الدّراما المصريّة.. الماضي المَليح والحاضر القبيح
تاريخ النشر: 30th, March 2024 GMT
دخلت الدّراما التلفزيونية بيوتَ المصريين منذ العام 1962، أي عقب إنشاء "مبنى التلفزيون " بعامين، وكان روّاد هذا الفن ثلاثة؛ هم: يوسف مرزوق، وحمادة عبدالوهاب، ونور الدّمرداش، وجاء من بعدهم جيل التفوق والانتشار في المحيط العربي ورموزه: محمد فاضل، وإسماعيل عبدالحافظ، ويحيى العلمي.
ومن حيث الشكل، بدأ المسلسل بسبع حلقاتٍ، تتناول موضوعًا واقعيًا، وكانت "السُباعيّة"، مناسبة للظروف الإنتاجية والفنية، فالأجهزة المستخدمة في التّصوير بدائية، والميزانية المخصصة محدودة لا تكفي غير تكاليف إنتاج الحلقات السبع.
وكانت جهة الإنتاج هي "التلفزيون " نفسه، وفيما بعد ظهر "اتحاد الإذاعة والتلفزيون "، وتحوَّل قطاع "إنتاج الفيديو" إلى قطاع ضخم القدرات والإمكانات، ولكن في سبعينيات القرن الماضي، جرت الاستعانة بالمخرجين والممثلين المصريين في أستوديوهات: "عجمان " و"الكويت " و"الرياض " و"سوسة " في تونس، وعمّان في الأردن.
هيمنة الدراما المصريةومع توسُّع الدول العربية في إنشاء "التلفزيونات " ازدهرت تجارة المسلسلات المصرية، وأثرى الفنانون والفنيون المصريون العاملون في "إنتاج الفيديو"، وأصبحت فقرة "المسلسل المصري " ثابتةً في خرائط برامج التلفزيونات العربية الحكومية، وهذا هو ما قصدته بالماضي المليح، الذي كانت فيه "الهيمنة الدرامية" المصرية تخفي عَوَار الانحسار السياسي، بل العزلة السياسية التي فرضتها ظروف إقدام الرئيس المصري "السادات" على توقيع اتفاقية الصلح المنفرد مع إسرائيل، وهي اتفاقية تصدَّت لها أنظمة "جبهة الصمود والتصدّي ".
ورغم إقدام دول جبهة الصمود والتصدي، على مقاطعة "نجيب محفوظ"، ومنع عرض أفلامه؛ لتأييده "كامب ديفيد"، إلا أن المسلسلات التي أنتجتها الشركات العربية معتمدةً على خبرات مصرية، ظلت تعرض على القنوات الحكومية في الدول المنتجة، خاصة دول الخليج العربي.
وفي ثمانينيات القرن الماضي زاد الإنتاج الدرامي المصري، وكانت باكورة قطاع الإنتاج حلقات مسلسل "ضمير أَبْلَة حِكْمت "، وقامت بدور البطولة فيه الفنانة "فاتن حمامة " وكتب القصة والسيناريو "أسامة أنور عكاشة " وأخرجته إنعام محمد علي، وكانت قضيته هي: "أوضاع التربية والتعليم "، والتحوُّل من نظام "رأسمالية الدولة "أو "الاشتراكية العربية " إلى "الانفتاح الاقتصادي "، وأثر هذا التحوُّل على العلاقة بين "التربية " والعملية التعليمية في المدارس الخاضعة لوزارة التّعليم.
ثم اهتدى "صفوت الشريف " وزير الإعلام المصري، ومعه مساعده "ممدوح الليثي" رئيس قطاع الإنتاج في "اتحاد الإذاعة والتلفزيون"، إلى كَنز المخابرات، فكان "صالح مرسي "، هو الذي فتَّش عن هذا الكنز، وجعله في صورة مسلسل مشهور هو: "رأفت الهجَّان ".
وهنا يمكن القول؛ إن المسلسل التلفزيوني أصبح البديل الفعلي للعمل العسكري أو السياسي، فالمغامرة التي أقدم عليها جهاز المخابرات العامة المصري في حقبة "الحروب العربية الإسرائيلية "، حوَّلها فريق الممثلين بقيادة المخرج "يحيى العلمي " إلى أداة لإلهاب الشعور الوطني، بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي أُطلق عليها: "انتفاضة الحجارة" وكان ـ رأفت الهجَّان ـ أداة من أدوات وزارة الإعلام المصرية لطمأنة "الشعب المصري " على أنّ "النظام الحاكم " مازال يرى في إسرائيل العدوَّ الوحيد، وأن "جهاز المخابرات المصري " يحرس مقدّرات الوطن.
تخصص وإبداعوفيما بعد خرج الكاتب "محمد حسنين هيكل " في حلقات أذاعتها قناة الجزيرة بعنوان: "مع هيكل ـ تجربة حياة "، ونفى وجود عملية "رأفت الهجَّان "، وتحدث عن عملية "عصفور"، وهي عبارة عن نجاح حققه جهاز المخابرات المصري تمثل في زرع أجهزة تنَصّت في السفارة والجامعة الأميركيتين بالقاهرة، وكانت العملية ناجحةً في نقل ما يفكّر فيه الأميركيون إلى أسماع الرئيس عبدالناصر.
والسمات العامة للدراما المصرية في حقبة "الماضي المليح" يمكن تلخيصها في اعتمادها على متخصصين مبدعين مدرَّبين تدريبًا رفيع المستوى، ومعاهد التدريب هي معاهد أكاديمية الفنون التابعة لوزارة الثقافة: "معهد الفنون المسرحية، معهد السينما، معهد التذوُّق الفنّي "، وأستوديوهات التلفزيون نفسها كانت بها "كوادر" مؤهلة لعمل مسلسل جيد من الوجهة الفنية.
وكان المسلسل المصري في تلك الحقبة، يعتمد على الأدباء، في كتابة "السيناريو"، والدليل نجده في مسيرة "أسامة أنور عكاشة"، فهو في الأصل قاصّ وروائي، وكانت بداية ظهوره في سوق الإنتاج الدرامي مع قصة للكاتب "سليمان فياض"، كتب "سيناريو" عنها، وأذيعت وحققت نسبة مشاهدة عالية، الأمر الذي جعل مخرجي التلفزيون المصري يعتمدون عليه.
وفيما بعد أصبح مسلسل "ليالي الحِلميّة " بأجزائه المتعددة، علامةَ من علامات الدّراما التلفزيونية، ومع تنوُّع موضوعات الدراما المصرية، زاد الاعتماد على الأدباء، فعلى سبيل المثال كان مسلسل: "على هامش السيرة "، ومسلسل: "محمد رسول الله " من تأليف الدكتور طه حسين، وعبد الحميد جودة السحّار، وكان مسلسل "الزَّيني بركات "، وهو تاريخي عن حقبة الدولة المملوكية من تأليف جمال الغيطاني.
ضحالة وانهياروفي زمن "الماضي المليح " قام "محسن زايد" السيناريست الموهوب بتحويل ثلاثية نجيب محفوظ إلى حلقات درامية تلفزيونية، واتسعت دائرة الإفادة من روايات الأدباء حتى شملت بهاء طاهر، وعبد الوهاب الأسواني، ويحيى حقي، وإبراهيم عبد المجيد، وأحمد الشيخ.
وجرت في النهر مياه كثيرة، فدخلت الدراما المصرية حقبة "الحاضر القبيح"، فسقطت في قبضة "الاحتكار"، والاحتكار هنا شمل كل شيء، بداية من الممثلين الذين أصبحوا وجوهًا دوَّارة، تتكرر في كل المسلسلات.
وهي "ِشلّة " ترضى عنها الجهات المتحكمة في مصائر العباد والبلاد، وتربطها صلات القربى والمصاهرة على طريقة العبارة التي وردت في أغنية للفنانة شادية في مسرحية "ريا وسكينة " التي تقول: "وناسبنا الحكومة وبقينا قرايب"، فكُل نسيب للحكومة في مرحلة الحاضر الدرامي القبيح، أصبح نجمًا، وكل فنانة مرغوبة من جانب المنتج أصبحت نجمة بالإكراه، وأصبحت "سرقة الأفكار" سمة من سمات الدراما المصرية، بداية من العام 2014.
وأصبح اجترار الأعمال السينمائية القديمة التي جرى إنتاجها في الستينيات والسبعينيات، والجَوْر عليها سمةً من سمات "عصابة الإنتاج " التي احتكرت السوق، وسيطرت على القنوات وفرضت نفسها بالقوة، فأصبح المشاهد المصري كاليتيم على مائدة اللئيم، لا يشبع ولا يتمتع ولا يفهم شيئًا.
لأن المسلسل أصبح مجرد وعاء إعلاني، تذاع الإعلانات فيه بنسبة تفوق المشاهد التمثيلية، والذين لا يملكون وسيلة ترفيه غير التلفزيون في مصر هم غالبية الشعب في القُرى والمدن الصغيرة، وتحوَّل "شهر رمضان " إلى شهر كابوسيّ، ضاغط على الأعصاب والقلوب في ظل ظروف اقتصادية قاسية تعصف بالطبقات الشعبية، وتفرض عليها الإقامة الجبرية داخل البيوت.
وفي حقبة "الحاضر القبيح" انهارت عناصر الدراما المصرية، وانكشفت ضحالتها في مواجهة الدراما السورية، التي نجحت في تقديم موضوعات مصرية أو سبق للدراما المصرية تقديمها وتفوَّقت تفوقًا ملاحظًا، مثل مسلسل: "علي الزّيبق " الذي قدمته الدّراما المصرية منذ عشرات السنوات، لكن النسخة السورية تفوقت بما أتيح لها من ممثلين موهوبين وإمكانات إنتاجية عالية، وكذلك "الظَّاهر بيبرس" الذي أبدع فيه طاقم الفنانين السوريين، خاصةً الفنان "عابد فهد" الذي قدّم شخصية "بيبرس".
ومازالت الدراما المصرية تواصل انهيارها وتعيش حقبة الحاضر القبيح، وسوف تظل هكذا حتى يأذن الله بمولد فَجر جديد وعصر جديد، لا احتكارَ فيه ولا جماعات مصالح فاسدة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الدراما المصریة
إقرأ أيضاً:
تنمية ليبيا بين الماضي المُهدر والمستقبل الممكن
مهما اختلفت المسميات، يبقى التعريف شبه المتفق عليه للتنمية أنها تهدف في النهاية إلى تحسين حياة الأفراد والمجتمعات، عبر عدة محاور متكاملة تؤثر وتتأثر ببعضها البعض، مثل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وكذلك الثقافية.
في ليبيا، يظل الحديث عن التنمية الاقتصادية موضوعًا للجدل والنقاش الدائم: إلى أين وصلنا؟ وما هي محاور المسار التنموي؟ وبينما يكثر الحديث عن الابتكار والمواكبة، لا يُمنح إرث التنمية المعلّقة الاهتمام الجاد الذي يستحقه.
في عالم الاقتصاد، لا تُقاس جدوى المشروعات بالوسط السياسي المحيط بها أو الجهة التي تتبناها. وعليه، فإن العديد من المشاريع التنموية التي أُعلن عنها في عهد النظام السابق كانت على صلة مباشرة بحاجات المواطنين، وقادرة على تقديم حلول لمشكلات حرجة، لكن ما أحاط بها من فساد سياسي وإداري أفسد مسارها وواقعها، ويبرز مشروع القطار الليبي هنا كمثال على ذلك.
وينطبق الأمر نفسه على العديد من المشاريع التي اعتمدت على التعاون الدولي، إذ كانت في جوهرها خطوة صحيحة لتعزيز التنمية والاستفادة من الالتزامات الدولية. ومع ذلك، فإن شبهات الفساد والتراخي الإداري والقصور القانوني أضاعت سنوات من جهود التنمية، التي كان من الممكن أن تُحدث فارقًا ملموسًا في حياة المواطنين وفي مسار الاقتصاد الليبي.
استعادة الحقوق وتحويل الالتزامات إلى واقع
هذا المسار المهدر للتنمية أدركته حكومة الوحدة الوطنية، وتجلّى بشكل واضح في مراسم توقيع تنفيذ القطاع الفرعي “العزيزية – رأس اجدير” من مشروع الطريق السريع “امساعد – رأس اجدير”، أحد أكبر المشاريع الاستراتيجية للبنية التحتية في ليبيا، وذلك بحضور رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، ونائب وزير الخارجية الإيطالي ممثلًا عن الحكومة الإيطالية.
وخلال كلمته في حفل التوقيع، أكد رئيس الوزراء أن هذا اليوم يسجّل لحظة وطنية فارقة لاستعادة حقوق ليبيا، وتحويل التزامات دولية طال انتظارها إلى واقع ملموس. المشروع يُنفّذ بتمويل مباشر من الحكومة الإيطالية، في إطار اتفاقية الصداقة والشراكة والتعاون الموقعة بين ليبيا وإيطاليا في 30 أغسطس 2008، والتي نصّت على التزام الجانب الإيطالي بتمويل مشاريع للبنية التحتية بقيمة خمسة مليارات دولار أمريكي.
إحياء مشروعات واتفاقيات خاملة بهذا الحجم يمثل خطوة تنموية هامة، قادرة على دفع البلاد اقتصاديًا لسنوات، مع ضرورة التركيز على سلامة المنهجية والتنفيذ لضمان تحقيق أثر ملموس في الاقتصاد وحياة المواطنين.
تصحيح البوصلة في الاستثمار الأفريقي
لا يمكن الحديث عن إرث التنمية المهدور دون الإشارة إلى ملف الاستثمارات الخارجية الليبية. فعند تقييم التجربة خلال عهد القذافي، قد تبدو وكأنها خاطئة بالكامل، لكن الحقيقة أن التوجه لم يكن خاطئًا في جوهره، بل كان التنفيذ غير متزن.
كان النهج يتسم بضخ استثمارات ضخمة في بيئات أفريقية غير مستقرة، وتحميل الاستثمار شعارات سياسية مثل “القضاء على الهيمنة الغربية” أو تقديمه كردّ فعل على العزلة الدولية. لكنه في جوهره افتقر إلى رؤية اقتصادية واضحة، ما حوّل المشاريع إلى مبادرات عشوائية ضعيفة الإعداد، غالبًا بلا تنظيم مؤسسي أو وضوح قانوني، الأمر الذي جعلها عرضة للفشل أو النزاعات الطويلة أو الاستيلاء.
صحوة محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار
وفي سياق الاستثمار الخارجي، تبرز محفظة ليبيا أفريقيا للاستثمار كإحدى الجهات المسؤولة عن إدارة بعض هذه الاستثمارات.
المحفظة التي تأسست عام 2006 برأس مال يقارب خمسة مليارات دولار، عانت من ظروف صعبة منذ البداية؛ بدءًا من الاندفاع الاستثماري في بيئات غير مستقرة، مرورًا بالأزمات العالمية، ووصولاً إلى القيود الدولية التي كبّلت العديد من الأموال الليبية في الخارج، حتى أصبح مسارها غير واضح.
لكن مع وصول مجلس إدارة جديد برئاسة وزير الاقتصاد الليبي السابق مصطفى أبوفناس، يمكن القول إن المحفظة شهدت صحوة ملحوظة وشجاعة في اتخاذ المسار. وقد صرّح أبوفناس سابقًا بعد شهور من تولّيه منصبه بأن إدارة المحفظة تركز على توظيف مواردها في الاقتصاد الليبي الداخلي، مع الحفاظ على استثماراتها الخارجية عبر آليات مناسبة لكل استثمار وفقًا لحالته.
وشدد كذلك على سدّ القصور في التواصل مع الرأي العام بدرجة كبيرة من الشفافية. وقد انعكس ذلك بوضوح على منصات المحفظة الرسمية، التي تنشر بشكل شبه يومي تفاصيل اجتماعاتها وتوجهاتها، في أداء مؤسسي متطور ولافت للانتباه.
تناغم مع الاحتياجات الوطنية
الأهم هنا أن مسار المحفظة في التنمية الداخلية يمكن القول إنه واضح ومحدد، حيث تتوافق توجهاتها مع أهداف الدولة واحتياجاتها.
ومن صور ذلك مصنع أسمنت مصراتة الذي تعيد المحفظة تفعيله بعد توقفه منذ 2011، لدعم صناعة وطنية للأسمنت وتحقيق الاكتفاء الذاتي ودعم مسار البناء والإعمار.
كذلك مشروعات تحسين جودة الحياة التي أعلنت عنها، مثل المدينة الذكية في تاجوراء، والمشروع السياحي في غوط الرمان.
ومن ثم مشروع طريقي العبور (ليبيا أفريقيا لممري العبور)، المشروع الأبرز والأكثر طموحًا، الذي تسعى المحفظة لتنفيذه بالتعاون مع عدة جهات وتحت إشراف وزارة المواصلات.
ويمثّل المشروع نقلة نوعية نحو تعزيز الربط الداخلي والإقليمي، من خلال إنشاء ممرين استراتيجيين يربطان ليبيا بالنيجر والسودان، عبر مساري “مصراتة – تمنهنت – أغاديس” و”بنغازي – الكفرة – السودان مرورًا بتشاد”. وهو مشروع ذو جذور تاريخية مرتبطة بمحاولات ليبيا السابقة لإحياء تجارة العبور واستغلال موقعها اللوجستي، مما يعني أنه يُوضع تحت مظلة مشروعات التنمية المعطلة. كما أنه على تماس مباشر مع مشروع القطار الليبي، حيث تشمل الخطط الفنية، إلى جانب الطريق البري، إنشاء بنية تحتية متكاملة تتضمن خطوط سكك حديدية.
وقد شهدت جهود إحيائه تعاونات جادة واجتماعات مطولة بين المحفظة ووزارة المواصلات، حتى جاء القرار الحاسم لمجلس الوزراء رقم (535) لسنة 2024، الذي أذن للمحفظة بالتعاقد لإعداد دراسات الجدوى، وطرح المشروع للاستثمار، كما قضى بتشكيل لجنة مشتركة تضم ممثلين عن وزارة المواصلات والمحفظة وعدة جهات حكومية أخرى.
المحفظة واللجنة العليا، وبحسب المتابعة الصحفية المستمرة لتحديثات المحفظة، تبدوان وكأنهما تخطوان خطوات استراتيجية ودبلوماسية مهمة، من أبرزها اجتماع المحفظة، ممثلة في أبوفناس وبرفقة مدير إدارة التخطيط الاستراتيجي، مع ممثلي مفوضية الاتحاد الأفريقي، والذي انتزعت فيه المحفظة دعمًا رسميًا للمشروع، مع ضمان تبنيه ضمن برنامج تطوير البنية التحتية في أفريقيا (PIDA).
كما نجحت اللجنة في الاجتماع بالقائم بأعمال سفارة النيجر لدى ليبيا، حيث جرى التوافق على الشروع في إعداد مذكرة تفاهم تُشكل إطارًا أوليًا للتعاون المشترك بين البلدين فيما يتعلق بالمشروع، وهو الأمر نفسه مع القائم بأعمال سفارة نيجيريا.
وهنا يجب الالتفات إلى حقيقة مهمة، وهي أن ملف المشروعات ذات البعد الإقليمي، وكذلك ملف الاستثمارات الخارجية، ليس فقط في حاجة لإدارته من قبل اقتصاديين، بل من الضروري أن يكون الاقتصادي ملمًا بالعمل الدبلوماسي.
وبالنظر إلى السيرة الذاتية لأبوفناس كمثال، فإلى جانب مؤهلاته العلمية المنشورة بسيرته الذاتية (بكالوريوس العلوم السياسية من كلية الاقتصاد بجامعة بنغازي، ودبلوم عالٍ في العلاقات الدولية)، فإن تواجده في مناصب ذات أبعاد دبلوماسية سابقة مثل “مدير التعاون الدولي بوزارة الصناعة الليبية” و”منسق أعمال غرف التجارة والصناعة بالاتحاد المغاربي”، إضافة إلى كونه وزيرًا سابقًا للاقتصاد، يؤهله ليكون اسمًا ذا ثقل وحجر أساس في المشروعات الاستراتيجية التي تسعى المحفظة لتنفيذها، وأحد القادرين على فك الاشتباك في ملف الاستثمارات الخارجية. وهذا ما نحث عليه دائمًا في اختيار من يتولون الملفات الاستثمارية الحساسة: أن يجمع المختار بين الكفاءة الاقتصادية والقدرة الدبلوماسية.
الانتصارات القانونية ودورها في استعادة الاتزان
ويمكن رؤية الانعكاس الإيجابي لهذا النهج في ملف الاستثمارات الخارجية للمحفظة، في صحوة شركة أولى إنرجي التابعة. فبعد تخبطات عديدة، تعود الشركة لاستعادة عافيتها وتعزيز أدائها التشغيلي، وتحسن أدائها المالي وفقًا للبيانات المالية المعلنة من قبل المحفظة.
ويبرز هنا رفع الحظر عن الشركة في موريشيوس عام 2025، ما يعني استعادة كامل الأهلية القانونية والتحرك بحرية دوليًا، وهو إنجاز قانوني مهم ينسجم مع الأداء الدبلوماسي للمحفظة.
وفي المسار القانوني، سجلت المحفظة انتصارًا مهمًا منذ شهور في قضية الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ومعاونيه، بإلزامهم بدفع 8.3 ملايين يورو لصالح المحفظة كتعويض عن أضرار مادية ومعنوية.
وفي تقييم الأداء العام للمحفظة، لا يمكن القول إن الأمور مثالية بالكامل، خاصة أن العقبات ضخمة، لكن يمكن الجزم بأنها على المسار الصحيح في معالجة مشكلات الاستثمارات الخارجية، عبر الجمع بين المسارين القانوني والدبلوماسي، مع تركيز جاد على تنفيذ مشروعات قادرة على تغيير معادلة التنمية في ليبيا. وهو مسار نتمنى استمراره وتحقيقه.
ومن خلال ما استعرضناه، كمثال على ذلك المحفظة، يتضح أن جهود الدولة في إنعاش المشروعات الاستراتيجية وتنظيم الاستثمار الخارجي تسير على مسار متزن، ورغم بعض التعثرات المتوقعة بفعل ضخامة التحدي، فإن هذا التنسيق يعكس جدية الجهات المعنية ويشكّل خطوة إيجابية في دفع عجلة التنمية وتحقيق أثر ملموس للمواطنين.
وفي الختام، يظل مسار الدولة نحو إحياء المشروعات المتوقفة وتنقية الإرث الاستثماري خطوة أساسية لبناء قوة اقتصادية وسياسية مستدامة، تعزز جودة الحياة وتفتح آفاقًا أوسع للتنمية الوطنية.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.