ثلاثون عاما في التعليم بمدارس فلسطين، دربتني على أن أنتبه وأحاول أن أضع اليد الصارمة على الجرح أو الخلل، وما أكثر أماكن الخلل في منظومتنا التعليمية، في فلسطين. كشعب تحت الاحتلال، ولديه خبرة في التصدي لرواية الأعداء، و مع العودة الجزئية الى فلسطين وإقامة المؤسسات والوزارات، توقعت أن تنتبه وزارة التربية الى عوائق بديهية، تخلص منها العالم منذ زمن، أتحدث عن حيز الفنون الضيق في مناهجنا ومدارسنا يكاد يكون جريمة، وطريقة التعامل معها، تخلو تماما من الاحترام، مدرس الفن في مدارسنا، لا ينظر له كمدرس طبيعي، فهو جاهز لإشغال حصص يغيب عنها المدرس، وحصته يمكن الغاءها بسهولة، لصالح مواد أخرى إذا تأخر المدرسون فيها، وعلامات حصة الفن يمكن التلاعب فيها، أما عن التعامل مع النشاطات الثقافية، والمناسبات الاجتماعية والوطنية، فهي مسألة عجيبة، فالفنون تتحول هنا الى حلية خارجية، لا تمت بصلة الى جوهرها.

(اكتبوا قصة قصيرة عن ضرورة الحفاظ على شوارعنا نظيفة، ارسموا لوحة تحكي عن أهمية احترام حقوق الطفل، اكتبوا مسرحية تتحدث عن حقوق الاسرى في سجون الاحتلال).

هذا ما تطلبه المؤسسات من دائرة النشاطات بوزارة التربية فتقوم الوزارة بتشكل لجان التحكيم وهم عادة مفتشو اللغة العربية، ولا علاقة لهم بالابداع والفن، ويتم اختيار الفائزين في مسلخ الفنون والأدب، المعيار الأول للاختيار هو إظهار الجانب الرسمي الذي طلبته المؤسسة، ولا يتم غالبا النظر في أسلوب الطالب وابداعه وطريقته الأدبية ولغته، وهكذا تذبح الفنون، ويتم التعامل معها كبهيمة رخيصة لحمل أفكار تتعلق بمؤسسات تفكر فقط في تنفيذ مشاربع ليكون الممول الأجنبي سعيدا بهذا العمل.

لا أرتاح أبداً للأعمال الفنية التي تستغل من أجل احتفال بمناسبة ما، أخاف على هذه الأعمال من طقسية وحدود وجمود وشعارات المناسبة، باعتبار أن الفنون خيول وحشية حرة وطازجة وغير قابلة للاستجواب أو التفتيش أو الترويض، هل نستطيع أن نقول لخيول الفنون: لا تبتعدي كثيراً في الركض؟ أو خففي من صهيلك، أو احترسي فثمة بحيرة أمامك، من يجرؤ على أن يطلب من خيل كهذا أن يعود إلى الحظيرة مبكراً لأن طعاماً ساخناً يننظره؟

من يقدر على التلفظ بكلمة حظيرة امامه أصلاً؟ تركب الفنون في فلسطين كصهوات، ويتم سوقها كالنعاج الى حظائر الافكار المقننة والمدروسة، لتنحر هناك شر نحر، وتترك نازفة بهاءها وبريتها وحريتها،لا يبقى منها إلا اسمها الخارجي، أما هويتها الحقيقية فتداس بأقدام المناسبة المجرمة.

لست بالطبع من الواقعين تحت ضغط "هستيريا" التحذير من أجندات الممولين وأهدافهم "المريبة" و"الخطيرة"، لا أوافق ولا أفهم تفكير المتورطين النزقين في ذهنية المؤامرة، الذين يرون في كل دعم أوروبي لمؤسساتنا، تخريباً لتراثنا وقيمنا ونهشاً لذاكرتنا الوطنية، أتحدث هنا عن المناسبات الوطنية والعالمية التي يتم الاحتفال بها باستخدام الفنون استخداماً مفرطاً في أنانيته ومحدوديته، ظالماً طبيعة الفنون ولغزهها وهويتها.

أمتعض وأستاء وأحزن، حين تأتيني دعوات للتحكيم في مسابقات للقصة القصيرة أو الشعر أو المسرح، أو الخاطرة، تشرف عليها وزارات الصحة والبيئة والتربية والزراعة.. الخ، يريدون من الطلاب أن يستغلوا هذه الفنون لايصال رسالتهم التربوية أو الصحية أو البيئية، كأن الفنون رسالة ودلالة فقط، كأنها مطايا لافكارهم ورسائلهم.

انهم لا يدركون أن الفنون تمتلك وعيها الخاص وأنساقها الفريدة التي تفترق عن أنساق الواقع ومنطقه، هذه المسابقات أقرؤها كمجزرة جمالية وإنسانية بحق المخيلة -الضحية وروح الاكتشاف والانجراف مع نهر الفن المجهول والهادر، وحرية التمدد واللعب باللغة والتفتت في الزمن والتركيب في الصورة عند طلابنا.

ما يؤلمني هنا هو أنني تورطت في التحكيم بعدد من المسابقات، آخرها كان عن "الفقر في فلسطين"، وأذهلني حجم الميل الى الغيبيات والنزعة الميلودرامية والاستسلام الى القدر والمكتوب والحلم المتأجج بيوم قيامي قادم في كتابات طلابنا وطالباتنا، كما فوجئت بخلو نصوصهم من الطاقة والعمق والتنوع، فـ عوالمهم واحدة: مواجهة الفقر والموت تحت ضرباته، شخوصهم واحدة: أم، أب، إخوة، أخوات، عدو واحد: هو الفقر.

والخطاب واحد: التوسل الى الاقدار لنجدة الاسرة ومساعدة الاخوة الصغار.. الخ.

حدث كل ذلك ليس لأن طلابنا يفتقدون القدرة على الافصاح عن مشاعرهم الخاصة بلغتهم وخطابهم، أو لانهم عديمو الموهبة جمالياً، بل لأن الأسوار التي حشروا داخلها هي التي أنتجت نصوصهم هذه بطابعها الخارجي والسطحي والاستعراضي المفتعل.

ما أود الوصول إليه هنا هو أن مناسبة النصوص أو عنوانها المفروض فرضاً على الطلاب، أوصل كتابات الطلاب الى طريق مسدود ومكرر، وفرغ عالمهم الفني من الانكشاف على الهواجس والأحلام والهموم الأخرى.

وتبث في لغتهم أفق التوقع، وضيق هامش مقاربة و اكتشاف دغل الروح، الذي هو عنوان الفنون ومبتغاها وطريقها، وفوضاها الجميلة. كانوا يعرفون ماذا يراد منهم، لبوا النداء، وقعوا في مصيدة المناسبة وفخ الخطاب المسبق، شاركوا دون قصد في ذبح صدقهم الفني والغاء أحاسيسهم اليانعة العفوية.

هذه هي فنون المناسبات، وهذا خرابها.

المطلوب من وزارة التربية في فلسطين إعادة النظر في مسألة توظيف موظفي دائرة النشاطات، فالمشكلة هو أن موظفي النشاطات الثقافية في الوزارة هم موظفون لا يقرؤون ولا يتابعون نشاطان البلد الثقافية ولا مواهب لديهم أو اسهامات، أدبية أو فنية.. والمطلوب اشراك اتحاد الكتاب ووزرارة الثقافة في رسم سياسة الوزارة ثقافيا، وفتح الباب واسعا أمام أدباء وفنانين عرب وفلسطينيين في الخارج.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی فلسطین

إقرأ أيضاً:

شاهد // عرض كشفي مهيب لـ 10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بصعدة

يمانيون../
نظمت اللجنة الفرعية للمدارس الصيفية بمحافظة صعدة عرضاً كشفياً مهيبا لـ 10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بمناسبة اختتام الأنشطة والدورات الصيفية بالمحافظة للعام 1445هـ.

وخلال العرض الكشفي المهيب أشاد عضو المجلس السياسي الأعلى، محمد علي الحوثي، بهذا العرض الكشفي المهيب لطلاب المدارس الصيفية بمحافظة صعدة الذين يحملون العلم النافع وينهلون من القرآن وثقافته.

وأشار الحوثي إلى آثار هذه الثقافة القرآنية التي وصلت اليوم إلى البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وأوصلت رسائل الشعب اليمني إلى كل مكان نصرة لإخوانهم في فلسطين.

وقال : لنقل لأولئك الأعداء، إن كان أغاظكم افتتاح المراكز الصيفية ودعوة القائد لها فنقول لكم، هذا العرض البهيج في صعدة هو فقط نموذج لعشرة آلاف طالب من مائة وعشرين ألف طالب كانوا في المراكز الصيفية على امتداد مديريات محافظة صعدة فقط.

ولفت محمد علي الحوثي إلى أن المراكز الصيفية بدأت بعشرات، واليوم بعشرات الآلاف بل مئات الآلاف، يتحصنون بالقرآن الكريم وبثقافة العظيمة ، ويجسدونها نهجاً وسلوكاً عملياً ،فهم قادة المستقبل، وبإذن الله تعالى على أيديهم ستُهزَم الصهيونية العالمية.

وأضاف “هؤلاء هم مدد فلسطين، وهؤلاء هم رجال القائد وهم أنصار الله وهم أبناء الحسين وهم جنود علي وهم كتائب محمد وهم أبناء القرآن، وبهم وعلى أيديهم سيكون الفتح بإذن الله”.

واتسم العرض الكشفي، الذي حضره أمين عام محلي المحافظة محمد العماد، ورئيس اللجنة الفرعية للمدارس الصيفية وكيل المحافظة يحيى الحمران ووكلاء المحافظة، بمظاهر الهوية الدينية والروحية الجهادية للطلاب الملتحقين بالدورات الصيفية، واللياقة البدنية والمهارات العالية التي اكتسبوها خلال فترة برنامج الأنشطة الصيفية.

وعكس الطلاب، وهم يحملون العلمين اليمني والفلسطيني والرايات المعبِّرة عن التضامن مع فلسطين وقضايا الأمة، القيم والمبادئ الثورية في تبني مشروع الجهاد وإيصال رسائل للعالم العربي الصامت، والمتفرج ازاء حرب الإبادة في قطاع غزة، بأن اليمن بجيله الواعد ماضياً في نصرة فلسطين ومقدسات الإسلام.

مقالات مشابهة

  • التعاون الاسلامي تعرب عن استنكارها لمواقف الأرجنتين العدائية تجاه القضية الفلسطينية
  • ما بعد طوفان الأقصى.. مواجهة عدوان الاحتلال بسلام الشجعان أو الرّهان الخاسر
  • شاهد // عرض كشفي مهيب لـ 10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بصعدة
  • رابطة العالم الإسلامي تطلق 11 مبادرة لحشد الدعم الإعلامي الدولي للاعتراف بدولة فلسطين
  • رابطة العالم الإسلامي تطلق 11 مبادرة لحشد الدعم الإعلامي للاعتراف بدولة فلسطين
  • رابطة العالم الإسلامي تطلق 11 مبادرة لحشد الدعم الإعلامي الدولي للاعتراف بدولة فلسطين
  • عرض كشفي مهيب لـ10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بمحافظة صعدة
  • عرض كشفي مهيب لـ 10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بصعدة
  • عرض كشفي مهيب لـ 10 آلاف من طلاب المدارس الصيفية بمحافظة صعدة
  • محمد محمود: الفن لازم يساعد في دعم القضية الفلسطينية