أرض الأرجوان للروائية السورية غنوة فضة.. تكرار الاستلاب
تاريخ النشر: 11th, April 2024 GMT
يتعرض جايون في القرن الثالث قبل الميلاد للإعدام بعد أن حاك شيموئيل مؤامرة قتل الملك سلوقس على أيدي تابعيه، بعد أن كان قد أغراه لاستكشاف المكان، وإلصاق التهمة بجايون الذي استدعاه شيموئيل للمكان، كي يقايضه بالإفراج عن حبيبته أماليا مقابل إعلامه بأماكن الكنوز الأثرية.
كذلك، إبراهيم ناصيف، بعد 2200 عام، تعدمه الميلشيات لأنه صان المقتنيات الأثرية، في حين جعل من سركيس أمينا عليها.
ورث جايون عن والده ليس الكنوز الأثرية، بل ورث عنه مصيره أيضا، فقد قتل والده على أيدي ملثمين غرباء حين كان جايون طفلا في العاشرة من العمر.
ما يجمع جايون وأباه من قبله قديما، وعالم الآثار المعاصر، هو حراسة التاريخ، من خلال ما يدل عليه من نقش وحرف.
أورث والد جايون طفله مسؤولية صون التاريخ: «أنت الآن حارس المملكة القديمة»، وهكذا فقد كان التاريخ ليس فقط جزءا من الرواية، بل هو المقصود بالحفظ.
روايتا جايون وإبراهيم، بما تضمن من قصص قصيرة تشابكت معا لبناء سردية ماض وحاضر يفصل بينهما 2200 عام، ليكون المصير: الاستلاب.
تشابها في الاهتمام بحفظ الآثار، وفي الحب أيضا، حيث يحقق الباحث إبراهيم مخطوطا قديما اكتشفه في اليونان احتوى على قصة حب جايون وأماليا.
خطان زمنيان، (القرنان الثالث والثاني قبل الميلاد والقرن الحادي والعشرون)، سارا معا كوحدات متتابعة أشبه «بمناجل الثوب الكنعاني»، دارت الروايتان في رواية، خلفيتهما التاريخية معا منطقة الشام، ممثلة بمدينة لأوديسا السلوقية، التي وقعت تحت حكم قادة الإسكندر المنقسمين.
أما جايون فقد وصفه والده بحارس المملكة القديمة، لذلك صان مقتنياته الأثرية: أحافير ونقود ومنحوتات ومخطوطات وأورق البردي، أكانت محفوظة لديه، أو محفوظة في مكانها السريّ.
يعتزل جايون الناس، ليلتقي بأماليا القادمة من كريت، حيث عمل والدها هناك تاجرا، والذي قرر العودة إلى الوطن. ترتبط أماليا بجايون عاطفيا وفكريا، في رعاية الآثار المحفوظة بما يمكن أن يكون متحفا طبيعيا.
في إبراهيم ناصيف، تختمر الحكاية، ويصير هو بطل حكاية أخرى من جنسها، أو لكأن الرواية فعلا هي الرواية المعاصرة لإبراهيم ناصيف عالم الآثار، ومحيطه، ومن ارتبط به عاطفيا، والتي من خلالها نقرأ ما وجده إبراهيم من قصة في مخطوط قديم وجده في اليونان، فصرنا إزاء قصة حب حدثت في اللاذقية، خلفيتها التاريخية غزو الأخمينيين لسوريا القديمة، في الوقت الذي كان زمن إبراهيم هو زمن الميلشيات التي غزت سوريا في العقد الأخير.
في الوقت الذي تنشأ علاقة حب بين الباحث ناصيف والشابة أميمة الموظفة في متحف اللاذقية، يتخلل ذلك العشرية السوداء ممثلة، التي عانت منها سوريا، لنصفع بمفارقة صادمة، حين نجد الشاب عثمان الذي كان يشفق عليه إبراهيم ناصيف قد صار أحد أمراء الحرب، والذي يعرف ما لدى إبراهيم من كنوز أثرية، حيث يكون قد عرف فيما يبدو أن هناك طلبا على الآثار لتهريبها خارج سوريا.
يستشعر إبراهيم الخطر على مقتنياته من عصابات دخلت البلاد، بقصد سرقة الآثار، فيبني مكانا سريا داخل البيت، يخفي فيه مقتنياته، ويدفع ثمنه دون أن يكشف سره، في حين يكون قد ترك الأمانة مع مساعده الطيب الشاب سركيس.
يجمع الحب والفكر بين إبراهيم ناصيف وأميمة دون أن يكون الاختلاف الديني حاجزا، في إشارة ناقدة لادعاءات «الجماعات المسلحة»، الرافضة للتنوع الديني والثقافي. بل ثمة إشارة ذكية من الكاتبة الشابة غنوة فضة حين تعاون إبراهيم ناصيف مع الفونس، باحث يوناني، في تحقيق المخطوط، كون التاريخ الإنساني علما ينبغي صونه بعيدا عن العنصرية واختلاف الأديان واللغات.
تكتمل الدائرة حين تعود أميمة إلى بيت إبراهيم المهجور، حيث تخرج المخطوط المحقق، الذي كان قد أعلمها بوجوده تحت إحدى البلاطات، والذي كان إبراهيم قد ترجمه عن النص الأصلي، والذي اختار له اسم «أرض الأرجوان».
«المهم ألا تموت الحكاية»، هكذا كان إبراهيم يسعى إلى توعية من حوله، بمن فيهم حبيبته أميمة، دافعا حياته الثمن، لأن الوطن تاريخ أيضا وليس فقط ترابا وصخرا وشجرا وبشرا. وهكذا يوثق جايون حتى النهاية نقش أسماء قتلة الملك الحقيقيين على عامود إعدامه الحجري.
لكن ثمة أملا بثته الرواية، ففي خلال وداع جايون لوطنه قبل الإعدام، تغادر سفينة في البحر على متنها أماليا، خارج الوطن، على أمل العودة ثانية لإعمار الوطن الحرّ. ولكأن أماليا تحمل في ذهنها رسالة التاريخ، وفي أحشائها وريثا لأبيه لتتابع الرسالة، وإن لم تذكر ذلك الكاتبة، لكن من المحتمل تخيله.
تقنيا:
كما قلنا، فإن «أرض الأرجوان مكان واحد بين زمانين، استدعى تردد الخطين التاريخيين القديم والحديث. لقد بدأت الكاتبة بذكاء في التاريخ القديم، ثم لتنتقل إلى الزمن الآن، مانحة القراء إسقاط الماضي على الحاضر، للبحث عما هو متشابه هنا في المضمون والفكرة، وصولا إلى أن بلاد الشام تعرضت وما زالت تتعرض للغزو والاستلاب.
ولعلنا نشير هنا إلى أنه بالرغم من مضمون الرواية المهم، إلا أننا نزعم أن اللغة الأبجدية المستخدمة كانت رافعة قوية للرواية، بل إنها تكاد تتفوق عليها، بما اشتملت من قدرة هائلة في وصف الأماكن، والشخصيات وفضاء الرواية العام وتفاصيلها. ميزة الكاتبة اللغوية هي تمكنها من الاستخدام الإبداعي للغة؛ حيث يبدو أنها قد اطلعت من طفولتها على الأدب العربي القديم والحديث وصولا لاختيار لغة معاصرة تحتفظ بمستوى رفيع.
هذه هي الرواية الثالثة للكاتبة السورية غنوة فضة، والتي فطنت هنا إلى ترك المجال للشخصيات لرواية فصول ومشاهد داخل النص، فكان لتعدد الأصوات السردية أثر في حيوية النص ومصداقيته. ظهرت الأصوات للشخصيات الرئيسة الأربع: حايون وأماليا قديما، وإبراهيم وأميمة حديثا، إضافة لشخصيات أخرى مثل سركيس والطبيب رضوان.
من القصص القصيرة داخل روايتي جايون وإبراهيم، قصة الطبيب رضوان التي تمثل الخلاص الفرديّ في أسوأ صوره، تماما كما فعل عثمان الذي تحول إلى العمل مع الجماعات المسلحة. والذي أشرنا له في حادثة اغتيال عالم الآثار إبراهيم ناصيف.
تتفق مصلحة رضوان مع المتنازعين والعصابات في مناطق نفوذهم المفصولة بحواجز، حيث يحظى الطبيب المذكور بامتياز التنقل بين مناطق النفوذ، حيث أصبحت سرقة الأعضاء من أجساد وزراعتها في أجساد آخرين مقابل المال تجارة رابحة ماليا.
لكن الخلاص الفردي ليس خلاصا حقيقيا، بل وهم، لذلك تحدث الصدمة حين يجد أن الجسد الذي جيء به ليستأصل كليته هو جسد والده.
نحت الكاتبة منحى بوليسيا في حادثة خطف أماليا وقتل الملك المنتصر سلوقس، والقبض على جايون لإعدامه.
استخدمت الكاتبة دائرة الخروج الأول لأماليا وأبيها التاجر، ثم عودتهما، ثم تكرار خروج أماليا، لعودتها المستقبلية، ربما لإيحاء رمزي محتمل، يتعلق باللاجئين السوريين الذين اضطروا لمغادرة الأماكن التي غزتها الميلشيات.
لقد قيل «التاريخ يعيد نفسه مرتين، المرة الأولى كمأساة، والثانية كمهزلة»، المنسوب لكارل ماركس، لكن بتتبع مثل هذه الأعمال الأدبية، والتي تعكس الحياة، بأن التاريخ حين يعيد نفسه في المرة الثانية يكون أكثر مأساوية، وهو ما يحدث في بلادنا اليوم.
بقي أن نقول: إن الكاتبة قد اطلعت على الكتب والمصادر التاريخية المتعلقة بقصة جايون وأماليا، لكن مهارتها في الاهتمام بالسرد الروائي الإنساني حمتها من التقرير التاريخي الجاف.
صدرت الرواية عن دار فواصل عام 2022.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذی کان
إقرأ أيضاً:
سيكتب التاريخ: اليمن لم تخُن غزة وصواريخ الوفاء لم تُخطئ الهدف
سيكتب التاريخ أن اليمن لم تَخُنْ غزة بل كانت جهاز الإنعاش لها لمساندتها ولتحمي قلب الأمة النابض، فكان اليمن النجم الساطع الذي أضاء سماء غزة المعتم، ليقول لها بصدق الأفعال لا الشعارات (صواريخ الوفاء لن تخطئ الهدف).
في ظل أسوأ حرب إبادة جماعية في العصر الحديث يشنها الاحتلال الصهيوني بدعم أمريكي وبمباركة لعدة دول عربية وإسلامية، وفي ظل أزمة الأخلاق والقيم وانزلاق العديد من الدول العربية والإسلامية في مستنقع التطبيع بل الشراكة العلنية ودون خجل من دماء الأبرياء وأشلاء الأطفال والنساء والشيوخ، حيث فضحت الإبادة الجماعية في غزة أكذوبة القومية والعروبة، وكشفت النفاق السياسي المغلف بأكذوبة الدبلوماسية والعلاقات العامة والاتفاقيات.
لكنه اليمن الصديق الصدوق المخلص في زمن عز فيه الصدق والوفاء، كان شعلة الإسناد لغزة رغم معاناته الداخلية برز كواحد من أكثر الشعوب التي وقفت موقفا مشرفا اتجاه القضية الفلسطينية، مُسطِّراً بذلك أروع صور التضامن العربي والإسلامي، حيث أظهر اليمن بشعبه وقيادته الرسمية موقفا صادقا ورمزا للكرامة والعزة التي انقرضت في ظل التخاذل العربي المؤلم.
فقد خرجت الجماهير اليمنية في مظاهرات حاشدة في صنعاء، وصعدة، والحديدة، وغيرها من المحافظات، رافعين رايات فلسطين ومرددين شعارات النصر والصمود منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، ولم تكن مسيراتهم حدثاً عابراً بل تجسيداً لعقيدة راسخة في وجدان اليمنيين، بأن فلسطين ليست وحيدة، بل هي جزء من كرامتهم وهويتهم.
وبينما تواطأ البعض وتأرنب الآخرون أمام (البالون الأمريكي) زأر اليمن مزمجرا رغم الحصار وقلة الإمكانيات والحرب والضغوط الدولية ليرسل رسائل مفادها (لبيك غزة، تشَارَكْنا سويا حصار القريب، ورشقات العز، وتَشَارَكْنا بذْل الدم والمال فإما نصر أو شهادة). و بينما كانت تُعرض مجازر الإبادة الوحشية على قطاع غزة عبر البث المباشر و شاهدها العالم أجمع الذي لم يحرك ساكنا لمدة طويلة كان اليمن العربي الأصيل يشاهد بقلب نازف يحاول رأب الصدع والمساعدة شعبا ورئاسة، فالمظاهرات التي عمّت شوارع صنعاء وتعز وصعدة ومأرب، أعادت بوصلة العروبة لطريقها التائه عن باقي الدول، والهتافات التي خرجت من حناجر اليمنيين وصلت إلى قلوب الثكالى والأرامل والأيتام وأصحاب الفقد، ووصلت لأولئك النازحين الذين هُجّروا من بيوتهم التي دمرها الاحتلال بالصواريخ الثقيلة التي تزن ألفي رطل و المحرمة دوليا، وصلت قلوبهم المكسورة من الخذلان العربي و الإسلامي الذي رأوه وعايشوه بأم العين.. وصلت هتافات حناجرهم المتعبة إلى الجرحى الذين بُترت أجزاء من أجسادهم بفعل آلة الحرب الفتاكة فلامست أرواحهم المتعبة وأسَرَوا لبعضهم البعض في أحاديثهم الموجوعة بأن لا يزال الخير فينا وفي أمتنا فاليمن تشُد من عضدنا ولم يرهبها أحد. وما يجعل من مؤازرة اليمن للقضية الفلسطينية موقفا مذهلا هو أنه يصدر عن شعب يعاني من ويلات الحرب والحصار والتجويع. ومع ذلك، لم تمنعهم ظروفهم من دعم وإسناد غزة وأهلها وفاءً لقضية العرب والمسلمين الأولى.
وعلى خلاف باقي الدول العربية لم يكن إسنادها شعبيا فقط بل على صعيد الموقف الرسمي صدرت العديد من البيانات من جهات متعددة في اليمن تدين الإبادة الجماعية وتدعو الدول والشعوب العربية والإسلامية بالوقوف أمام ترسانة الحرب الصهيونية وتدعو دول العالم الحر الذي يؤمن بالعدالة الدولية لوقف المجازر الصهيوينة بحق أهل غزة، مُسخِّرة لذلك جميع وسائل إعلامها الحرة والناشطة لنقل المجازر الصهيونية بحق المدنيين العُزل. وعلى صعيد العمل المؤازر كانت الصواريخ والرشقات اليمنية هي الحاضرة وسط غياب كامل لأي دعم عربي وإسلامي أمام هذه الإبادة ، حيث ينفذ الحوثيون في اليمن الشقيق هجمات بالصواريخ والمسيّرات على «إسرائيل» والسفن المرتبطة بها، إسنادا لغزة منذ نوفمبر 2023، في مشهد لم يتخيله الكثيرون قبل سنوات حيث أن صواريخها الباليستية والطائرات المسيّرة عبرت البحار والصحارى، واخترقت عمق الأراضي المحتلة، لتدك مواقع حيوية في تل أبيب ومحيطها في لحظة فارقة أرسلت فيها اليمن رسالة سياسية وأخلاقية من طراز نادر» أن فلسطين ليست وحدها، وأن من يظن أن انشغال الشعوب العربية بمآسيها الداخلية قد أبعدها عن جوهر الصراع، فهو واهم، و أرسل اليمن عبر صواريخه البالستية: «هنا قلب العروبة النابض، هنا من ما زال يرى القدس بوصلته، وفلسطين قضيته».
سيكتب التاريخ أن اليمن لم يُخُن غزة وسط الخذلان الذي عايشت آلامه بل كان الصديق الصدوق الذي ساند غزة وكتب تاريخ مساندته لها بمداد الدم. وحينما صرخت غزة، سمعتها صنعاء. وحينما انهمرت القنابل على أطفال فلسطين، نهضت صواريخ اليمن لتقول للعالم إن في هذه الأمة من لم يمت بعد، ومن لا يزال يؤمن أن النصر ليس أمنية، وسيقرأ الأجيال عبر محطات البلاد الفارقة يوم أن غيرت غزة وجه العالم، أن هناك شعاع ضوء أنار عتمة غزة الحالكة ولم يتركها تواجه مصيرها وحدها بل عاند معها وواجه أقوى الدول ليقول لغزة (أنتِ لست وحيدة) هذا الشعاع كان اسمه اليمن.
*كاتبة فلسطينية