إستراحة من رهق الحياة: (أنفاس الحوانيت)
تاريخ النشر: 23rd, April 2024 GMT
كما للمدن أنفاسها الخاصة والمميزة لها ، ولها أذواقها ووقعها على نفوس البشر ، وكما للأزاهير أريجها المختلف ، وكما لأفواه الأطفال عطرها الجميل ولرائحة المطر والدعاش نفحاته التي تغوص في داخل الأنفس ، فإن للأسواق وللحوانيت فيها طعمها الخاص ونفحاتها في الصباح الباكر عندما تُفرد( ضِلف أبوابها) لمسارب الضي الأولى الآتية من المجهول، حاملة معها نفحات الصباح.
طيور الحمام الوديعة تعشق السرحة وتلقيط سواقط الرزق من الباعة في أزرقة السوق، قبل أن يأتي الباعة لحوانيتهم، وترسم دروبها على التراب ، كما ترتسم خدود شاباتنا السمراوات، بشلوخ درب الطير ، المخضوض بالكحل الأزرق، أيام كانت شلوخ درب الطير تزين أغاني البنات، وكانت تجتذب الغاوين في ملامح النساء، تلك ثقافتنا في أيامنا الخوالي ، أيام الحب البريء والعفة تحد من شأفة التطلع.
وتلك أيامنا عندما كنا صغارا كانت نفحات الأشياء تختلف تماما ، وكانت حواس شمنا من القوة بحيث أننا نشتم رائحة الرغيف الذي تحمله نفحات السحر ، من بعيد، حتى وإن كان الرغيف موضوعا في صناديق الشاي الكبيرة المغطاة بالبلاستك ، عندما يأتي بها بائع الرغيف من الأفران في القرى المجاورة ونفرق بينها وبين رائحة البنزين المنبعثة من ( طرمبيل) ناظر المشروع، وبين زخات أنفاس زهور القطن وانداء المزارع.
في المغيب كانت رائحة (دُك البهائم) وهي آتية للقرية تبعث فينا الإلفة الحميمة بالنعمة والأنعام ، غير أن ابخرة(صيجان العصيدة)، كانت تلف المكان من كل فَجّ في القرية وتغمر المكان.
عندما يأتي أحمد عند الصباح في تشوق شديد ، ليفرد أشرعة حانوته فتنبعث إليه الرائحة الطيبة التي أدمنها، من خليط زيوت السمسم وعِلَك التناجر، مخلوطة برائحة الطحنية، والشاي والهبهان والقرنفل ، وتنفح من جنبات الحانوت خليط من عطر الصاروخ والصندل وبنت السودان ومكعبات المسك الأصفر ، وتتداخل أنفاس الحوانيت ببعضها ، لتروج في المكان باعثة الشعور بالنعم والمونة من ملذات الحياة.
المتسوقون في الأسواق الشعبية في حراكهم الماتع، تتمايز أذواقهم وحواس شمهم، فمنهم من يتفاعل مع رائحة صبغ ( المراكيب)، وقِطران الجلود وأسواط العنج ، (ولا أدري لماذا يرتبط سوط العنج بتلك القبيلة أو الجنس البشري والذي أثر في التغيير في مملكة سنار ، هل كانوا يستخدمونها ويشتهرون بها ، علما بأن الشعب السوداني هو الوحيد بين شعوب العالم الذي تتحمل ظهوره تمزيق سياط العنج ، خصوصا إذا اختلطت عنده نفحات ( الجرتق) العامرة بالبخور والدلكة والصندلية والمحلبية ، ورؤوس العرسان أمامه مزدانة بالحريرة وفصوص العنبر والياقوت، وعلى رأسة حلقة من بودرة الصندل، وخصوصا إذا سمع صوت ( الدلوكة تخمج الأجواء وترج الأرض رجاً) والعريس يبجنه بالسوط أمام الغانيات وتحت وقع زغاريدهن.
كنت أعشق أنفاس أسواق “أم دورور” (عدة قرى في كردفان، تقام فيها الأسواق طوال الأسبوع بصورة دائرة)، وكنت انطلق للسوق بعد صلاة الفجر، رغم أني لأ ابيع ولا أشتري ، إلا أنني اذهب يوميا لأعبيء دواخلي بنفحات السوق الأولى في سني الإشراق وتلك النفحات حبلى بأنفاس الحوانيت لم تطمثها أو تشردها أشعة الشمس وقبل أن يبعثرها شهيق الباعة والمتسوقين.
كانت أسواق ام دورور تعج بأفياء عدة تتداخل فيها عطور الغانيات الآتيات من الريف بحجولهن وأسورة سن الفيل تزيّن سواعدهن، ورؤوسهن مترعة برائحة ( الكركار والودك) وتفوح من أردانهن رائحة الدلكة وعرق العافية، وتغطي أجسادهن( تفتتة الثياب الزرقاء ، وتزدان أنوفهن بأزمة الفضة وصدورهن (بالشّفِ وريال الذهب المجيدي).
تلك أيامنا وأنفاسها اللطيفة العامرة بالطيوب والتي استمتعنا فيها بالحياة البريئة العفوية والتذوق والأجواء الصافية ، والفراغ العريض بعيدا عن ضجيج هذه الايام وانبعاثات سموم العوادم في الأجواء وطمس كل الحواس.
الرفيع بشير الشفيع
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
«التبرُّع بالأعضاء».. أمل جديد نحو الحياة
الحلم قد يصبح حقيقة، والمعاناة قد تنتهي -بأمر الله- في غضون أيام قليلة. الإقدام على التبرع بالأعضاء في الماضي كان من القرارات المصيرية الصعبة التي تظل تشعر البعض بالتوجس والرغبة في تفكير عميق، وفي النهاية تثنيه عن فكرته.
والآن، يتخذ الكثير من الناس قرارهم الصائب قبل الموت، فيوصي عائلته بأنه موافق على هذا التبرع بمحض إرادته ومن قناعة تامة بأن ما سيقدمه للآخرين ما هو إلا «واجب وطني والتزام إنساني» في سبيل المساهمة في إنقاذ روح إنسان يعاني من المرض، وحياته تهدد بالفناء في كل لحظة تمر عليه.
لقد حدد القانون أطرًا معينة وظروفًا خاصة وأسلوبًا صحيحًا فيما يتعلق بالتبرع بالأعضاء، حتى تكون العملية منظمة ومصرحًا لها وفق إطارها الصحيح. لذا فإن أي تبرع بالأعضاء يكون من رغبة الشخص ذاته وبموافقته دون أي ضغط أو إجبار على ذلك، يخرج من أي شبهة جنائية أو توجس أو ريبة. فالقرار يأتي من أصحاب الشأن ذاتهم دون خضوعهم إلى أي مؤثرات خارجية، وهذا ما يميز التبرع بالأعضاء وفق القانون والظروف الصحية المعترف بها دوليًا.
لن نتحدث عن تجارة الأعضاء، وعصابات السرقة والظروف غير الآدمية التي تجرى فيها مثل تلك العمليات المشبوهة والتي عادة ما تكون كارثية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
ولله الحمد - أصبح بالإمكان التبرع بالأعضاء في وطننا الغالي وفق نظام محدد، ويخضع المريض لظروف صحية آدمية صحيحة. وما حدث قبل أسابيع ماضية لهو إنجاز علمي وإنساني، فقد أنعم الله على أطبائنا المهرة بالإعلان عن نجاح أول عملية زراعة قلب من شخص متوفى دماغيًا في المستشفى السلطاني. والعملية أُجريت على يد فريق طبي عماني متكامل ومتعدد التخصصات.
ويعد هذا الإنجاز في سلطنة عُمان علامة فارقة في مسيرة القطاع الصحي الذي يشهد قفزات متتالية من النجاحات في مختلف التخصصات. وهذه العملية، ربما تكون معقدة ودقيقة، هي إضافة إلى أخرى لسجلات العمل الطبي، وكونها تعكس الرؤية الوطنية المتكاملة من لدن القيادة الحكيمة حول هذا الموضوع، وبالاستعانة بالكفاءات والقدرات الوطنية مع الانسجام التام مع روح العطاء الإنساني من قبل المتبرعين وحرصهم على إعطاء المريض المحتاج للأعضاء فرصة أخرى للحياة، وفتح المجال أمام تبرعات أخرى يمكنها أن تنقذ حياة عشرات أو مئات، وربما على المدى البعيد أعدادًا كبيرة من المحتاجين لزراعة الأعضاء في عُمان.
وبحسب ما تم نشره إعلاميًا خلال الفترة الماضية حول تفاصيل هذه العملية الناجحة، فقد أكدت المصادر أن «العملية الجراحية أُجريت وفقًا لأعلى المعايير الطبية والأخلاقية بما يتوافق مع القوانين الوطنية والتوصيات الدولية المعتمدة في مجال التبرع بالأعضاء».
لعلنا جميعًا ندرك حجم التحدي الكبير الذي رافق المتخصصين والأطباء في إجراء هذه العملية، والقلق من مغبة حدوث مضاعفات أو توقف في وظائف القلب أو تسارعه من الشخص المتبرع. ولكن إرادة الله ولطفه كتب لهذه العملية النجاح بعد نحو خمس ساعات من العمل، لتسجل سلطنة عُمان إنجازًا علميًا وطبيًا فريدًا، وليعيد الأطباء البسمة على وجه الشخص المتبرع له بعد معاناة طويلة من قصور في عضلة القلب -بحسب ما تم نشره .
إذا كان التبرع بالأعضاء هو فرصة أخرى لتسطير حياة جديدة لدى بعض المرضى، فإن قناعة الناس واتجاههم إلى هذا الجانب لم يكن عبثًا، خاصة وأن أمر توفير الأعضاء البشرية بات سوقًا رائجًا في بعض الدول، وتتخصص فيه عصابات تنهب أموال الناس وتزهق أرواحهم بالغش والتدليس.
دائمًا القنوات القانونية لها فوائد جمّة، فهي السبيل الصحيح نحو الاستفادة القصوى من أي عمل، سواء كان إنسانيًا أو ماديًا. بعض الناس تدفع أموالًا طائلة من أجل الحصول على أعضاء بديلة، ولكن تقع تحت طائلة القانون لأن الطرقات المستخدمة والظروف الصحية أثناء هذه العمليات غير آدمية تمامًا وغير آمنة.
وكثير من الناس ذهبت أرواحهم وأموالهم لأن تعاملهم مع أشخاص مجهولين كان هو السبب، وربما الحاجة هي من دفعتهم إلى كل ذلك. ولكن وضوح الصورة الآن، وتحت إطار قانوني وظروف طبية صحيحة، أصبح من الممكن حصول المرضى على المتبرعين الذين انتهت حياتهم وآثروا أن يقدموا شيئًا للآخرين لإنقاذ حياتهم من الهلاك.
لكن، أكثر وضوحًا وصراحة في هذا الشأن، فحتى فترة ليست بالبعيدة كان أمر التبرع بالأعضاء مجهولًا وغير محبذ لدى بعض الناس. ولكن الحاجة إلى متبرع لإنقاذ روح إنسان أصبح من الضروريات في الوقت الراهن، فهناك معاناة حقيقية لدى بعض الناس من الأمراض، وخاصة القلب والكلى والكبد وغيرها.
إن توجهات الحكومة حول فتح باب التبرع بالأعضاء جاء ليلقي الضوء حول هذا الأمر المهم والذي يلامس حياة الناس وبقاءهم على وجه الأرض. أيضًا، الأطر القانونية جعلت من عملية التبرع منظمة وهادفة إلى تحقيق النتائج الإيجابية، إلى جانب اتخاذ التدابير الطبية المعترف بها عالميًا، وفّر على المحتاجين الوقت والمال، وحماهم من الوقوع فريسة في أيدي المحتالين والنصابين في أماكن أخرى من العالم.