واشنطن -(د ب أ) – يقول المحلل السياسي الدكتور إميل أفدالياني، أستاذ العلاقات الدولية بالحامعة الأوروبية، ومدير دراسات الشرق الأوسط بمركز أبحاث جيوكيس في جورجيا، إنه منذ بدء غزو روسيا واسع النطاق لأوكرانيا، ترفض جورجيا الانضمام للعقوبات ضد موسكو، ولم تنتقدها علانية رغم تصرفاتها في أوكرانيا. وكان رد فعل روسيا إزاء ذلك الإعلان في أيار/ مايو الماضي استئناف الرحلات المباشرة بين الدولتين وإلغاء متطلبات التأشيرات المفروضة على مواطني جورجيا.

وأشاد المسؤولون الروس مرارا وتكرارا بحكومة جورجيا لحفاظها على نهج بناء يليق بدولة ذات سيادة، وزاد حجم التجارة الثنائية. وكانت صادرات جورجيا لروسيا زادت في عام 2022 بنسبة 8ر6% إلى 652 مليون دولار، بينما ارتفعت الواردات بنسبة 79% إلى 8ر1 مليار دولار، وهو أعلى مستوى خلال الستة عشر عاما الماضية. ويضيف أفدالياني في تقرير نشره موقع مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي أن تصرفات جورجيا تبدو غبر منطقية بوجه خاص باعتبار أن العلاقات بين الدولتين لم تكن سهلة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، خاصة بعد عام 2008، عندما قامت روسيا بغزو أراضيها. واحتفظت موسكو بالفعل بالسيطرة على أكثر من 20% من أراضي جورجيا منذ ذلك الحين مع إقامة قواعد عسكرية في منطقتي أبخازا وأوسيتيا الجنوبية، الانفصاليتين عن جورجيا. يأتي هذا التقدم في العلاقات مع روسيا في الوقت الذي ساءت فيه علاقات تبليسي مع شركائها الغربيين التقليديين. وتشهد الانتقادات المتبادلة تزايدا، وهناك شكوك حول تقدم جورجيا بالنسبة لمعظم التوصيات الاثنتى عشرة التي حددها الاتحاد الأوروبي كي تنال وضع دولة مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي. ويقول أفدالياني إن دوافع حكومة جورجيا وراء هذا التحسن في العلاقات مع موسكو متنوعة، لكن أحد العوامل الرئيسية يتمثل في الأهمية الإقليمية المتزايدة لجورجيا. فالحرب المطولة في أوكرانيا أرغمت الاتحاد الأوروبي على إعادة تقييم اعتماده على روسيا في الحصول على الطاقة، وفي مجال التجارة، ودفعته إلى البحث عن طرق بديلة يمكنه من خلالها الوصول إلى الصين ووسط آسيا. ويبدو أن طريق الممر الأوسط الذي يمر عبر جورجيا هو الخيار الأكثر ملائمة. ونظرا لأن جورجيا هي الجسر البري الأقصر بين الاتحاد الأوروبي والصين، زاد الاتحاد الأوروبي من وجوده في جنوب القوقاز من خلال مشروعات موقعة حديثا مع أذربيجان وجورجيا، في مجالي الغاز والبنية الأساسية. ونتيجة لذلك، اكتسبت جورجيا أهمية جغرافية سياسية أكثر كثيرا مما كانت تتمتع به قبل بدء الحرب في أوكرانيا. وهناك احتمال بأن تستغل جورجيا أيضا احتمال التقارب مع روسيا كأسلوب تفاوضي عند التعامل مع الشركاء الأوروبيين المترددين. ومع ذلك، ليس من قبيل الصواب تصوير جورجيا على أنها في طريقها لتصبح دولة موالية لروسيا، حيث إن تبليسي تعتقد أن روسيا سوف تبقى في مستنقع أوكرانيا لسنوات، إن لم يكن لعقود. ووسط هذا الاضطراب الواضح، تضاءل نفوذ روسيا في جنوب القوقاز، مما أتاح لدول فاعلة أخرى – خاصة تركيا وإيران- مساحة أكبر للمناورة. وقد أنهى غزو أوكرانيا عهد ما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتسبب في النهاية الفعلية للهيمنة الروسية التامة في جنوب القوقاز. ويرى أفدالياني أن هذا يعني المزيد من الفرص لاتخاذ جورجيا خطوات أكثر جسارة في السياسة الخارجية واستغلال الضعف الروسي. ومن المتوقع إمكانية أن تدفع موسكو أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية- إلى القيام ببعض المبادرات التصالحية تجاه تبليسي، والتي من شأنها أن تمثل ما يشبه حسما محتملا للخلاف. ويمكن أن تشمل هذه المبادرات تعزيز العلاقات الاقتصادية بين أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وباقي جورجيا، وحتى بعض الاتصالات السياسية الطفيفة مع تبليسي. وهناك خطوة أخرى يمكن أن تتمثل في تسهيل حرية الحركة بين السكان المحليين، والحد من عمليات اختطاف القوات الروسية- الأوسيتية الرعايا الجورجيين. وفي الحقيقة، تعتمد تقديرات تبليسي على إدراك أن لدى جورجيا الآن ما يمكن أن تقدمه لروسيا أكثر مما كانت تفعل قبل2022، مما يزيد من قيمتها ونفوذها لدى موسكو. ومن مصلحة روسيا أن تظل الحدود مع جورجيا مفتوحة، حيث يساعد ذلك في توفير طريق لروسيا إلى تركيا وأرمينيا. وثانيا، يعني تحسين العلاقات مع جورجيا بالنسبة لروسيا أن العلاقات بين جورجيا والاتحاد الأوروبي يمكن أن تزداد ركودا: وهو ما سيؤدى إلى تضاؤل النفوذ الغربي في المنطقة. وثالثا، يمكن أن تلعب جورجيا بورقة حلف شمال الأطلسي( ناتو)، من خلال اضمحلال طلب الانضمام لعضويته. وهناك اعتبار آخر، وهو أن تبليسي ترى أن المساعدات العسكرية الغربية لأوكرانيا تبدو غير كافية لإنهاء الحرب، بينما نجحت روسيا في الاحتفاظ بسيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد. ويعتقد المسؤولون في جورجيا أن ميزان القوة يتحول لصالح روسيا، وأن توسع الناتو هو الذي أدى إلى اندلاع الحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، فإن هذه الحسابات الجيوسياسية محفوفة أيضا بخطر احتمال أن تكون خاطئة مما سيكون له تأثيرات دائمة على جورجيا ورعاتها في الغرب. وليس من الواضح تماما ما إذا كانت روسيا – سواء أصبحت غير مستقرة بصورة متزايدة أو منتصرة- ستكون مفيدة لأمن جورجيا وسعيها لإعادة تكامل أراضيها. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لأي تحول طفيف نحو تحسين العلاقات مع روسيا أن يزيد من تباعد تبليسي عن الغرب. وإذا ما رفض الاتحاد الأوروبي منح جورجيا وضع الدولة المرشحة للانضمام إليه فى وقت لاحق من هذا العام، يمكن أن يصبح ميل جورجيا للمزيد من التقارب مع روسيا أكثر وضوحا. واختتم أفدالياني تقريره بالقول إن أي تطبيع للعلاقات بين تبليسي وموسكو سوف يفضي في نهاية المطاف إلى قضية وحدة أراضي جورجيا. ومن المعروف أن روسيا أعربت على الدوام عن عدم استعدادها لتقديم أي تنازلات في هذا الصدد. كما أنها ليست مستعدة للتنازل طواعية عن أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية حال هزيمتها في أوكرانيا. وفي الوقت الراهن، يتمثل أفضل رهان بالنسب لجورجيا في الابحار ما بين روسيا التي تزداد خطورة، والغرب، الذي يتوسع تدريجيا جهة الشرق، لكن ليس بالسرعة الكافية لتطويق جورجيا البعيدة جغرافيا قبل أن تتعرض للتهديد مرة أخرى من جانب روسيا.

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی فی أوکرانیا العلاقات مع مع روسیا روسیا فی یمکن أن

إقرأ أيضاً:

غزة تُفرَّغ بالنار: شبح التهجير للواجهة من جديد

#سواليف

رغم أن أوامر الإخلاء القسري والخرائط العسكرية الصادرة عن #جيش_الاحتلال الإسرائيلي لم تتوقف طوال أشهر #الحرب، فإن سكان قطاع غزة اكتسبوا مع الوقت خبرة خاصة في قراءة هذه الأوامر وفهم دلالاتها. فقد باتوا يميزون بين الإخلاء الذي يسبق “غارة جوية” محدودة، وبين الإخلاء الذي يُمهّد لـ”هجوم بري” شامل، حيث يكمن الفرق بين الموت بالقصف الجوي وحده، أو #الموت تحت وطأة نيران متزامنة من الجو والبر والمدفعية.

تحوّلت هذه الأوامر إلى أداة رئيسية يستخدمها الاحتلال لإرباك السكان وضرب استقرارهم، لا فقط كإجراء عسكري، بل كوسيلة منهجية لتفكيك النسيج الاجتماعي وتحويل تفاصيل الحياة اليومية إلى فصول متكررة من النزوح والمعاناة. ومع كل موجة إخلاء جديدة، تُجبر آلاف العائلات على ترك منازلها وسط القصف والانهيارات، دون أي ضمانة للعودة، ودون أدنى مقومات للعيش في أماكن اللجوء المؤقت.

لكن الأخطر أن هذه السياسات لا تُنفذ فقط لتحقيق أهداف تكتيكية في ساحة المعركة، بل تتصل بمسار أعمق وأكثر تهديدًا، يتمثل في الدفع التدريجي نحو تهجير السكان قسرًا من مناطقهم الأصلية، عبر تكرار النزوح تحت القصف وخلق شعور دائم بانعدام الأمان.

مقالات ذات صلة أجواء صيفية اعتيادية وليالي أكثر انتعاشاً الأيام القادمة 2025/07/01

هذه الدينامية الممنهجة تمهّد فعليًا لمشروع تطهير عرقي بطيء، لا يُعلن صراحة، لكن يُفرض بالقوة، وبما يؤدي فعليًا إلى إفراغ الأرض من سكانها تحت ضغط الموت المتنقّل، وخلق وقائع ديمغرافية جديدة على الأرض.

“غيتو رفح”: بوابة #التهجير_الجماعي

منذ انطلاق العملية العسكرية الإسرائيلية المسماة ” #عربات_جدعون “، بدأ جيش الاحتلال في تنفيذ ملامح ما يُعرف بـ”خطة غزة الصغيرة”، التي وضعها رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال، إيال زامير. وبحسب ما كشفته قناة “كان 11” العبرية، تقوم هذه الخطة على إجلاء سكان شمال ووسط القطاع، على نحو يُحاكي ما جرى في مدينة رفح. وتشمل الخطة تمشيطًا ميدانيًا واسعًا، يتبعه تمركز طويل الأمد داخل مناطق محددة من قطاع غزة، بما يُمثل انتقالًا استراتيجيًا من سياسة “اضرب واهرب” إلى نمط الاحتلال الثابت.

وتتضمن الخطة أيضًا إنشاء مناطق تُوصف بـ”الإنسانية” في جنوب القطاع، وتحديدًا في المساحة الواقعة بين ما يُعرف بمحور موراغ ومحور فيلادلفيا، بهدف توزيع المساعدات الغذائية من خلال شركات خاصة أو منظمات دولية.

وبات من الواضح أن حكومة الاحتلال تسعى إلى إعادة إنتاج نموذج “الصوملة” داخل غزة، من خلال تحويل مراكز توزيع المساعدات، وخصوصًا تلك التي تمولها الولايات المتحدة، إلى أفخاخ أمنية، تستدرج السكان الجائعين إلى أماكن مكشوفة، ثم تستهدفهم بالنيران، في مشهد دموي تكرّر مرارًا.

من جهة أخرى، نُقلت تصريحات عن مصادر سياسية مرتبطة بمكتب بنيامين #نتنياهو، تؤكد أن الخطة العسكرية الحالية تتضمن احتلال قطاع غزة بشكل فعلي، باعتباره المسار الأنسب من وجهة نظر الحكومة لـ”حسم المعركة” واستعادة الأسرى.

وقد عبّر نتنياهو بوضوح خلال اجتماعاته الأمنية عن قناعته بأن الحلّ يكمن في الانتقال من الغارات المحدودة إلى التوغل والبقاء الميداني، وهو ما يتسق مع رؤيته حول تفعيل “خطة ترامب” التي تهدف إلى تهجير الفلسطينيين من غزة تحت مسمى “الخروج الطوعي”، وسط معلومات عن اتصالات متقدمة مع دول أجنبية بهذا الخصوص.

وبعد إتمام المرحلة الأولى من “خطة غزة الصغيرة”، والتي أسفرت عن تجميع سكان القطاع داخل ثلاث جيوب سكانية: غرب مدينة غزة، ومخيمات وسط القطاع، ومنطقة المواصي غرب خانيونس؛ بدأت الأنظار تتجه إلى المرحلة التالية من العدوان.

فوفقًا لتقارير جيش الاحتلال التي يُورد الإعلام العبري جزءًا من تفاصيلها، فإن الاحتلال يفرض سيطرته الكاملة أو النارية على نحو 70% من مساحة القطاع، بينما تبقى الكتلة السكانية الأكبر محصورة داخل ما لا يزيد عن 30% من الأراضي.

في هذا السياق، تؤشر التسريبات حول محتوى “خطة عربات جدعون” إلى نية واضحة لدى صناع القرار في تل أبيب لتهيئة مدينة رفح كمنطقة تجمع نهائي للنازحين، عبر حصرهم في مساحة ضيقة تفصل بين محور فيلادلفيا وموراغ، وهي المنطقة التي تشهد حاليًا عملية عسكرية واسعة النطاق لتطهيرها من أي وجود مقاوم، وتعبيدها كمسرح قابل للاحتواء والرقابة.

تهدف الخطة، في جوهرها، إلى إنشاء مناطق عازلة تحت الإشراف الإسرائيلي المباشر، يتم من خلالها ضبط تدفق المساعدات، ومن ثم دفع السكان تدريجيًا إلى خيارات “الخروج” من القطاع، سواء عبر الضغط العسكري أو التجويع أو الانهيار الكامل لمقومات الحياة.

ما يجري هو امتداد صريح لما حاول الاحتلال تطبيقه سابقًا تحت مسمى “الجزر الإنسانية”، وخطط “الجنرالات” التي تركز على تفكيك البيئة المقاومة في شمال القطاع من خلال التطهير والتجويع، وصولًا إلى هندسة ديموغرافية جديدة يُقصى فيها الفلسطينيون من أرضهم، بصمت ورعب، لا بضجيج قرارات دولية.

أوامر الإخلاء القسري: إلى “المواصي” من جديد

توازيًا مع تصاعد المخاوف من خطط التهجير الجماعي، عاد العدوان العسكري الإسرائيلي بزخمه إلى واجهة المشهد في قطاع غزة، حيث سُجّل ارتفاع ملموس في حدة القصف، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية من مدينة غزة، وفي أحياء شمال القطاع بأسره.

وترافقت الغارات مع عمليات نسف ممنهجة للمنازل في مناطق التوغّل البري، في ظل تصاعد لافت في عدد الضحايا، مع ارتكاب مجازر متكررة طالت العائلات داخل منازلها ومخيمات النازحين.

هذا التصعيد جاء متزامنًا مع إصدار جيش الاحتلال لأوامر إخلاء قسري جديدة، استهدفت مناطق واسعة من مدينة غزة ومخيم جباليا، وأُبلغ السكان بها عبر منشورات على منصة “إكس”، ورسائل نصية مباشرة. دعا الجيش من خلالها السكان إلى التوجه جنوبًا نحو منطقة “المواصي” غرب خان يونس، والتي ما زال يروج لها إعلاميًا على أنها “منطقة آمنة وإنسانية”، رغم أن الوقائع الميدانية والتقارير الأممية تُفنّد هذا الادعاء، وتؤكد أنه لا يوجد مكان آمن في غزة، وأن “المواصي” ذاتها تفتقر لأي مقومات للحياة وتضم مئات آلاف النازحين المتكدسين.

وقد شملت أوامر الإخلاء أحياء واسعة، من بينها الزيتون الشرقي، البلدة القديمة، التركمان، اجديدة، التفاح، الدرج، الصبرة، إضافة إلى جباليا البلد، جباليا النزلة، معسكر جباليا، الروضة، النهضة، الزهور، النور، السلام، وتل الزعتر. وهدّد جيش الاحتلال الأهالي بعبارة حاسمة: “أخلوا فورًا جنوبًا إلى منطقة المواصي”.

وتُعدّ هذه الموجة من أوامر الإخلاء هي الأولى من نوعها بهذه الصيغة منذ انهيار التهدئة الأخيرة، التي ترافقت مع تركيز الأوامر السابقة على دفع السكان إلى المناطق الغربية من مدينة غزة. أما الآن، فإن الدعوة تعود مجددًا للنزوح من شمال القطاع ووسطه إلى أقصى الجنوب، في سياق يُعيد تفعيل مرحلة الحصار المتحرك والضغط السكاني باتجاه منطقة واحدة تُستخدم كغيتو مغلق.

بالتوازي، تحدثت وسائل إعلام عبرية عن تعزيزات كبيرة لجيش الاحتلال، وعودة “الفرقة 98” ولواء “الناحل” إلى ساحة القتال في شمال القطاع، بعد انسحابهما المؤقت خلال الأسابيع الماضية على خلفية التصعيد بين الاحتلال وإيران. ووفقًا للتسريبات، تأتي هذه التحركات في إطار نقاشات مكثفة داخل “الكابينت” السياسي-الأمني، حول مستقبل العمليات العسكرية، والخطوة التالية من التصعيد.

وتكشف هذه النقاشات، التي تُسرَّب عمدًا للإعلام العبري، عن استمرار الدفع الإسرائيلي نحو استكمال خطة إفراغ المناطق من سكانها تباعًا، كمقدمة لتنفيذ المرحلة الثانية من خطة “عربات جدعون”، وسط تكرار النمط ذاته: تدمير الأحياء، إصدار أوامر الإخلاء، حشر السكان في رقعة ضيقة، ثم تصوير ذلك كواقع لا مفر منه، تمهيدًا لتطبيع سيناريو التهجير الجماعي.

تطهير عرقي… بغطاء “إنساني”

لم تكن أوامر الإخلاء القسري مجرد خطوات عسكرية ميدانية، بل شكلت حلقة مركزية في عمليات تطهير عرقي ممنهجة استهدفت أحياء ومدن ومخيمات قطاع غزة على امتداد الحرب. وقد وثّقت ورقة علمية صادرة عن مركز الزيتونة للدراسات – أعدها الباحث ضياء نعيم الصفدي – كيف تحاول “إسرائيل” تغليف هذه الجريمة بمظهر قانوني زائف، عبر استخدام أوامر الإخلاء لتحييد المسؤولية عن التهجير القسري، وذر الرماد في عيون المجتمع الدولي.

تُظهر الورقة أن الاحتلال، حين ينوي قصف منطقة في قطاع غزة، يُصدر تحذيرات مسبقة للسكان – تُعرف بـ”أوامر الإخلاء” – في محاولة للإيحاء بالالتزام بالقانون الدولي. غير أن هذا التكتيك لا يُخفي الحقيقة: وهي أن الإخلاء القسري بالقوة، وتحت القصف، يُشكّل انتهاكًا جسيمًا للقانون الدولي الإنساني، ويقع تحت تصنيفات “جريمة ضد الإنسانية”، و”جريمة حرب”، بل وحتى “جريمة إبادة جماعية”.

وبحسب الدراسة، فإن دولة الاحتلال – التي تُعد من أكثر الدول خرقًا لأحكام القانون الدولي – قد ألقت منذ 7 أكتوبر 2023 آلاف المناشير الورقية والإلكترونية على رؤوس سكان القطاع، تطالبهم بإخلاء مساكنهم واللجوء إلى مناطق أخرى داخل غزة، أو التوجه جنوبًا.

وغالبًا ما تُرفق هذه الأوامر بقصف فوري أو وشيك، وتشمل مناطق واسعة، دون توفير أي ضمانات للسلامة أو العودة، بل في كثير من الأحيان تكون أوامر الإخلاء نفسها بمثابة مصيدة للموت.

تُقدَّر أعداد الفلسطينيين الذين أجبروا على النزوح الداخلي – وفق هذه الأوامر – بنحو مليونَي نازح، ما يُمثّل واحدة من أوسع موجات التشريد القسري في التاريخ المعاصر، دون أن يُفتح ملف المساءلة القانونية الدولية بشكل جدي.

ويتجاوز الغرض من هذه الأوامر مجرد إرباك الجبهة الداخلية، بل يستهدف تفكيك البنية المجتمعية ودفع السكان إلى نقطة الانهيار، تمهيدًا لتنفيذ سياسة التهجير الجماعي. وهو ما ظهر بوضوح قبيل التهدئة في يناير 2025، حين نفّذ الاحتلال ما عُرف بـ”خطة الجنرالات” التي امتدت على مدار 100 يوم، وشملت تدميرًا منهجيًا للبيئة الحضرية في شمال القطاع، عبر التجويع، والقصف السجادي، وتفجير البنية التحتية بشكل كامل.

لاحقًا، جرى تطبيق النموذج ذاته في مدينة رفح، التي تحولت إلى مركز لعملية تطهير عمراني غير مسبوق منذ مايو 2024، ولم تتوقف حتى الآن. ومع عودة العدوان، أعادت قوات الاحتلال استكمال سيناريو التدمير الشامل في شمال غزة وخان يونس، بما يكرّس خطة تقطيع القطاع إلى بقع من الركام، تُصنَّف لاحقًا على أنها “غير صالحة للعيش”، في محاولة لتبرير التهجير بوصفه “ضرورة إنسانية”.

وفي هذا السياق، نقلت صحيفة هآرتس عن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قوله خلال لقاء مع ضباط احتياط مطلع مايو: “نخوض حربًا قد تمثل فرصة تاريخية للتخلص من عدد كبير من الفلسطينيين”، مضيفًا أن التدمير في غزة ليس ردًّا على المقاومة، بل جزء من مخطط مدروس لتهجير السكان.

وتقاطع هذا التصريح مع ما قاله وزير المالية وزعيم الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، خلال مؤتمر الاستيطان الذي نظمته صحيفة “ماكور ريشون” في مستوطنة عوفرا، حيث قال: “غزة ستُدمَّر بالكامل”، مشيرًا إلى أن الفلسطينيين سيُدفعون إلى جنوب محور موراغ، ومن هناك سيبدأون “بالمغادرة بأعداد كبيرة نحو دول ثالثة”.

هذه التصريحات، جنبًا إلى جنب مع الوقائع الميدانية، تُغلق باب الشك: إن ما يجري ليس مجرد معركة عسكرية، بل مشروع استراتيجي متكامل لاستكمال نموذج التدمير الشامل، وخلق وقائع ميدانية لا تتيح للنازحين العودة إلى مناطقهم، ما يدفع بالمجتمع الدولي – تحت ذريعة “غياب إمكانية العودة” – إلى التساوق مع الطرح الإسرائيلي للتهجير القسري. وهو ما يتقاطع مع الطرح الذي روّج له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حين تحدث صراحة عن ضرورة التفكير بخيارات “خروج طوعي” للفلسطينيين من غزة بعد انتهاء الحرب.

وتحسم هذه المؤشرات بوضوح، أن ما تشهده غزة ليس مجرد تصعيد عسكري عابر، بل تنفيذ متدرج لسياسات تهجير قسري وتطهير عرقي ممنهج، تحت غطاء العمليات الحربية وأوامر الإخلاء “الإنسانية”. إذ يتقاطع المسار الميداني مع التصريحات الرسمية التي تكشف نوايا واضحة لإعادة هندسة الواقع الديمغرافي للقطاع بالقوة.

ومع استمرار هذه السياسات، يصبح الصمت الدولي تواطؤًا، ويغدو الواجب الإنساني والقانوني أمام المجتمع الدولي هو كسر دائرة الإفلات من العقاب، ووقف هذا المشروع التهجيري الذي يهدد بتصفية الوجود الفلسطيني في غزة.

مقالات مشابهة

  • البنك المركزي الأوروبي يُشير إلى الحذر وسط مخاطر التجارة وتباطؤ التضخم
  • روسيا: فرصة لتسريع نهاية الحرب.. أوكرانيا تحذر من تبعات تأخير الأسلحة الأمريكية
  • روسيا تدعو رعاياها في أذربيجان إلى "توخي الحذر الشديد"
  • أكاديمي: التبادل التجاري بين المملكة وإندونيسيا ارتفع بنسبة 6% خلال عام 2024  
  • روسيا تدعو أذربيجان لعودة علاقات البيلدين إلى مستوى التحالف الاستراتيجي
  • غزة تُفرَّغ بالنار: شبح التهجير للواجهة من جديد
  • مصر والاتحاد الأوروبي يعززان شراكتهما الاستراتيجية: دعم مالي جديد وجهود مشتركة لإعادة إعمار غزة
  • الاتحاد الأوروبي يمول تسليح أوكرانيا من عائدات الأصول الروسية المجمدة
  • روسيا تحقق تقدمًا كبيرًا في أوكرانيا وتسيطر على لوغانسك
  • روسيا تعلن السيطرة الكاملة على إقليم لوغانسك شرقي أوكرانيا