلة على القراءات المؤسسية التي تغلب على التعليم بعامة، مما يجعل وظيفة الكتاب هي الحصول على النجاح في حين أن الكتب غير المدرسية لا تضمن النجاح بل تفتح أبواب الشغب الذهني، وتتعمد ذلك في كثير من الأحيان.
ورغم أن المنهج في أصله هو انضباط وضبط ذهني لكنه يؤول دوماً لجدلية تحتمها المقارنة بين المقدمات والنتائج وهذه جدلية تغري بمواجهة مقولات المؤلف وتحولها من نظام القبول والتسليم إلى فضاء الاختلاف وتنوع الرؤى، وهذا ما جعل الجابري واحداً من أكثر الباحثين العرب جدليةً (طبعاً بعد طه حسين)، والخلاف معه وحوله يفوق كل فرص التوافق عليه، وهذه مزية من المزايا النادرة التي تقع في عالم المعرفة، ومن بلغها من أهل الفكر فهو الاسم الذي يظل موضع خصام دائم كما هو ظن المتنبي في نفسه وشعره، وهو الظن الذي تحقق عملياً مذ أصبح مغروساً في تموجات قوله (ويسهر الخلق جرّاها ويختصم)، ومن هنا فإن جملة الجابري «نحن والتراث» تحولت بحق لتكون الجدلية التي رسمها هو بنفسه ولنفسه وظل ويظل الجابري واحداً من مجموعة الجدل الأهم عربياً.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي التراث
إقرأ أيضاً:
هيئة الكتاب تصدر الأعمال الشعرية للشاعر محمد الههياوي
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، برئاسة الدكتور أحمد بهي الدين، كتابًا توثيقيًا هامًا بعنوان "محمد الههياوي: الأعمال الشعرية"، وهو عمل يجمع ويحقق تراث الشاعر الكبير محمد الههياوي، قام على جمعه ودراسته وتحقيقه الدكتور نبيل بهجت، وقدّمه الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح. يقع الكتاب في نحو 600 صفحة، ويضم ما كتبه الههياوي من قصائد، خاصة ما نُشر منها في مجلة "الكشكول" ما بين عامي 1928 و1939، في باب الشعر السياسي الساخر، بالإضافة إلى نماذج شعرية في موضوعات متنوعة، وردود بعض الشعراء عليه.
يكشف الكتاب عن صفحة مجهولة من تاريخ الأدب والسياسة في مصر، في زمن اشتدّ فيه الصراع الحزبي، وانقسمت فيه الساحة ما بين الليبرالية المبكرة ونزعات الاحتلال والتبعية. وقد اتّسم شعر الههياوي بالسخرية اللاذعة والفكاهة المقاومة، وكرّس إبداعه للدفاع عن قيم الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية، ما جعله عرضة للملاحقة، وكاد يُنفذ بحقه حكم بالسجن لولا العفو.
وُلد محمد مصطفى محمد سيد أحمد الههياوي في مركز ههيا بمحافظة الشرقية عام 1883، وتوفي في القاهرة عام 1943. كان والده من علماء الأزهر، وقد احترف الههياوي الصحافة، فعمل في جريدة "وادي النيل"، وأسس صحيفة "المنبر" عام 1906، ورأس تحرير عدة صحف، وشارك في تحرير عدد من الجرائد الكبرى مثل "الأهرام"، و"مصر الفتاة"، و"البلاغ"، و"السياسة"، و"الكشكول".
تميّزت كتاباته بالتنوّع، من السياسة إلى الأدب والفكاهة، وكان له حضور بارز في المجلات الساخرة، وكتب باسم مستعار "الشاعر إياه"، متخذًا من الغموض حجابًا للحماية من الملاحقة. ومن أبرز ابتكاراته الرمزية، شخصية "إياه"، التي أصبحت لسانًا للنقد والسخرية، ومن خلالها أبدع في انتقاد مظاهر التواطؤ والفساد مستخدمًا الترميز والمراوغة الفنية والراوي الشارح.
تناولت قصائده قضايا ساخنة مثل الاحتلال، السيادة، الجلاء، الانتخابات، وأزمات الشعب، مسجلاً بكلماته مواقفًا وطنية كانت بمثابة تعليق مباشر على الواقع. كما قدّم نظرية في الشعر من خلال كتابه "الطبع والصنعة"، رافعًا شعار تحرير الشعر من الانعزال ليكون أداة لتحريك الجماهير. وقسّم الشعر إلى "شعر الفطرة"، و"شعر الصنعة"، و"الشعر الساقط من الحساب"، معتبرًا أن الشعر الصادق ينبع من الذات الحرة لا من التكلف والتصنّع.
وتجلّت الفكاهة في أدبه كأداة إصلاح ومقاومة، ووسيلة لإيقاظ الوعي الجمعي. لقد شكّل الههياوي بنصوصه الساخرة مدرسة كاملة في الإبداع النقدي، ومثّل نموذجًا فريدًا للشاعر المسؤول، الذي تجاوز الزمان والمكان، ليظل صوتًا حيًا في مواجهة الظلم والاستعمار، ودعوة مفتوحة نحو الحرية والاستقلال، وبناء العقل النقدي في كل عصر.