لجريدة عمان:
2025-05-14@11:57:41 GMT

السـياسـي في «طـوفـان الأقـصى»

تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT

إذا لـم تـكن عمليـة «طـوفـان الأقصـى» في السابـع من أكتـوبر 2023 قـد فعلـت شيئا سياسيا سوى إعادة القـضيـة الوطنـيـة الفلسطيـنيـة إلى قـلب السياسات الـدوليـة، وإلى الوجدان الإنساني العالمي، فـقـد فعـلت كل شيء في السياسـة بـل أكـثر مما فعلـته حتى منظـمة التحرير الفلسطينيـة نفسها منذ انطلاقة الثورة في العام 1965 إلى مـهـلكة «أوسـلو» في العام 1993 ،وطبـعا، أكـثـر بكـثـير ممـا استطاعتـه دول العـرب والمسلمين مجتمعة.

وهذا إنـما هو قريـنة على أن السـياسي في «طـوفـان الأقصـى» ليس دون العسكـري فيه نجـاعـة وحصـادا، وأن إهـمالـه والانصـراف إلى الوجـه الـقـتالي منه وحـده، أو تركيز الاهتمام به أكثـر من المستوى السياسي فيه، مسـلـك في النظـر والتـقـدير يبـدد رصيـدا كـبيرا من الموارد التي لا سبيل إلى إحسان تحليل عـملية الطـوفان وبناء استـنـتاجات حـولها إلا باستـدخالها في حساب التـقـديـر ذاك.

نعـم، لسـنا نـنفي ما كان للأداء الـقـتالي الرفيـع للمقاومـة -ومن غيـر إخـلال منها بـقواعـد الحـرب المنصوص عليها في الـقوانيـن الـدوليـة- من الأثـر الكبير في تعظيـم صـورة نضـال الشـعب الفـلسطيـني في الوعـي العالمي، وفي التـفاعـل الإيجابـي مع مطالبـه وحقـوقـه العادلة مـن قـبـل السـواد الأعظـم من شعـوب العالم؛ فعـلى صمـود المقاومـة في حـرب غيـر متـكافـئـة القـوى عسـكريـا انـتصبـت تلك النـتائـج السياسيـة، وعلى سلوك المقاومـة الحضاري مع أسـرى العـدو والمعاملـة الإنسانيـة التي تـلقـوها منها -باعـتـرافـهم- أمكـن لتلك الثـمار السياسيـة أن تـونـع. مع ذلك، لا منـدوحـة عن النـظر في سياسيـات الطـوفان من زاويـة أخرى: من زاوية قـدرته على استـدراج العـدو إلى الإفصـاح الوحشـي عن نازيـتـه، وبالتـالي، إلى إحـداثه الصـدمة في الوعي الغربي من معاينـتها، وإلى دفع الرأي العام في الغـرب والعالم إلى تصحيح الصـورة التي كـونـتـها في وعيـه السـرديـة الصـهيونيـة - الغـربيـة الاستـعماريـة عـن «أبنـاء ضحايا المحرقـة وأحـفادهـم»: الصـورة التي تـغذى منها المشروع الصهـيوني ودولـتـه واتـخـذت درعـا لهما ضد كـل مـن حاول التـشكيك في الروايـة من المفكـرين الغربيـين، وورقـة ابتـزاز دائـم للنـخب السـياسيـة الغـربيـة الحاكمـة والمعارضة لحملها على رفـد دولة الاغـتصاب وإحاطـتها بالحمايـة.

من باب الاستـطراد الضروري أن نقـول هـنا: إن مكاسب فـلسطين السياسيـة على الصعـيد الكـوني، في هذا الطـوفان، ثمرة شراكة غـير معلـنة ولا متـوافـق عليها بين الجلاد والضحـية؛ بمقـدار ما كانت المقاومة حريصة على قـتال جيش الاحتلال، في المقام الأول، بحـرفـيـة عسكريـة (مع ضربات للمـدن في الـداخل الفـلسطيني المحتـل نادرة الخسائر البشريـة)، لم يمنع جيش الاحتلال نـفسـه من الانـتـقام لهـزيمته الشـنـيعة من المدنيـين ومن البنى الأساسية للحياة في غـزة. مائـة ألـف من فلسطيني غـزة راحـوا بين شهيـد ومصاب أكـثـرهم من الأطـفال والنساء. وإلى المـوت حـدث دمار شامل قـصـد إليه لجعـل الحياة في غـزة مستحيلـة؛ حيث لم يُـبْـقِ الجيـش النـازي حـجـرا على حـجـر في القطـاع، ولا شارعا ولا أسـفـلـتا ولا مستـشفـى يملك أن يـسعـف، ولا مدرسة ولا مركـزا للأونروا تملك أن تـؤوي، ولا مطحنة ولا مخبزة ولا محطة وقـود تسـد حاجة... إلخ. وكان على سياسة التـجويع الصـهـيونيـة أن تستـكمل حلـقاتها بمنع قـوافـل المساعدات من الوصول إلى الأهالي الجوعى والمشردين الذين يسكـنون العراء، ثم بفـتح الحرب على الأونروا لقطع شريان الحياة عن أهـل غـزة. لقد كان فريـقـا القـتال: المقاومة والاحتلال، يُعـرِّفان بـنـفسيـهما للعالم، كـلٌ بطريقـته: الأولى بأخلاق الحركات الوطنـيـة التـحرريـة التي تـقاتـل من أجل قضيـة عادلة؛ والثاني بأخلاق القـتـلة والنـازيـين الذين لا قـضيـة لديهم سـوى القـتـل. بهذا المعنى، فـقـد ساهما معا، بأقـساط متـفاوتة، في إنتاج هذه الحالة من التعاطف الكوني مع الشعب الفلسطيني في محنـتـه مع النازيـة الجديدة، ومن المطالبة بتمكيـنه من حقـه في أرضـه واستـقـلاله.

ليس للمقاومة دبلوماسيـة خاصـة؛ لأنها قـوة شعـبيـة وليست دولة، ولكنها أصابت نجاحا كبيرا في الاعـتياض عن الإمكانـيات والأدوات الـدبلوماسيـة بسيـرتها الأخلاقـيـة العالية، مستـفيـدة من نجاح الاحتلال في فضح ما كان يخـفيه من نازية. هكذا خاضت المقاومة - إلى جانب الـقـتال- حرب صـور مع الاحتـلال؛ حربـا تـغـيـت فيها رفـع الأقـنعة عن دولة الاحتلال وجيشـها. ولقـد خرجت منها منـتصرة إلى الـدرجـة التي صار فيها المدافعـون عن دولة الاغـتصاب يخجلون من استخـدام اللازمـة الغـبيـة والحـقيرة عن «حـق إسرائيـل في الـدفاع عن نفسها» ليـتـساءلوا -وإن باحتـشـام- عـمـا إذا كان ما ارتـكبـته هذه الـدولـة من ارتكـابات يفـوق «حـق الـدفـاع عن النـفـس» أو لا ينتمي إليـه بتـاتـا. على أن أضخم هـزائـم الاحتلال السـياسيـة - وبالتـالي أعـظم مكاسب المقاومة وشعبه وقضيـتـه - جـرها إلى العدالة الـدوليـة بتهـمـة ارتكـاب جريمـة الإبادة الجماعيـة، وإقرار المحكمة بمشروعـيـة نظرها في هـذه التـهـمة. وفي لمـح البصر، انـتـقـلت دولة الاغتـصاب والاحتـلال من موقـع المحتـمي من الإدانـة الـدوليـة بالـڤـيـتـو وتحريك أزعـومة «معـاداة السامية» إلى موقع المتـهـم بإبـادة شعب. وفي لمح البصر، ثانيـة، كانت تخـطـئ سـياسيـا في الهجـوم على المحكمة وقـضاتها، وعلى المـدعي (جنوب إفـريـقـيا) نظيـر هـجومها على السـيـد جوتيريش أمين الأمم المتـحدة العام..!

في 6 أكتوبر 2023، كانت قضيـة فـلسطيـن في أسوأ أوضاعها منذ اغـتصابها في العام 1948. كانت قـد خرجت، نـهائـيـا، من السياسة الـدوليـة بوصفها قضيـة وطنيـة لتصبح محض قضيـة سكان مناطـق تقوم عليها سلطة متعاونة مع الاحتلال، يحتاجـون إلى مساعدات دوليـة لتحسين أوضاعهم المعـيشـيـة. هكذا كانت «صـفـقة القـرن»؛ وهكـذا انتهى الصـراع العـربي- الصـهيـوني ليصبح «شـراكة» و«تـعاونـا» ممـكـنين من طريق تفريـخ مشاريع التـطـبيع بين الحكـومات العربيـة والكيان الغاصب. في الأثـنـاء، انطلق عـفـريت الاستـيطـان في الضـفـة الغـربيـة والقـدس من قـمـقـمه من غيـر رادع يـردعـه؛ وبدأ الموتـورون الصـهاينـة يجـهرون بهلوسـاتهم عن هـدم المسجد الأقصـى لإقامـة الهيكـل المزعـوم؛ واستمـرت أجهـزة السلطـة تقـدم السـخـرة لأجهـزة الاحتلال وتزودها بالمعلومات عن خلايا المقاومة في الضـفـة، فيما القـطاع معـزول ومحاصـر من قـبـل دولة الاغتصـاب. كـل شيء كان يبـدو وكأنـه انـتـهى في السادس من أكتـوبر. ثـم جاء اليوم السابـع من الشـهر فـغـيـر كـل شيء، ومـحا حقبـة كاملـة من الهـوان والاستضـعـاف وهضـم الحقوق والتـهميش والتـغيـيـب. وها هي قضيـة فلسطيـن تلعلع اليـوم في الشـوارع والساحـات على امتـداد الكـوكـب. لقـد نجح «طـوفان الأقـصى» في أن يفـتح على المشـروع الصـهيـوني الطـوفان الأقصى.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

لماذا الجهر بالدعاء في الأقصى يخيف إسرائيل؟

مع عمليات التجويع والقتل المنهجية التي تقوم بها إسرائيل في قطاع غزة أمام نظر العالم، وانشغال الرأي العام العالمي بمتابعتها، يعمل الاحتلال على تمرير تصعيده في ملفات أخرى ساخنة في الساحة الفلسطينية دون أن ينتبه العالم لخطورة ما يجري، حتى إذا انتهت الحرب في غزة فوجئنا بواقع جديد في مواقع أخرى بعيدة عن القطاع.

ولعل أبرز المواقع التي يحدث فيها ذلك الآن هو المسجد الأقصى المبارك.

فالاحتلال يعمل دون كلل يوميًا على إدخال تغييرات جوهرية في الوضع القائم في المسجد الأقصى وصناعة واقع جديد على الأرض؛ استغلالًا للصدمة التي ما زال العالم كله – ناهيك عن الشعب الفلسطيني – يعيشها مع مشاهد المجازر الكارثية في غزة.

وآخر هذه الخطوات التي أقدم عليها الاحتلال نهاية شهر أبريل/ نيسان الماضي منع أي ذكر لاسم (غزة) في المسجد الأقصى سواء في خطب الجمعة أو الدعاء أو غيرها، وهو ما ينبئ بتقدم الاحتلال نحو كارثة قادمة على جميع المستويات في المسجد الأقصى.

يأتي هذا الأمر ضمن خطوات متصاعدة مضى بها الاحتلال بشكل متدرج خلال العشرين عامًا الماضية، وتصاعدت بشكل حاد جدًا خلال العامين الأخيرين، حيث رسخت سلطات الاحتلال نفسَها مع نهاية عام 2023 شريكًا حقيقيًا في إدارة شؤون المسجد الأقصى، بعد أن انتزعت من إدارة الأوقاف الإسلامية، الحصريةَ الإسلاميةَ لإدارة شؤونه، وها هي اليوم تنتقل لمرحلة الهيمنة على إدارة شؤون المسجد الأقصى، وتحقيق سيادة كاملة عليه.

إعلان

ولكن هناك حقيقة ينبغي الاعتراف بها، وعدم التهرب من مسؤوليتها في هذا الجانب، وهي وجود نهج تنازليّ من قِبَلِ الجهات الرسمية والشعبية أمام إجراءات الاحتلال؛ بحجة عدم الاصطدام معه، وعدم إعطائه "ذرائع" للتدخل بعنف في شؤون المسجد!

ففي عام 2003، وبعد ثلاث سنوات من قرار إدارة الأوقاف الإسلامية منع دخول غير المسلمين إلى المسجد الأقصى عقب اندلاع انتفاضة الأقصى، قرر الاحتلال بشكل منفصل فتح باب المغاربة لإدخال المستوطنين والسياح من غير المسلمين إلى المسجد، دون تنسيق مع دائرة الأوقاف أو موافقة منها. ولم يواجه الاحتلال في ذلك الوقت أكثر من الاحتجاج الشفوي غير العملي.

وبعد عشر سنوات من تطبيع هذا الأمر الذي أصبح واقعًا عمليًا، وجدنا الاحتلال يستحدث حوالي العام 2010 عقوبة المنع من دخول المسجد الأقصى فترات محددة أولًا بحق الناشطين المعروفين في الأقصى، وعندما لم يجد رد فعل حقيقي صعّدَ الأمر ليشمل المسؤولين في دائرة الأوقاف الإسلامية نفسها، بل وازداد الأمر سوءًا حين وصل إلى درجة إبعاد أعلى شخصية رسمية إسلامية في القدس عن المسجد الأقصى عام 2019، وهو الشيخ عبد العظيم سلهب رئيس مجلس الأوقاف الإسلامية.

ومع الزمن أصبح أغلب حراس وسدنة المسجد الأقصى الذين يصدر عنهم أي حركة تصنف على أنها "إزعاج" للمستوطنين، ممنوعين من دخول المسجد.

ومع استمرار الصمت على ذلك، بدأ الاحتلال يتدخل في تعيينات الحراس والموظفين والمديرين في المسجد الأقصى بإعلان رفضه تعيين شخص ما في وظيفة معينة في المسجد الأقصى، والتهديد بمنع دخوله للمسجد.

ولم يكتفِ الاحتلال بالتدخلات في الإدارة فقط، ففي مجال الفضاء العام للمسجد الأقصى، وبعد أن كان دخول المستوطنين إلى المسجد يتم بصفتهم سياحًا وبوجود مراقبين من حرس المسجد الأقصى، مع إبعاد أي شخص يفتح فمه أو يحاول التلفظ بأي صلوات أو أداء أي طقوس دينية داخل المسجد الأقصى، تضاعفت أعداد المستوطنين وطريقة لباسهم وحركاتهم شيئًا فشيئًا دون رد فعل حقيقي، باستثناء هبّة القدس عام 2015، والتي كان يمكن أن ينتج عنها تراجعٌ إسرائيليٌ كاملٌ، لولا تدخل الإدارة الأميركية الذي أدى إلى اعتراف عربي رسمي بتغيير خطير في الوضع القائم في المسجد الأقصى، عندما أعلن وزير الخارجية الأميركية آنذاك جون كيري أن الوضع القائم في الأقصى يتضمن أن "للمسلمين حق الصلاة في المسجد الأقصى، ولليهود حق الزيارة"، فأعطِيَ المستوطنون "حقًا" للزيارة لأول مرة في التاريخ الحديث، بعد أن كانت زياراتهم تعد انتهاكًا وتتم دون وجه حق.

إعلان

هذا ما أعطى الاحتلال دفعةً معنويةً كبيرةً جعلته يفرض التقسيم الزماني بين المسلمين واليهود الذي بدأ بمحاولة فرضه عام 2015، حتى وصل الأمر خلال عام 2022 إلى منع المسلمين من دخول المسجد الأقصى في غير أوقات الصلاة، وتحديدًا في الأوقات التي يوجد فيها المستوطنون داخل المسجد خلال اقتحاماتهم اليومية.

وكالعادة لم يكن هناك أي رد فعل رسمي على هذا الأمر. ليتطور الأمر وسط عام 2023 ويطرح عضو الكنيست عن الليكود (عميت هاليفي) لأول مرة مقترحًا في الكنيست لتقسيم المسجد الأقصى بين المسلمين واليهود.

وبالرغم من أن أحداث الحرب الحالية على قطاع غزة كان يفترض بها أن تؤدي لإبطاء التقدم الإسرائيلي في الأقصى بسبب الانشغال بالحرب، وجدنا وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير يتقدم خطوات واسعةً داخل المسجد الأقصى مستغلًا صدمة الترويع التي أحدثتها المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، فأعلن السماح للمستوطنين بإقامة طقوسهم الدينية كافةً بشكل علني داخل المسجد الأقصى، ليتحول الوجود اليهودي داخل المسجد إلى وجود صلوات وعبادة لا زيارة كما كانت تفاهمات كيري عام 2015.

ولم تلقَ هذه الخطوة الخطيرة أي رد فعل رسمي أو شعبي! وأغرى هذا الصمت الحكومة الإسرائيلية فصارت تتدخل حتى في تعريف المسلمين، وبدأت شرطة الاحتلال تستبعد غير الفلسطينيين مثل البريطانيين والكنديين وتمنعهم من الدخول للصلاة بحجة أنهم "سياح" ينبغي أن يدخلوا في غير أوقات صلاة المسلمين!

والآن، ومع الصمت على التدخل في شأن المصلين، بدأ الاحتلال يتدخل في الصلاة نفسها، فيرسل إلى إدارة الأوقاف الإسلامية أمرًا بمنع الدعاء لغزة في المسجد الأقصى أو ذكر اسم "غزة" في خطب الجمعة داخل المسجد، وهذا يعني أن الاحتلال لم يعد شريكًا في إدارة المسجد فقط، بل أصبح صاحب اليد العليا، حيث صار يتدخل في صلب الدين الإسلامي.

إعلان

والمصيبة هنا هي الاستجابة العملية التي رأيناها بالرغم من الرفض الرسمي لهذه الأوامر، فلم يذكر اسم غزة في خطب الجمعة بالمسجد الأقصى ولا حتى عند الدعاء في ثلاث جُمعات حتى الآن، واكتفى الخطباء بإشارات عامة مبهمة، وذلك بعد أن هدد الاحتلال أي خطيب يذكر اسم غزة بالمنع من دخول المسجد الأقصى، وبغرامة مالية تصل إلى حوالي 1500 دولار أميركي، وكان الأصل الرد بتوجيه الخطباء إلى ضرورة ذكر اسم غزة في الخطب بشكل استثنائي، لا لشيء إلا لأن الاحتلال أمر بعدم ذكر غزة.

هذا النهج في اختيار عدم مواجهة الاحتلال، بحجة عدم تأزيم الموقف في المسجد الأقصى، يكرس مشكلةً كبيرةً تتمثل في التعامل التقليدي مع المسجد الأقصى بمعزل عن وجود الاحتلال نفسه، ومحاولة التعامي عن واقع وجود الاحتلال أولًا، وعن مشروع الاحتلال في الأقصى ثانيًا، وحصرِ الوجود الإسلامي في إقامة الطقوس الدينية بأسلوب تقليدي بعيد عن الواقع.

وهذا خطأ كبير، لأنه يعني عدم وجود مشروع لدى الجهات الرسمية العربية في التعامل مع المسجد الأقصى، في مقابل وجود مشروع يخصّ المسجد لدى الاحتلال.

المسجد الأقصى ليس "جامعَ الحي" حتى نتعامل معه بأسلوب التنازلات خوفًا من منع الخطباء أو عدم إقامة الجمعة، بل هو شقيق الحرمين الشريفين ويخص جميع المسلمين على وجه الأرض، ولذلك فالتعامل معه يختلف عن غيره، وما يمكن أن نقبله في غيره من المساجد لا نقبله فيه.

وهذا ما فهمه الشيخ عبد الحميد السائح عام 1967 عندما رفض تدخل وزارة الأديان الإسرائيلية في شؤون الأقصى، وأعلن شعاره الشهير؛ "لا صلاة تحت الحِراب" حتى نجح ومن معه من المشايخ في إبعاد الاحتلال عن إدارة المسجد.

ولو سكتنا على ما يجري حاليًا فإن الاحتلال سيطور تدخلاته ليتدخل في تحديد الصلوات المسموحة والممنوعة، ويغير شكل الصلاة في الأقصى، ثم سيتشجع لخطوة التقسيم المكاني التي طال انتظارها.

إعلان

إن منع الدعاء لغزة أو ذكر اسمها في المسجد الأقصى المبارك يهدف لإخراج الأقصى من معادلة الصراع الحالي نهائيًا وفصله عن بقية الأراضي الفلسطينية، وهذا خطير جدًا؛ لأن الحراك الفلسطيني برمته على مدار خمسة وعشرين عامًا كان دائمًا يتمحور حول المسجد الأقصى، بدءًا من انتفاضة الأقصى عام 2000 حتى عملية طوفان الأقصى عام 2023.

كما أن هذا الإجراء يهدف كذلك لفصل غزة تمامًا عن ضمير المجتمع الفلسطيني، وتكريس تقسيم الفلسطينيين إلى كانتونات، والاستفراد بغزة في الوقت الحالي.

إن الحل الوحيد لمعضلة المسجد الأقصى اليوم هو التأزيم، فماذا لو مُنِعَ جميع الخطباء من الدخول للأقصى لصلاة الجمعة وأعلنت دائرة الأوقاف الإسلامية عدم وجود خطباء للمسجد لإقامة صلاة الجمعة؟

إن هذا الأمر سيخلق أزمة في القدس، والتأزيم هو الطريق للحل. بل كان الحل الوحيد في عدة محطات تأزيمية في تاريخ المسجد الأقصى الحديث، كما حدث في هبة باب الأسباط عام 2017 عندما رفض المقدسيون وإدارة الأوقاف دخول المسجد الأقصى من البوابات الإلكترونية وإغلاق باب حطة، وكذلك في هبة باب الرحمة عام 2019 عندما أصر المقدسيون وإدارة الأوقاف على فتح باب الرحمة للصلاة.

ولولا ذلك لبقيت البوابات الإلكترونية، ولكان باب حطة اليوم مغلقًا، ولكان باب الرحمة الآن كنيسًا أو خارج أيدي المسلمين مثل باب المغاربة والخلوة الجنبلاطية (مخفر الشرطة) في ساحة قبة الصخرة.

لا بدّ من رفع الصوت الشعبي وتأزيم القضية، فالدعاء لغزة بالاسم هو أقل الواجب بعد هذا الخذلان الكبير، والقضية ليست بسيطة، ولو تنازلنا اليوم مرةً أخرى فسننكسر في الأقصى في النهاية، وهذه المشكلة ليس لها إلا حل واحد: مناكفةُ الاحتلال بالدعاء لغزة وذكرُها بالاسم مهما كانت الضغوط؛ وإذا كان ثمن الدعاء لغزة أزمةً في القدس فليكن.. فقد تخاذلنا بما فيه الكفاية.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • فخ لخنق المقاومة
  • الحديدة…مسير عسكري لخريجي دورات طوفان الأقصى بالمنصورية دعما لغزة
  • صور| مسير شعبي لخريجي الدورات العسكرية المفتوحة “طوفان الأقصى” من أبناء عزلة فوط بمديرية حيدان في صعدة
  • قبائل الشاهل في حجة تعلن وثيقة الشرف القبلي للبراءة من العملاء والخونة
  • مسير شعبي لخريجي دورات “طوفان الأقصى” في مديرية القناوص بالحديدة
  • إرادة المقاومة سلاح فلسطين الأبدي
  • المقاومة في غزة تطلق الأسير عيدان ألكسندر.. سيتوجه إلى قطر للقاء ترامب
  • بحماية قوات الاحتلال.. عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
  • أبرز هجمات المقاومة ضد جيش الاحتلال بعد استئناف الحرب
  • لماذا الجهر بالدعاء في الأقصى يخيف إسرائيل؟