التخابر الأجنبي وموازين القسط
تاريخ النشر: 7th, April 2024 GMT
يعتقد كثير من السودانيين أن السلطة القائمة في بلادهم، وبحكم الأمر الواقع قدرا، تقاعست وقتاُ طويلاً في ممارسة سلطاتها في مضمار الأمن الخارجي، وخاصة فيما يتعلق بمساءلة من ينتحل إسمها فيتحدث بإسم أهل السودان في الخارج، كما هو الحال من سلوك بعض معارضيها وعديد الناشطين السياسيين في الشتات، دون تفويض منها، وبما ترتب عليه تأثيرات أضرت بالأمن الوطني، وحماية المواطنين ومكتسباتهم، وسمعة بلادهم بالخارج، وتأجيج نيران الفتن الدموية الغادرة.
ولعل مرجع التهاون المتطاول في الحالة السودانية جاء نتيجة لإلغاء قانون الأمن الوطني، وتشريد كوادره منذ أغسطس 2019، ومع ما تبع ذلك من إجراءات الفصل التعسفي الجائرة لكثير من الدبلوماسيين وموظفي الخدمة المدنية الذين طالتهم الأيدي المسيسة والظالمة، دون قانون ولا محاكمات ولا مساءلة، حتى قيض الله الدكتور محمد علي أبو سبيحة، قاضي المحكمة العليا، ليبطل القرارات الظالمة بالقانون المعتمد والساري النفاذ.
فمن حيث السوابق القانونية وأدلتها تبرز الولايات المتحدة التي تعتبر من أكثر الدول في العالم حساسية إزاء إفشاء أسرار الدولة، أو التحدث بإسمها من قبل مواطنين غير مصرح لهم بحكم القانون. إذ تفرض على الرؤساء المنتهية ولاياتهم والوزراء، وعناصر الاستخبارات السابقين وغيرهم من المسئولين في مفاصل الدولة، قوانين صارمة وحاسمة، تحدد كيفية إعادة توظيفهم خارج القطاع الحكومي.
فقد أجاز الكونغرس القانون المعروف بقانون لوقان The Logan Act منذ عام 1799 وفي عهد الرئيس جون آدمز، لحماية الدستور والجمهورية التي كانت تتربص بها امبرطوريات وممالك العالم القديم الدوائر، بعد إعلان الجمهورية عام 1776، ولا يزال هذا القانون ساريا.
ويحاول الجمهوريون في الكونغرس، منذ فترة، استدعاء حيثياته، لمحاكمة هنتر بايدن، نجل الرئيس الحالي، الذي يتهمونه بالتخابر مع مسئولين في الإتحاد الروسي دون تفويض رسمي.
كما تطال الاتهامات على ذات النسق، ومنذ عام 2013 الصحفي الاستقصائي إدوارد سنودن، الموظف السابق في وكالة الأمن القومي الأمريكي NSA وصاحب منصة ويكليكس المتخصصة في نشر الأخبار الكاشفة لتآمرات الدول وأجهزة استخباراتها، وحبائل مصائدها التي تستهدف بها المستكبرة منها مستضعفيها. حيث تطارده مذكرات المدعي العام الأمريكي المتلاحقة ليقدم للمحاكمة في أمريكا ونقله من بريطانيا التي يقيم بها لاجئاً سياسياً.
وفيما يتعلق بحماية وحساسية الأمن القومي للدول عموما، تحضرنا محاكمة الدكتور محمد مرسي رئيس مصر السابق، الذي وجهت له تهمة التخابر مع الأجانب وتهديد الأمن المصري عام 2013 وظلت محاكمته شاهرة تتناقلها الفضائيات الدولية حتى لحظة سقوطه في منصة الإتهام على رؤوس الأشهاد.
أما في الحالة السودانية، فإن إقدام الدكتور عبد الله حمدوك، رئيس الحكومة الانتقالية خلال الفترة (2019 إلى 2021) في سابقة غير معهودة للسودانيين، وعلى التواصل المكشوف مع رؤساء دول وحكومات ومسئولين أجانب، وإصدار تقارير حول لقاءاته تلك على منصات التواصل الاجتماعي، ومن تلقاء اعتراف بعض المنسوبين له بتلقيهم تمويلا من جهات أجنبية، دون الكشف عن مصادرها، ولا برامجها ومشاريعها الموجهة للوطن، ولا الكشف عن بنود الصرف والمستندات المؤيدة، فضلاً عن موقع السودان وشعبه من كل ذلك، وفي ظل انعدام أي تفويض من سلطات الأمر الواقع، ولا من الحكومة التي كان الدكتور حمدوك رئيساً لها ثم قدم استقالته منها، رغم إصرار غالبية شعب السودان حينها على استمراريته بنهج مستقل، يعتبر مخالفة صريحة لروح القانون، والعرف الساري بين الدول والحكومات، كما يخالف الذوق العام، والإرث السوداني لسلوك رؤساء الحكومات الديمقراطية المدنية، من لدن الزعيم إسماعيل الأزهري، والإمام الصادق المهدي، ومحمد أحمد محجوب، و سر الختم الخليفة و د. الجزولي دفع الله وحتى المهندس معتز موسى، الذي لم يصرح حتى اليوم لأية جهة أجنبية بما كان من أمره إبان رئاسته لحكومة السودان أخريات عهد الإنقاذ.
ومن تلقاء ذلكم واستشراء ذلكم النشوز السياسي من دكتور حمدوك، فإن هذا السلوك يدخل في بوح وساحات مهددات الأمن الوطني ودون الحاجة لكثير تأمل.
فالسودان منذ أبريل 2023 ظل في حالة حرب مفروضة، ويعلم الكل أنها ممولة ومسنودة بمرتزقة أجانب، وقد أكدت ذلك كل التقارير الموثقة الصادرة من المنظمات الدولية المتخصصة ومنها الأمم المتحدة.
وبالتالي فإنه يحق للدول في مثل هذه الحالات أن تستعصم بإجراءات استثنائية فوق العادة، لحماية أمنها القومي، إن لم يكن لها من القوانين ما يجرم مثل هذه الأفعال المنكرة عرفاُ.
بيد أن الواقع الراهن، والفوضى الإدارية التي ضربت أطنابها في ربوع البلاد، وغياب السلطة التشريعية المنتخبة والشرعية، منذ أبريل 2019 يفرض على سلطة الأمر الواقع المتمثلة في مجلس السيادة توجيه مكتب النائب العام بتوضيح القانون الذي يجرم هذه الأفعال، وحتى يعلم السودانيون جميعا أن إفشاء أسرار بلادهم للآخرين، ليست هملاُ سائباً، يتشدق بها كل من هب ودب، تكسباً وارتزاقا أو بلاهة وسذاجة، بل هي جريمة ضد الدولة تعاقب عليها قوانين كل الدول ولن يكون السودان في هذا استثناء.
ولكيلا تقع الحكومة القائمة اليوم في زلة أخلاقية وقانونية كمن سبقتها من عشوائية إصدار القرارات، وجزافية الأحكام والإجراءات، فيتعين أن تشكل محكمة من قضاة السودان المعتمدين في هذا الاختصاص، لتفصل في هذا الأمر المهم والهام، حماية للوطن والمواطن، وإعلاءا لقيمة العدل ومبادئه التي قامت بها السموات والأرض، واستدراكا للسنن الراتبة التي لا تتبدل ولا تتحول، بأن هلاك الأمم مرتهن بسلوكها الظالم، وأن بقائها يستند على جنوحها للعدل وبسط موازين القسط.
د. حسن عيسى الطالب
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
أمريكا.. كيان إرهابي فوق القانون الدولي
فعلتها الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى، ولن تكون الأخيرة، بالعدوان السافر على دولة ذات سيادة، خارج الإرادة الدولية، وبتجاوز كل مؤسسات المجتمع الدولي، وعلى رأسها مسمّى “مجلس الأمن” وهيئة الأمم المتحدة.
فعلتها الغطرسة الأمريكية سابقا مع العراق الشقيق واليوم تعيد الكرّة مع إيران، في الأولى بذريعة “امتلاك أسلحة الدمار الشامل” والتي تبيّن لاحقا أنها مجرد فرية مفبركة لتدمير قوة عربية صاعدة، واليوم بحجة “منع طهران من تطوير السلاح النووي”.
الكيانات الصهيونية والإرهابية من إسرائيل إلى أمريكا، مرورا بفرنسا وبريطانيا، يملكون كل أنواع الأسلحة النووية والفتّاكة، بينما ليس من حق الآخرين، في منطق الغاب الدولي، تطوير البرامج النووية ولو كانت لأغراض سلمية، وتدمّر خارج قرارات الهيئات الأممية، والتي يتمّ تجاوزها مع أنها أجهزة شكلية وظيفية في خدمة الإمبريالية الاستعمارية الجديدة.
إن سلوك الاحتلال الإسرائيلي وراعيه الأمريكي وحليفه الفرنسي، يثبت مجدّدا أنّ هؤلاء مجرد كيانات إرهابية لا تلتزم بأي قانون دولي ولا عرف إنساني أخلاقي، بل تحرّكها غرائز القوة الحيوانية، وكل شعارات الحداثة المزعومة ليست سوى عناوين تخدير للأمم المستضعفة، كما يثير التساؤل حول جدوى “مجلس الأمن الدولي” ودوره في ضمان السلم العالمي؟
لطالما صدّعت الولايات المتحدة الأمريكية رأس العالم بدعوى “الدول المارقة”، وهي تلاحق أنظمة رافضة لهيمنتها الامبريالية، وأداء دور الحارس لمصالحها المحلية والإقليمية، في حين تشهر أمريكا شعارات “تهديد السلام الدولي” و”انتهاك حقوق الإنسان” و”محاربة الإرهاب” و”أسلحة الدمار الشامل” ذرائع للإطاحة بها، بعد شيطنتها سياسيا وإعلاميا وأخلاقيا أمام الرأي العام الدولي.
غير أن الحقيقة القائمة على الأرض منذ نصف قرن، على الأقل، هي أن أكبر دولة مارقة في التاريخ المعاصر هي الولايات المتحدة الأمريكية وليس غيرها، باعتبار أن المعيار الرئيس في تصنيف الكيانات الدولية هو مدى التزامها بالقوانين الإنسانية وقرارات الشرعية الأممية.
الوقائع تثبت أن أمريكا وراء صناعة الإرهاب الدولي في أكثر من مكان، سواء عن طريق مخابراتها الأمنية، لأهداف تقع على الأجندة الإستراتيجية، أو كردّ فعل على ممارساتها العنصرية والإنجيلو- صهيونية.
أمريكا هي أول دولة تحتقر القانون الدولي، بدعمها للكيان الصهيوني منذ 1948 خارج المواثيق الأممية، مستغلّة نفوذها بامتياز “الفيتو”، داخل مجلس الأمن، لتعطيل حماية حقوق الإنسان في فلسطين منذ عقود.
أمريكا هي التي ترفض منح الفلسطينيين حقهم الطبيعي في إقامة دولة مستقلة، وفق قرار التقسيم الأممي الجائر نفسه، بل إنها تقف عقبة أمامها حتّى في نيل العضوية الكاملة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الولايات المتحدة هي التي قادت أكبر الانقلابات العسكرية الدموية خارج حدودها عبر كل القارات، لإسقاط أعدائها وتنصيب عملائها، خدمة لمصالحها الحيوية الضيقة، منذ عهد الحرب الباردة، وما زال دورها التدميري في حق الآخرين متواصلا عبر هندسة الخراب والفشل في أقاليم تعدّها معادية لها، مثلما حصل في العراق وأفغانستان، ليس بهدف استئصال الإرهاب ونشر الديمقراطية، كما تدّعي، بل لتكريس احتكار مصادر الطاقة الأحفورية وتأمين ممرّاتها، في ظل التنافس الدولي على منطقة الشرق العربي وبحر قزوين.
لا يمكن حصر مظاهر الانتهاك الأمريكي الصّارخ للقانون الدولي في هذه المساحة المحدودة، بل يكفينا تدليلا على ذلك إشراف الولايات المتحدة، بشكل علني سافر، على كل جرائم الاحتلال الصهيوني ضدّ الإنسانية في غزة منذ 07 أكتوبر 2023 إلى اليوم، من دون أن تأبه بردّ فعل أي طرف في المجتمع الدولي، بما فيه جهاز الأمم المتحدة ومجلسها للأمن.
لقد صدق المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، في كتابه “الدولة المارقة”، عندما انتقد بلاده بصورة لاذعة، على خلفية تقويضها للديمقراطية في دول عديدة ودعم الانقلابات في مناطق أخرى، واستخدام القوة من دون وسائل الحوار، فضلا عن تجاهلها للقانون وكل الأعراف الدولية وممارسة العنف على نطاق واسع، حتّى إنه وضع تلك السلوكات في سجل واحد مع تاريخ هتلر وستالين.
من جهة أخرى، ينبغي التذكير بأن تشكيلة مجلس الأمن الدولي المنبثقة عن نتائج الحرب العالمية الثانية كرّست، بشكل مطلق، هيمنة القوى المنتصرة، على حساب كل الشعوب والدول الأخرى، بينما ظلّت المواثيق الأممية الصادرة عن الهيئة منذ 1945 مجرّد خطابات ومبادئ أخلاقية غير ملزمة، يمكن توظيفها أحيانا بصفتها مبرّرات قانونية للتدخل الدولي للولايات المتحدة الأمريكية في أي مكان من العالم دفاعا عن مصالحها الخاصة.
تعجّل بالضغط في اتجاه بناء نظام دولي جديد ومتعدّد الأقطاب
يجب أن لا يغيب كذلك عن الأذهان أن الجمعية العامة للأمم المتحدة بواقعها القائم لا تعدو أن تكون برلمانا عالميا، تطرح فيه المناقشات والشكاوى، لكنها لا تملك أي إلزام قانوني أو قوة لتنفيذ قراراتها التي تبقى مرهونة بموقف مجلس الأمن، بينما قرارات هذا الأخير أيضا محكومة بـ”الفيتو” الممنوح فقط للأعضاء الدائمين.
إنّ هذه الغطرسة العدوانية لن تكرّس الهيمنة الأمريكية المطلقة على مجرى التاريخ الحالي، بل ستدفع بالآخرين إلى الانضواء في تكتلات إقليمية ودولية، وتعجّل بالضغط في اتجاه بناء نظام دولي جديد ومتعدّد الأقطاب، ينتهي فيه جبروت الولايات المتحدة.
كما أنّ هذا السلوك الأمريكي المتجاوز للقانون الدولي، ينبغي أن يدفع بكل المقاومين لامتهان الإنسان، دولا ونخبا وشعوبا، إلى تعرية أمريكا والعمل بكل الطرق على تقويض مصالحها في كل مكان، لأنها تمثّل اليوم رأس الشرور في العالم، موازاة مع ضرورة الانتفاضات الجماهيرية على سفاراتها عبر كل العواصم، حتى تصل رسالة الغضب الشعبي إلى البيت الأبيض.
الشروق الجزائرية