سبب الرزق والعافية فلا تهمله.. علي جمعة: هذا العمل يفتح لك أبواب الخيرات
تاريخ النشر: 17th, April 2024 GMT
لاشك أن سبب الرزق والعافية يُعد من أهم وأكثر الأسباب التي يبحث عنها الإنسان طوال حياته، فصحيح أن الرزق مكتوب ومُقدّر إلا أنه ينبغي السعي والأخذ بالأسباب ـ كما علّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم - ، ولعل هذا ما يُبين أهمية معرفة سبب الرزق والعافية حيث إنهما أهم الاحتياجات التي لا ينقطع الإنسان عن طلبها مادامت الحياة الدنيا ، وأفضل ما يؤتى العبد ، وهناك أمر واحد يجلب للإنسان كل الخير والمنافع فهو سبب الرزق والعافية والهداية وقد يغفل عنه الكثيرون.
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن الرحمة تُعد سببًا واصلًا بين الله تعالى وعبده، وبها يهديه ويرزقه ويعافيه ويسكنه دار ثوابه .
واستشهد “جمعة ” عن سبب الرزق والعافية، بما قال قال الفيروز آبادي رحمه الله تعالى: «الرّحمة سبب واصل بين الله وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم»، منوهًا بأن هذه الأمة هي أمة الرحمة والهداية.
وأضاف أنه لذلك دأب المحدثون في تبليغ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لطلبة العلم، على أن يستفتحوا بحديث الرحمة المسلسل بالأولية، هذا الحديث الذي انقطعت أوليته عند سفيان بن عيينه الذي يرويه عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي قَابُوسَ مَوْلًى لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- : «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ».
وأوضح أنه ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحاديث كثيرة تحث المسلمين على التخلق بالرحمة فيما بينهم ومع جميع الخلق، وقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته بأن ترك هذه الصفة الحميدة قد تستوجب غضب الله يوم القيام حيث قال -صلى الله عليه وسلم- : «لَا يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ» .
وأشار “جمعة”، إلى أن سبب ورود هذا الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قَبل الحسين، وقال الأقرع لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر له الحديث، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّادِقَ الْمَصْدُوقَ أَبَا الْقَاسِمِ صَاحِبَ هَذِهِ الْحُجْرَةِ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إلَّا مِنْ شَقِيٍّ».
ودلل بما ورد عن علي رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اطلبوا المعروف من رحماء أمتي تعيشوا في أكنافهم، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإن اللعنة تنزل عليهم، يا علي، إن الله خلق المعروف وخلق له أهلا، فحببه إليهم وحبب إليهم فعاله، ووجه إليهم طلابه، كما وجه الماء إلى الأرض الجدبة ليحيي به أهلها، وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة».
وتابع: والرحمة لا تنزع إلا من شقي، لأن الرحمة في الخلق رقة القلب، ورقته علامة الإيمان، ومن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرحمة فشقي، فليعلم الناس أن غلظة القلب من علامة الشقاوة.
فضل الرحمة1- دليل على رقة القلب وسمو النفس .
2 – تثمر محبة الله ومحبة الناس .
3 – لا يستحق رحمة الله إلا الراحمون الموفقون .
4 – الجنة هي دار الرحمة لا يدخلها إلا الراحمون برحمة الله .
5 – برحمة الله تعالى يوفق العبد لترك المعاصي ونيل الدرجات .
مظاهر الرحمة1- رحمة المسلم بالخدم .
2 – إكرام اليتيم .
3 – بر الوالدين .
4 – رحمة المسلم بالمرضى وذوي العاهات .
5 – الشفاعة الحسنة .
6 – رحمة المسلم بالحيوان مثل منع الرسول صلى الله عليه وسلم تحريق النمل بالنار .
7 – رحمة الأطفال بتقبيلهم والمزاح معهم .
8 – صلة الرحم .
9 – إكرام الجار والإحسان إليه وحفظ حرمته .
10- حسن معاشرة النساء .
11- العفو والصفح عن المسيء .
12 – العطف على الفقراء والمساكين .
13 – لين الجانب للناس .
14 – التعاطف بين الأخوان والأصحاب .
15- مشاورة رئيس الجماعة وقائدهم لأهل المشورة منهم رحمة بقلوبهم التي يؤلمها الإهمال .
ما هي الرحمةتدور مادّة (ر ح م) حول معنى الرّقّة والعطف والرّأفة، يقول ابن فارس: الرّاء والحاء والميم أصل واحد يدلّ على الرّقّة والعطف والرّأفة. يقال من ذلك رحمه يرحمه إذا رقّ له وتعطّف عليه، والرّحم والمرحمة والرّحمة بمعنى [المقاييس لابن فارس (2/ 498) ] ، ويقول الجوهريّ: الرّحمة: الرّقّة والتّعطّف، والمرحمة مثله، وقد رحمته وترحّمت عليه، وتراحم القوم: رحم بعضهم بعضا ... ورجل مرحوم ومرحّم، شدّد للمبالغة، والرّحم بالضّمّة: الرّحمة. قال تعالى (وَأَقْرَبَ رُحْماً) [الكهف: 81]، والرّحمة المغفرة، وقوله تعالى في وصف القرآن (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 52] أي فصّلناه هاديا وذا رحمة. رحمه رحما ورحما ورحمة ورحمة (حكى الأخيرة سيبويه) ومرحمة، وقال اللّه- عزّ وجلّ-: (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد: 17] أي أوصى بعضهم بعضا برحمة الضّعيف والتّعطّف عليه، وترحّمت عليه أي قلت: رحمة اللّه عليه [الصحاح للجوهرى (5/ 1929) رحم] .
وتطلق الرّحمة ويراد الرّزق، فقد نقل ابن منظور عن الأزهريّ قوله: قال عكرمة في قوله تعالى: (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) [الإسراء: 28] أي رزق. (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ) [هود: 9 مكية] ، أي رزقا (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) [يونس: 21] أي حيا وخصبا بعد مجاعة، وأراد بالنّاس الكافرين. وترحّم عليه: دعا له بالرّحمة، واسترحمه: سأله الرّحمة، وسمّى اللّه الغيث رحمة لأنّه برحمته ينزل من السّماء، والرّحموت من الرّحمة، يقال: لأن ترهب خير من أن ترحم، لم يستعمل على هذه الصّيغة إلّا مزوّجا [لسان العرب (12/ 230) ط. بيروت] ، وأمّ الرّحم مكّة، والمرحومة: من أسماء مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم [القاموس المحيط (4/ 118) رحم] ، والرّحم علاقة القرابة، ثمّ سمّيت رحم الأنثى رحما من هذا؛ لأنّ منها ما يكون ما يرحم ويرقّ له من ولد [المقاييس (2/ 498) ] .
معنى الرحمة اصطلاحًاقال الجرجانيّ: هي إرادة إيصال الخير [التعريفات (110) ] ، وقال الجاحظ: الرّحمة خلق مركّب من الودّ والجزع، والرّحمة لا تكون إلّا لمن تظهر منه لراحمه خلّة مكروهة، فالرّحمة هي محبّة للمرحوم مع جزع من الحال الّتي من أجلها رحم، وقال الكفويّ: الرّحمة حالة وجدانيّة تعرض غالبا لمن به رقّة القلب وتكون مبدأ للانعطاف النّفسانيّ الّذي هو مبدأ الإحسان [تهذيب الأخلاق للجاحظ (ص 24)، والكليات للكفوي (2/ 376) ] ، قال ابن الأثير- رحمه اللّه تعالى-: في أسماء اللّه تعالى «الرّحمن الرّحيم» وهما اسمان مشتقّان من الرّحمة، مثل ندمان ونديم. وهما من أبنية المبالغة ورحمن أبلغ من رحيم. والرّحمن خاصّ باللّه لا يسمّى به غيره، ولا يوصف. والرّحيم يوصف به غير اللّه تعالى، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال رحمن. والرّحمة من صفات الذّات للّه تعالى والرّحمن وصف، وصف اللّه تعالى به نفسه وهو متضمّن لمعنى الرّحمة [النهاية لابن الأثير (2/ 210) ] .
وقال الخطّابيّ: ذهب الجمهور إلى أنّ «الرّحمن» مأخوذ من الرّحمة. ومعناه ذو الرّحمة لا نظير له فيها، ثمّ قال: فالرّحمن ذو الرّحمة الشّاملة للخلق، والرّحيم خاصّ بالمؤمنين [بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي (3/ 35، 54) ] . قال اللّه تعالى: (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) [الأحزاب: 43]، وقال الغزاليّ: الرّحمن الرّحيم اسمان مشتقّان من الرّحمة. والرّحمة تستدعي مرحوما، ولا مرحوم إلّا وهو محتاج. والّذي ينقضي بسببه حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية بالمحتاج لا يسمّى رحيما، والّذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها، فإن كان قادرا على قضائها لم يسمّ رحيما، إذ لو تمّت الإرادة لوفّى بها، وإن كان عاجزا فقد يسمّى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرّقّة، ولكنّه ناقص. وإنّما الرّحمة التّامّة إفاضة الخير على المحتاجين وإرادته لهم عناية بهم، والرّحمة العامّة هي الّتي تتناول المستحقّ وغير المستحقّ، ورحمة اللّه، عزّ وجلّ، تامّة وعامّة، أمّا تمامها: فمن حيث أنّه أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها. وأمّا عمومها: فمن حيث شمولها المستحقّ وغير المستحقّ، وعمّ الدّنيا والآخرة، وتناول الضّرورات والحاجات والمزايا الخارجة عنهما. فهو الرّحيم المطلق حقّا.
وقال- رحمه اللّه تعالى-: والرّحمة لا تخلو عن رقّة مؤلمة تعتري الرّحيم، فتحرّكه إلى قضاء حاجة المرحوم. والرّبّ، سبحانه وتعالى، منزّه عنها. فلعلّك تظنّ أنّ ذلك نقصان في معنى الرّحمة، فاعلم أنّ ذلك كمال وليس بنقصان في معنى الرّحمة، أمّا أنّه ليس بنقصان فمن حيث إنّ كمال الرّحمة بكمال ثمرتها، ومهما قضيت حاجة المحتاج بكمالها لم يكن للمرحوم حظّ في تألّم الرّاحم وتفجّعه، وإنّما تألّم الرّاحم لضعف نفسه ونقصانها. ولا يزيد ضعفها في غرض المحتاج شيئا، بعد أن قضيت حاجته، وأمّا أنّه كمال في معنى الرّحمة، فهو أنّ الرّحيم عن رقّة وتألّم يكاد يقصد بفعله دفع ألم الرّقّة عن نفسه، فيكون قد نظر لنفسه وسعى في غرض نفسه، وذلك ينقص عن كمال معنى الرّحمة. بل كمال الرّحمة أن يكون نظره إلى المرحوم لأجل المرحوم، لا لأجل الاستراحة من ألم الرّقّة.
أمّا الرّحمن فهو أخصّ من الرّحيم، ولذلك لا يسمّى به غير اللّه، عزّ وجلّ. والرّحيم قد يطلق على غيره، ولذلك جمع اللّه، عزّ وجلّ، بينهما، فقال: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء: 110]. فيلزم من هذا الوجه أن يفرّق بين معنى الاسمين فمن ثمّ يكون المفهوم من الرّحمن نوعا من الرّحمة هي أبعد من مقدورات العباد، وهي ما يتعلّق بالسّعادة الأخرويّة. فالرّحمن هو العطوف على العباد، بالإيجاد أوّلا، وبالهداية إلى الإيمان وأسباب السّعادة ثانيا، وبالإسعاد في الآخرة ثالثا، والإنعام بالنّظر إلى وجهه الكريم رابعا.
وقال ابن القيّم- رحمه اللّه تعالى-: الرّحمة سبب واصل بين اللّه- عزّ وجلّ- وبين عباده، بها أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها رزقهم وعافاهم وأنعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبوديّة، وبينه وبينهم سبب الرّحمة [التفسير القيم ص 35 ] .
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: سبب الرزق الرزق والعافية الرزق العافية فوائد الرحمة فضل الرحمة مظاهر الرحمة معنى الرحمة صلى الله علیه وسلم الل ه تعالى رسول الله الر حمة ا رحمة الل رسول الل سبب الر ة القلب الر ق ة
إقرأ أيضاً:
صرخة في وجه الوحش الخفي التحرش
كانت سحر تسير في طريقها المعتاد إلى الجامعة، تحمل في يدها كتبها وفي قلبها أحلاما كبيرة. لكن ذلك اليوم كان مختلفا؛ كلمات جارحة من شاب متطفل، ونظرات متفحصة، ثم محاولة التماس معها، أجبرتها على تغيير مسارها، وزرعت في نفسها خوفا لم تعرفه من قبل. عادت سحر إلى بيتها، وكعادة كثيرين من ضحايا التحرش، التزمت الصمت.. "لو أخبرت أحدا، ماذا سيقولون؟ سيلومونني لا محالة".. هكذا حدثت نفسها، وهكذا يفكر الكثيرون.
قصة سحر ليست فريدة، بل هي واحدة من آلاف القصص التي تُروى يوميا في مجتمعاتنا. التحرش، ذلك السلوك المشين الذي حرمه الله ورسوله، بات وباء صامتا ينخر في جسد المجتمع. يقول الله تعالى: "وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ" (الأنعام: 151). هذه الآية تؤسس لمبدأ مهم في الإسلام، وهو الابتعاد عن كل ما يمس كرامة الإنسان والذي يعد التحرش من أبرز صوره.
في لحظة خاطفة، تتحول الأماكن العامة من فضاءات للحياة اليومية إلى ساحات قلق وترقب. عيون تلاحق، كلمات تخدش الحياء، حركات تنتهك الخصوصية، ثم تصل أحيانا لانتهاك العرض.. إنه التحرش، ذلك الشبح الذي يطارد ملايين البشر حول العالم، مخلّفا جراحا نفسية قد تستمر لسنوات.
جذور المشكلة: لماذا ينتشر التحرش في مجتمعاتنا؟
ثمة أسباب عديدة تقف وراء انتشار ظاهرة التحرش في مجتمعاتنا، ولا يمكن مواجهة المشكلة دون فهم جذورها العميقة.
في المقام الأول، يأتي ضعف الوازع الديني وغياب التربية الإيمانية الصحيحة. فحين تغيب مراقبة الله تعالى عن القلوب، تنفلت الجوارح وتسقط الحواجز الأخلاقية. يقول الله تعالى: "أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى" (العلق: 14). هذه الآية تذكير مباشر بمراقبة الله التي تشكل رادعا داخليا يمنع المسلم من ارتكاب المعاصي.
وتلعب وسائل الإعلام دورا سلبيا في تفاقم ظاهرة التحرش من خلال التركيز على تسليع الجسد وتصويره كسلعة استهلاكية خاصة في الإعلانات والأفلام، وتطبيع التحرش وتصويره كسلوك "ذكوري" مقبول أو كوسيلة للتعبير عن الإعجاب في العديد من الأعمال الفنية، والمحتوى الإباحي المنتشر عبر الإنترنت والذي يقدم صورة مشوهة للعلاقات الإنسانية ويؤجج الغرائز دون ضوابط. وأخيرا، ضعف البرامج التوعوية المضادة التي تعزز قيم الاحترام والخصوصية والعفة، مما يترك الساحة الإعلامية مفتوحة للرسائل المشجعة على سلوكيات التحرش.
ومن الأسباب الجوهرية أيضا مشكلة الفراغ والبطالة المستشرية بين الشباب. فالشاب الذين لا يجدون عملا يشغلون به وقتهم وطاقتهم، والذين يعجزون عن إعالة أنفسهم، يقعون فريسة للفراغ القاتل والإحباط المدمر. وقد صدق من قال: "إن الفراغ مفسدة للنفس والبطالة مقبرة للأخلاق". هؤلاء الشباب العاطلون، المحرومون من تحقيق طموحاتهم وإثبات ذواتهم بالطرق المشروعة، قد يلجأون إلى سلوكيات منحرفة للتعويض عن شعورهم بالعجز والدونية.
وتأتي المخدرات لتعمق الجرح وتزيد الطين بلة، فالمتعاطي، وقد غاب وعيه وانحلت ضوابطه الأخلاقية، يسهل عليه ارتكاب أفعال لا يمكن أن يرتكبها في حالة صحوه. المخدرات تكسر كل الحواجز النفسية والأخلاقية والاجتماعية، وتطلق العنان للرغبات المكبوتة والنزوات الدفينة. لذا نجد أن نسبة كبيرة من حالات التحرش والاعتداء ترتكب تحت تأثير المخدرات والمسكرات.
ولا يخفى على أحد أثر الصحبة السيئة في تشكيل سلوك الشباب. فالصديق إما أن يكون معينا على الخير، أو دافعا إلى الشر، وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل". في مجموعات الأصدقاء السيئة، قد يصبح التحرش نوعا من "إثبات الرجولة" أو "المغامرة" التي تُكسب الشاب مكانة بين أقرانه.
ويبرز ضعف اهتمام المجتمع بالقيم كسبب رئيسي في انتشار التحرش. فنحن نعيش في زمن طغت فيه المادية على الروحانية، وشغلت فيه الشهادات العلمية والمناصب المرموقة مساحة كبيرة من اهتمامنا، على حساب تربية النشء على القيم النبيلة. أصبحنا نهتم بتعليم أبنائنا كيف ينجحون دراسيا ومهنيا، ونهمل تعليمهم كيف يكونون أخلاقيا وإنسانيا.
وهناك عامل مهم يتعلق بالمتحرش به أو بها، وهو ما يتعلق باللباس والزينة وطريقة المشي والكلام. فالإسلام وضع ضوابط للباس والزينة ليس تضييقا على الحريات، بل حماية للمجتمع من الانزلاق نحو المفاسد. فاللباس الفاضح، والتبرج المبالغ فيه، والمشية المتمايلة، والتقعر في الكلام، كلها عوامل قد تثير الغرائز لدى ضعاف النفوس.
ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن التحرش ليس مقتصرا على الإناث فقط، بل قد يقع على الذكور أيضا. فهناك حالات كثيرة من التحرش بالأطفال والفتيان والشباب. وهذا النوع من التحرش قد يكون أكثر ضررا نفسيا، لأن ضحاياه يترددون أكثر في الإبلاغ عنه خوفا من الوصم الاجتماعي أو السخرية.
هل المتحرش مظلوم؟
يطرح البعض هذا التساؤل الغريب، متعللين بظروف اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية قد تدفع المتحرش لسلوكه المشين. لكن الحقيقة الراسخة أن المتحرش ليس مظلوما بأي حال، بل هو ظالم معتدٍ. فمهما كانت الظروف المحيطة به -كالبطالة أو تأخر الزواج- فإنها لا تبرر انتهاكه لخصوصيات الآخرين.
نعم، علينا معالجة الأسباب المجتمعية للظاهرة، لكن هذا لا يعني التهاون مع المتحرشين. فالإنسان مسؤول عن أفعاله، وقد منحه الإسلام أدوات كثيرة للتعامل مع الضغوط، من الصبر والصلاة وغض البصر.
هل الضحية ظالمة؟
يتجرأ البعض فيطرح سؤالا أكثر غرابة: هل الضحية ظالمة أو مسؤولة عما حدث لها؟ يُلمّحون إلى أن اللباس أو المشية أو التصرفات كانت "استفزازية" أو "مثيرة". هذا المنطق المقلوب يحاول تحويل المعتدى عليه إلى متهم، والمتحرش إلى ضحية!
هذه النظرة المعكوسة تمثل انحرافا خطيرا في المفاهيم والقيم، إنها تماثل تماما لوم المسروق على سرقته لأنه لم يؤمن منزله جيدا، أو لوم المضروب على ضربه لأنه مرّ في طريق مظلم. حتى لو قصّر شخص ما في التزام الآداب الشرعية -وهو ما لا يجوز بطبيعة الحال- فإن هذا لا يمنح أحدا حق التحرش به أو إيذائه.
خطورة هذا المنطق تتجلى في تكريس ثقافة الصمت؛ فالضحية التي تُلام على ما حدث لها ستفضل الصمت خوفا من لوم المجتمع. وهكذا يستمر المتحرش في ارتكاب المزيد من الجرائم بحق آخرين، وتتحول الظاهرة من حالات فردية إلى آفة أن نقطع الطريق على هذا المنطق المقلوب، وأن نضع المسؤولية على عاتق من يستحقها: المتحرش وحده.
آثار التحرش: جراح عميقة
التحرش ليس حادثا عابرا، بل يترك آثارا مدمرة على الضحايا:
- نفسيا، يسبب الاكتئاب والقلق المزمن واضطرابات النوم والأكل.
- اجتماعيا، يدفع الضحايا للعزلة وفقدان الثقة بالآخرين، ويعيق قدرتهم على بناء علاقات سليمة.
- أكاديميا ومهنيا، قد يؤدي لتراجع الأداء الدراسي أو العملي، وقد يدفع الضحية لترك الدراسة أو العمل تماما.
- جسديا، قد تظهر أعراض جسدية مثل الصداع المزمن واضطرابات الجهاز الهضمي وآلام الظهر نتيجة التوتر المستمر.
- التحرش يسرق من الضحية إحساسها بالأمان والسيطرة على حياتها، وفي الحالات الشديدة، قد يصل الأمر إلى التفكير بالانتحار.
- التحرش لا يؤذي الضحايا فحسب، بل يمزق النسيج الاجتماعي بأكمله. ومجتمعيا، يخلق بيئة من الخوف والريبة تحد من مشاركة المرأة في الحياة العامة وتقلص إسهامها في التنمية. كما يضعف الثقة بين أفراد المجتمع ويعزز ثقافة العنف والسيطرة.
- اقتصاديا، يكلف المجتمع خسائر فادحة نتيجة غياب الضحايا عن العمل أو الدراسة، وانخفاض إنتاجيتهم، والنفقات الصحية لعلاج آثاره النفسية والجسدية.
- أما أخلاقيا، فالتساهل مع التحرش يؤدي إلى انحدار القيم وتفكك المنظومة الأخلاقية التي تحمي المجتمع من الانهيار.
دور البيت في الوقاية والحماية
البيت هو المحضن الأول والأهم في تشكيل شخصية الإنسان وقيمه وسلوكياته، ومن هنا تأتي أهميته الكبرى في الوقاية من التحرش وفي حماية الأبناء من الوقوع ضحايا له.
في مجال الوقاية، على الأسرة أن تغرس القيم الدينية والأخلاقية في نفوس الأبناء منذ الصغر. فالطفل الذي ينشأ على مراقبة الله تعالى والاستحياء منه، والذي يتعلم احترام حدود الآخرين وخصوصياتهم، سيكون محصنا ضد الانخراط في سلوكيات التحرش. يقول الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا" (التحريم: 6).
ومن الأهمية بمكان أن تعلّم الأسرة أبناءها مفهوم الحدود الشخصية والخصوصية الجسدية. فالطفل يجب أن يتعلم أن جسده حرمة لا يجوز لأحد انتهاكها، وأن يقول "لا" بحزم لأي محاولة لانتهاك خصوصيته، وأن يبلغ والديه فورا عن أي سلوك غير مريح يتعرض له.
كما يجب على الأسرة أن تعلم أبناءها القواعد الشرعية للعلاقة بين الجنسين، من غض البصر وحفظ الفرج والتزام الحشمة في اللباس والكلام والمشي. وعلى الوالدين أن يقدموا لأبنائهم القدوة الحسنة في احترام الآخرين. فالطفل يتعلم من سلوك والديه أكثر مما يتعلم من كلامهما.
أما في مجال الحماية، فعلى الأسرة أن تخلق جوّا من الثقة والانفتاح، بحيث يشعر الأبناء بالأمان في مصارحة والديهم بأي مشكلة. فكثير من ضحايا التحرش يلتزمون الصمت خوفا من لوم الأهل، لذا يجب على الوالدين أن يؤكدوا لأبنائهم دوما أنهم سيكونون إلى جانبهم، وأنهم لن يلوموهم إذا تعرضوا لأي إيذاء.
كيف نواجه هذه الظاهرة ونقضي عليها؟
إن مكافحة ظاهرة التحرش تتطلب جهدا جماعيا على كافة المستويات، بدءا من الأفراد والأسر، مرورا بالمؤسسات التعليمية والإعلامية، وصولا إلى صناع القرار والمشرعين.
على مستوى المؤسسات التعليمية، ينبغي تضمين المناهج الدراسية القيم الأساسية للمجتمع الآمن، وتدريب المعلمين على كيفية التعامل مع حالات التحرش واكتشافها، وتوفير آليات آمنة للإبلاغ داخل المدارس والجامعات، كما ينبغي تفعيل دور المرشد النفسي والاجتماعي في المؤسسات التعليمية.
وعلى مستوى وسائل الإعلام، يجب إطلاق حملات توعوية مستمرة حول خطورة التحرش وكيفية مواجهته، وتقديم نماذج إيجابية للعلاقات السوية بين الجنسين، والابتعاد عن المحتوى الذي يسهم في تسليع الجسد. كما يجب تفعيل دور الإعلام في كسر ثقافة الصمت حول التحرش.
أما على المستوى التشريعي والقانوني، فلا بد من تشديد العقوبات على المتحرشين، وتسهيل إجراءات الإبلاغ عن حالات التحرش، وتوفير الحماية القانونية للمبلغين والشهود. كما يجب تأهيل رجال الشرطة والقضاة للتعامل مع قضايا التحرش بحساسية وفعالية.
الخطوة الأولى تبدأ بكسر جدار الصمت، برفض التواطؤ السلبي، بالإصرار على أن التحرش ليس قدرا محتوما، بل هو سلوك مرفوض يمكن استئصاله من النسيج الاجتماعي. هذا يبدأ بنا جميعا، في بيوتنا ومدارسنا وأماكن عملنا وشوارعنا، حين نقرر أن نكون جزءا من الحل لا جزءا من المشكلة.
فلنتحد جميعا في صرخة مدوية ضد الصمت، ولنعد للإنسانية كرامتها المسلوبة، ولنبنِ معا مجتمعا يتنفس فيه الجميع هواء العفة والأمان، مسترشدين بقول الله تعالى: "وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (آل عمران: 104).