لجريدة عمان:
2024-06-16@12:29:51 GMT

معرض الكتاب وتعدّديّة المواطنة

تاريخ النشر: 26th, February 2024 GMT

المتأمل في معرض الكتاب يجد التّعدّديّة واضحة تماما من حيث المعارف، فهناك عشرات الكتب المتناقضة ذات اليمين وذات اليسار، في اللّاهوت والفلسفة والأديان والاجتماع والمذاهب وفروعها المتعدّدة والمتناقضة في بعض كليّاتها، والعديد من جزئيّاتها، كما يجد الرّؤى الّتي طرحت قديما، وكأنّ أصحابها على قيد الحياة، يشاركوننا رؤاهم وفلسفاتهم واجتهادهم، وهناك من الرّؤى الحديثة المبنية عليها، والشّارحة لها، وهناك من الرّؤى الجديدة، والّتي تقدّم رؤيتها التّفكيكيّة والنّقديّة من جهة، ورؤيتها الإصلاحيّة والتّفسيريّة التّحليليّة من جهة ثانية.

كما أنّ هناك تعدّديّة من حيث دور النّشر ذاتها، فمنها من تميل إلى الماضي والتّراث، ومنها من تحمل روحا دينيّة أو مذهبيّة تعرض ما عندها، ومنها من تقدّم أدبًا روائيّا وساخرا وناقدا في صورة شعريّة أو قصصيّة أو روائيّة، ومنها المتخصّصة جوانب التّرجمة والفلسفة والنّقد الفكريّ، ومنها من تحمل زوايا علميّة طبيعيّة وتأريخيّة وقانونيّة وتخصصيّة بحتة.

كذلك توجد تعدّديّة واضحة من حيث الفعاليّات المقامة، فليست على نسق واحد، فهناك ذات الصّبغة الدّينيّة، وأخرى ذات الصّبغة الفكريّة النّاقدة، وثالثة ذات البعد السّياسيّ أو الاجتماعيّ، كما يسايرها عوالم الموسيقى والرّسم والمسرح والفنّ والإبداع.

هذه التّعدديّة لازمتها تعدّديّة من حيث الزّوار، ومحبّي الفن والقراءة والكتابة، فكل في فلك يسبحون، حيث تجد عوالم من النّاس، منهم من يغريه الأدب وشاعريّته، والموسيقى وجماليّتها، والمسرح وصوره الرّمزيّة والواقعيّة، والرّحلات وفوائد تجاربها، ومنهم من يشدّ رحاله إلى الماضيّ والتّأريخ والإنسان، ومنهم من يأخذه عقله إلى الفكر والفلسفة والنّقد والكلام والمناظرات، ومنهم من يشبع روحه بالسّلوك والتّصوّف والعرفان، ومنهم من يكمل تخصّصه العلميّ طبّا أو قانونا أو علوم نفس واجتماع وغيرها.

الصّورة الجميلة ليست هذه فحسب، بل كلّ في عالمه بلا صراع ولا إقصاء، وكلّ يشبع رغباته في حريّة مطلقة بلا استبداد ليقصيّ حرّيّات غيره، فيجد ما طاب له، ويؤانس من يماثله ويخالفه، ويحاور معرفيّا ومنطقيّا من يوافقه ويعارضه، لتبقى الذّات واحدة متساوية، والميولات والتّوجهات عوارض مكمّلة لا مستبدة قامعة.

هذه الصّورة الجميلة في معرض الكتاب هي صورة مصغرة لما في الوطن الواحد، فالوطن لا يمكن بحال أن يكون على صورة واحدة، ولا يمكن للمجتمع أن ينصهر في هويّة مغلقة، وإلّا حدث التّنافر والتّضاد، وقاد إلى الصّراع والاحتراب، فإذا همش المركز الهامشَ شعر بالمظلوميّة، وإن شعر بذلك تقوى في داخله، فيظهر قوّته متى ما ضعف المركز، ويكون حينها يدافع عن مظلوميّته، وهي تحوي في داخلها السّخط والحقد والكراهيّة، فبعدما كانت مسكونة باطنا بقوّة المركز، تتحوّل إلى أداة عمليّة ناقمة فعلا للآخر بلا تفريق بين أحد، ما دام خيطه متصلّا بالمركز ولو على مستوى الهويّة الإجرائيّة العامّة.

والعكس صحيح، إذا ما شعر الكل بوجود مساحة واسعة للإبداع والحريّة، وإفراغ الفكر والنّقد، وإبداء المواهب والطّاقات المختلفة، وكان المركز حافظا للجميع، وساعيا في الحفاظ على سعة دائرة الحريّات؛ هنا يشعر الكل بمكانته الذّاتيّة كمواطن في دولة قطريّة ينتمي إليها ولادة أو تجنسا، فتضيق دائرة الهامش، وتتسع دائرة المواطنة، ويكون الاختلاف طريقا إلى التّهذيب والإصلاح، والتّعدديّة طريق إلى النّماء والجمال، فلا يشعر أحد من حيث المواطنة أنّه نشاز في المجتمع، لأسباب هويّاتيّة دينيّة أو مذهبيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة، كما لا يشعر بالنّبذ لاختلافات فكريّة أو مواهبيّة أو إبداعيّة، فيشعر أنّه من المركز كذات لا كهويّة، فتتسع دائرة المركز بشكل كبير رخاء أو شدّة.

ما نراه في معرض الكتاب أيضا؛ ندرك جماليّة التّدافع الفكري، واختلاف الفكر ليس مجاله الفتوى والقضاء، وإنّما الفكر يدفع بالفكر، والنّقد يواجه بالنّقد، وما نراه في المعرض من كتب حاولت أن تقيّد كتابة ومعنى لشيء بسيط ممّا يسبح في الفضاء من أفكار متشعبة ومتناقضة، والإنسان لا يملك ولو كانت لغته ذات اشتقاقات كثيرة كالعربيّة؛ إلّا أنّها محدودة بما في العالم من معان وخيالات وأفكار متضاربة ومتناقضة ومتعدّدة، حاول أن يقرّبها الإنسان، ويخلّدها في كتاب مقروء، أو فيلم مرئيّ، أو تمثال وصورة ذات رمزيّات متباينة، أو قصيدة ورواية ذات مخيال واسع.

قد يطرح في الوطن الواحد أيضا العديد من الأفكار، ويقدّم المبدعون العديد من المواهب، لترى نفسك في عوالم لا عالم واحد، فكلّما وسعنا هذه العوالم؛ كلّما وسعنا دائرة الإبداع، وكلّما توسعت دائرة الإبداع توسعت قوّة المركز، حيث قوّته في التّعدّديّة والعوالم المتفاعلة فيما بينها، وإذا ما ضيّقت وصهرت في عوالم محدودة؛ ضاق بذاته يوما بعد يوم، ليدخل في دائرة الاستبداد، ويغلق سعته وفق رؤية واحدة، أو رؤى محدّد ضيّقة ومنغلقة.

لهذا معرض الكتاب هو درس آخر في المواطنة، حيث المواطنة الّتي لا يخيفها الاختلاف، ولا تهاب من التّعدّديّة، بل ترى ذلك عنصر ثراء لها، والمركزيّة بقوانينها الإجرائيّة حافظة لهذه التّعدّديّة، حينها يكون الوطن ليس كالأمس، والمستقبل ليس كاليوم، فبقدر ما تحافظ على ما وصلت إليه من تقدّم معرفيّ وماديّ، إلّا أنّ فضاء العالم اليوم متحرّك بصورة كبيرة جدّا، فيتحرّك الوطن معه، وإلّا بقيّ في نقطة جامدة، ليستيقظ يوما ما وقد أدرك العالم علما ومدنيّة تقدّمه بسنوات زمنيّة طويلة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: معرض الکتاب ومنهم من من حیث

إقرأ أيضاً:

اتحاد الكتاب العرب ينعي المؤرخ السوري عبد الكريم رافق

دمشق-سانا

بعد رحلة طويلة من العطاء والبحث العلمي والأكاديمي فقد اتحاد الكتاب العرب والوسط العلمي والأكاديمي الباحث والمؤرخ السوري عبد الكريم رافق مواليد (1931_2024)، الذي رحل بصمت في أمريكا إثر حادث أليم، بعد مسيرة أكاديمية طويلة ما بين سورية والأردن ولبنان والولايات المتحدة الأمريكية، جعلت منه مرجعاً لعدة أجيال أسهمت في إعادة اكتشاف سورية بجوانبها التاريخية والعلمية المتعددة.

وأكد رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور محمد الحوراني أن المؤرخ الراحل واحد من أهم الباحثين والمؤرخين السوريين والعرب الذين تركوا بصمات مشرقة وأبحاثاً أكاديمية عالية المستوى في المكتبة السورية العربية، ويعود إليه الفضل في تدريس المئات من طلبة الجامعات في سورية وخارجها من خلال تكريسه لمنهجية البحث التاريخي الحقيقي، ولكشف الكثير من الزيف في جوانب التاريخ ومفاصله الرئيسة.

للمؤرخ الراحل كتاب “العرب والعثمانيون”، وله الكثير من الدراسات التاريخية خلال ثمانينات القرن العشرين وتسعينياته، والتي أصبحت دراسات مرجعية للباحثين العرب والغربيين بعد صدورها بالإنكليزية، له دراسات رائدة عن غزة نُشرت عام 1982.

شارك عبد الكريم رافق مع زملائه المؤرخين السوريين، أمثال نبيه العاقل ومحمد خير فارس وغيرهما في دعم قسم التاريخ الجديد في الجامعة الأردنية، ودرّس في بعض الجامعات اللبنانية وفي عدة جامعات أمريكية.

محمد خالد الخضر

مقالات مشابهة

  • ذكر الموت فباغته.. وفاة الكاتب السوري فؤاد حميرة في الإسكندرية
  • لماذا لم يفهم العرب لسان القرآن العربي المبين؟!
  • رجل أعمال كندي يقر بسرقة أسرار صناعية تخص إيلون ماسك
  • الأسرة العراقية والتّحدّيات الغريبة!
  • ناشرون تحت المقاطعة: سوق الترجمة الإسرائيلي في مهب الحرب على غزة
  • “تريندز” يناقش العلاقات الصينية ــ الخليجية خلال “معرض بكين للكتاب”
  • أسطوات وفنانون.. كتاب يرصد مناطق مجهولة من سيرة نجوم الفن
  • نجم هولندا ينضم إلى الفريق بعد جولة في "عالم والت ديزني"
  • كتاب جرائم وعلوم جنائية للخبير العلواني وخبرة 30 عاما بمسرح الجريمة
  • اتحاد الكتاب العرب ينعي المؤرخ السوري عبد الكريم رافق