على خطى النيجر.. هل تنقلب تشاد على الولايات المتحدة؟
تاريخ النشر: 28th, April 2024 GMT
في 18 أبريل/ نيسان، تناقلت وسائل إعلام أميركية عدة، مثل: "سي إن إن" و"بلومبيرغ"، وغيرهما، رسالة موجّهة من حكومة تشاد، للولايات المتحدة، تهدّدها بإلغاء اتفاقية وجود القوات الأميركية على أراضيها؛ بدعوى عدم وجود سند قانوني.
الرسالة المؤرّخة في 4 أبريل/ نيسان، قامَ بتوجيهها قائد القوات الجوية التشادية إلى الملحق العسكري الأميركي في نجامينا، يطالبه فيها بوقف فوري للأنشطة الأميركية في قاعدة كوسي الجوية، لعدم تمكّنهم من "تقديم المستندات التي تبرر وجودهم".
ورغم عدم صدور أي بيان رسمي تشادي، فإن المتحدث باسم الخارجية الأميركية، أكد اتفاق الجانبَين على أن الفترة التي تلي الانتخابات الرئاسية التشادية المقبلة "6 مايو/أيار"، هي الوقت المناسب لمراجعة التعاون الأمني بينهما".
ورغم أنّ عدد القوات في هذه القاعدة ليس كثيرًا " لا يزيد على مئة "، فإنّه يطرح العديد من التساؤلات حول توقيت الإعلان، وأسبابه، وهل يشكّل تراجعًا لواشنطن في المنطقة؟ كما يطرح تساؤلات أيضًا عن طبيعة العلاقة بين واشنطن وتشاد المستعمرة الفرنسية التي تلعب دورًا هامًا في الحفاظ على مصالح باريس في منطقة وسط أفريقيا، والساحل الأفريقي، وهل فعلًا تشاد هامة لواشنطن، كما هو الحال بالنسبة لباريس؟
توقيت وأسباب القراريمكن القول؛ إن الإعلان الذي لم يتأكد رسميًا من الجانب التشادي، جاء في توقيت حساس من نواحٍ عدة:
الأولى: أنه يأتي بعد أقل من شهر من قرار المجلس العسكري في النيجر المجاورة وبصورة منفردة، إنهاءَ الاتفاقية الأمنية مع واشنطن، ومطالبتها بالرحيل عن البلاد، على اعتبار أن الاتفاقية الموقعة معها عام 2012 مجحفة بالبلاد، بل واتخاذ الجانبين خطوات عملية في هذا الشأن، تمثّلت في قرار واشنطن إرسالَ وفد للنيجر المجاورة لوضع الترتيبات الخاصة بخروج القوات الأميركية، بالتزامن مع وصول "فيلق أفريقيا" الروسي الذي سيعمل بشكل علني على دعم النيجر، وبقية الدول الغاضبة من الغرب. الثانية: أنه جاء بعد فترة وجيزة من الزيارة التي قام بها رئيس المجلس الانتقالي "العسكري" محمد إدريس ديبي، لموسكو التي تسعى الآن لأن تكون بديلًا للغرب والولايات المتحدة، في القارة الأفريقية بصفة عامة، وفي منطقة وسط أفريقيا والساحل الأفريقي بصفة خاصة، كما جاء بعدما تردّد عن رغبة كل من: مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في تشكيل تحالف دفاعي جديد مع موسكو، عوضًا عن تحالف دول الساحل "G-5 " لمحاربة الإرهاب في الإقليم والذي يضمّ أيضًا تشاد وموريتانيا، وبالتّالي قد تفضل نجامينا البديل الروسي، والانضمام لهذا التحالف البديل عن التحالف الغربي – الأميركي. الثالثة: أنّ الإعلان يأتي قبل 3 أسابيع من الانتخابات الرئاسية التي يخوضها ديبي الابن؛ لإنهاء الفترة الانتقالية في البلاد منذ وفاة والده قبل ثلاثة أعوام، كما أنه يأتي بعد فترة وجيزة، مما نشرته تقارير إعلامية ومراقبين في فبراير/شباط الماضي، حول سعي واشنطن للإطاحة به، عبر حليفها رئيس الوزراء المعين حديثًا نجاح ماسرا، من خلال عقد بعض رجال ماسرا محادثات سرية في قاعدة "تمنهنت" العسكرية، في ليبيا، مع قادة بعض الجماعات التشادية المتمردة مثل: "CCMSR "، و"FACT"، وأن واشنطن ستزوّد هذه الجماعات المتمردة بالأسلحة للإطاحة بالرئيس الحالي. ما يعني في حال صدق هذه الرواية، أن ديبي يرغب في إفشال مخطط الإطاحة به عبر إصدار هذا الإعلان، من خلال قائد القوات الجوية، لتوجيه رسالة لواشنطن للكفّ عن هذا التفكير. أهمية تشاد للولايات المتحدةتقع تشاد في منطقة إستراتيجية ذات أهمية كبرى ليس لفرنسا فحسب، ولكن للولايات المتحدة أيضًا، فهي تقع "بجوار ليبيا والسودان " اللتين تشهدان حربًا أهلية منذ فترة؛ حيث قد تجعلهما بيئة خصبة لتحرك الجماعات المسلحة عبر الحدود، فضلًا عن كونها جزءًا أصيلًا في عمليات المواجهة الفرنسية والأوروبية ضد الجماعات المسلحة في منطقة الساحل من خلال عملية "برخان"، وعضويتها في مجموعة "G-5" التي تضمها بجانب كل من: موريتانيا، مالي، بوركينافاسو، النيجر.
ازدادت هذه الأهمية بعد انسحاب الدول الثلاث الأخيرة منها؛ بسبب توتر العلاقات مع فرنسا على خلفية الانقلابات التي شهدتها؛ وبالتالي لم يبقَ إلا تشاد وموريتانيا، وفي ظل محدودية دور الأخيرة، فضلًا عن موقعها الجغرافي أقصى غرب القارة؛ باتت تشاد فاعلًا أساسيًا في مواجهة الإرهاب سواء بالنسبة لفرنسا، أو واشنطن التي توجد قواتها في جزء من القاعدة الفرنسية في نجامينا.
وتتمتع وحدة مكافحة الإرهاب بتشاد، والمكونة من 11 ألف جندي، بسمعة طيبة في هذا الشأن، وبحسب مقال في وول ستريت جورنال العام الماضي، فقد أرسلت تشاد 1400 جندي لمحاربة الجماعات الجهادية في شمال مالي، و1800 للقيام بعمليات على الحدود الثلاثية المضطربة عند تقاطع بوركينا فاسو، والنيجر، ومالي، ولديها 1100 جندي يقاتلون "بوكو حرام" وتنظيم "الدولة" في غرب أفريقيا حول بحيرة تشاد، كما تلاحق في أحيان أخرى المسلحين في نيجيريا، والنيجر.
ومن ناحية ثانية، فإن موقع تشاد المحوري بجوار دول باتت تشهد نفوذًا روسيًا متناميًا، مثل: أفريقيا الوسطى، مالي والنيجر، فضلًا عن بوركينا فاسو، أكسبها اهتمامًا كبيرًا، خاصة بعد تشكيل موسكو الفيلق الأفريقي بديل "فاغنر" أوائل العام الماضي، وعزم موسكو نشر نحو 50 ألفًا من عناصره في أفريقيا، وتعزيز حضورها في البلدان التي تنتشر فيها، وتكثيف التعاون العسكري والاقتصادي مع دول القارّة، وخاصة دول الساحل والصحراء.
التعاون العسكريّ مع واشنطنلهذه الأسباب، سعت واشنطن منذ إدريس ديبي الأب، في تعزيز التعاون مع نجامينا في مجال مكافحة الإرهاب في الإقليم، عبر تعزيز القدرات العسكرية سواء للجيش أو للقوات الخاصة العاملة في هذا المجال. وبحسب المتحدّثة باسم القيادة الأميركية في أفريقيا "أفريكوم"، فإن العلاقات الأمنية مع تشاد تستهدف زيادة قدراتها في مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، وإضفاء الطابع المهني على قواتها العسكرية عبر رفع قدراتها القتالية واللوجيستية، وزيادة استعدادها للمشاركة بفاعليّة في حفظ السلام".
ويتمركز جنود القوات الخاصة الأميركية في نجامينا لتقديم المشورة للقوة الإقليمية التي تقاتل "بوكو حرام" وتنظيمَي "القاعدة"، و"الدولة". وحتى وفاة ديبي الأب في عام 2021، قامت هذه القوات بتدريب القوات التشادية الخاصة بتكلفة عشرات الملايين من الدولارات منذ عام 2015، كما زوّد البنتاغون الجيش بشاحنات تويوتا لاند كروزر الصغيرة والدروع الواقية من الرصاص.
كيف تقاربت أميركا مع ديبي الابن؟مع وصول ديبي الابن للحكم، عملت واشنطن على التقارب معه عبر مجموعة من الإجراءات، للسير على خطى والده:
عدم توصيف ما حدث في البلاد بعد رحيل ديبي الأب بالانقلاب.. فرغم أن دستور البلاد، يعطي الصلاحية لرئيس البرلمان، لخلافة الرئيس حال حدوث أمر طارئ، فإن إدارة بايدن اختارت عدم توصيف استيلاء ديبي الابن على السلطة بالانقلاب؛ بحجة أن رئيس البرلمان تنحّى طواعية؛ ولأن من شأن توصيف ما حدث بالانقلاب وفق القوانين الأميركية؛ القطع التلقائي للمساعدات الأمنية، كما حدث في حالات انقلابات: مالي، وبوركينا فاسو، وغينيا. ومعنى هذا أن واشنطن تغلِّب اعتبارات الأمن والمصالح الخاصة على فكرة الديمقراطية وحقوق الإنسان. إظهار واشنطن دعمها لديبي الابن ضد أية محاولات للإطاحة به. ففي وقت سابق من عام 2023، تبادلت الولايات المتحدة معلومات استخباراتية مع تشاد، مفادها أن موسكو تسعى من خلال "فاغنر"، لزعزعة الاستقرار والتخطيط لقتل ديبي، في محاولة واضحة لتوسيع نفوذها لدى القادة العسكريين في العديد من البلدان المجاورة. السماح لديبي بالمشاركة في قمة أميركا-أفريقيا رغم أحداث العنف التي شهدتها البلاد في أكتوبر/تشرين الأول 2022؛ ورغم المطالبات بضرورة تحويل المسؤولين عنها للمحاسبة أمام القضاء. عدم الضغط على المجلس العسكري لتسليم الحكم للمدنيين في الموعد المحدد بعد 18 شهرًا " يفترض انتهاؤها في أكتوبر/تشرين الأول 2022″، والاكتفاء بدعوة المجلس العسكري لاحترام الجدول الزمني للانتقال الديمقراطي. صحيح أنها أعلنت عدم أهلية قادة هذا المجلس للترشح للانتخابات، لكنها لم تترجم ذلك لخطوات عملية.وكان من نتيجة ذلك، محافظة ديبي الابن، على موقف والده المؤيد للغرب، واستمر في إرسال الآلاف من قوات بلاده لمحاربة التنظيمات المسلحة في مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر.
هل تنقلب تشاد على واشنطن؟من الواضح أن تشاد لن تنقلب بسهولة عن واشنطن؛ بسبب حاجتها لها، إلا إذا كانت هناك اتفاقات لها مع روسيا "ربما تظهر للعلن قريبًا"؛ بما قد يجعل موسكو بديلًا لواشنطن في تشاد. ففي تعليقه العام الماضي، على الأوضاع في الإقليم ودول الجوار، أكد الفريق عبد الرحمن يوسف مري، قائد وحدة مكافحة الإرهاب في البلاد، أن بلاده تحتاج للدعم، وليس للانسحاب الأميركي.
وقد تزايدت هذه الحاجة التشادية بعد الحرب الأهلية التي شهدها السودان العام الماضي، وتدفق الآلاف عبر الحدود إلى تشاد المجاورة. وفي هذا الصدد، أكد مري؛ "لا يمكننا أن نفعل هذا بمفردنا… نحن بحاجة إلى مساعدة الولايات المتحدة؛ للحفاظ على السلام على طول الحدود التشادية، ومنع المشاكل في السودان من التحرك غربًا."
وفي المقابل نجد أن واشنطن تحتاج أيضًا لتشاد لمواجهة الآثار المحتملة للحرب في السودان على مصالحها في المنطقة. فبحسب وثيقة لمجلس الأمن الدولي العام الماضي، فإن تنظيمَي "القاعدة" و"الدولة الإسلامية" يستخدمان السودان "كقاعدة لوجيستية ومالية" للعمليات في جميع أنحاء أفريقيا، بما في ذلك نقل المقاتلين إلى جنوب ليبيا، ومالي، وغرب أفريقيا.
كما أنّ واشنطن تحتاج لتشاد كأداة هامة لمواجهة العنف المستشري في المنطقة منذ الانقلابات الثمانية التي شهدتها منذ عام 2020، فمنذ انقلابات: مالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، انتشر العنف في هذه الدول بنسبة 38% تقريبًا العام الماضي.
ومعنى هذا أنّ تشاد أرادت بهذا الإعلان الأخير" شبه الرسمي" توجيه رسالة لواشنطن بمنع تدخلها في الانتخابات، والتخلي عن دعم ماسرا، فضلًا عن رغبتها في تحسين شروط الاتفاقية الأمنية، بما يحد من تغلغل واشنطن في البلاد. ويبدو أنّ هذا هو الإنذار الأوّل لواشنطن التي عليها إما الانصياع، أو الطرد لصالح الدبّ الروسي الجاهز فورًا للتدخل على غرار النيجر المجاورة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات مکافحة الإرهاب وبورکینا فاسو العام الماضی الإرهاب فی فی البلاد فی منطقة فضل ا عن من خلال فی هذا
إقرأ أيضاً:
الانحدار الثقافي في الولايات المتحدة يهدد مستقبل الديمقراطية
ترجمة - بدر بن خميس الظفري -
كمراقب لأنظمة الحكم الديمقراطية ومحامٍ دستوري في بريطانيا، أتابع بقلق متزايد ما تشهده كثير من الدول الغربية من بوادر انهيار ديمقراطي. قد لا تكون هذه البلدان قد وصلت إلى مستوى فنزويلا أو بيرو أو المجر أو تركيا أو روسيا، لكن ما يحدث فيها يوضح كيف تموت الديمقراطية بصمت، لا بضجيج. لا دبابات تجتاح الشوارع ولا حشود غاضبة تملأ الساحات، لكن ما يجعل الديمقراطية حية تتلاشى ببطء، وغالبًا بدعم جماهيري كبير. هذه الدول ما زالت تقيم انتخابات، وتملك برلمانات ومحاكم، لكن الإطار المؤسسي القائم يخلو من الروح؛ لأن الثقافة السياسية التي تغذيه قد انهارت.
الولايات المتحدة، اليوم، مهددة بأن تُدرج في هذه القائمة. مؤسساتها ما زالت تعمل، رغم التوترات المتزايدة بينها، غير أن التدهور في ثقافتها السياسية مثير للقلق. ويشترك هذا الوضع مع كثير من الديمقراطيات الغربية الأخرى التي تعاني تحت وطأة توقعات متزايدة وغير واقعية من الدولة، يفرضها الناخبون.
الديمقراطية آلية دستورية للحكم الذاتي الجماعي، يُناط فيها اتخاذ القرار بأشخاص يقبل بهم غالبية الناس، وتُقيد سلطاتهم ويُسحب تفويضهم متى اقتضى الأمر. لكن الديمقراطية لا تقوم على المؤسسات وحدها، بل على ثقافة متجذرة في سلوك السياسيين والمواطنين. إنها تتطلب استعدادًا لاختيار حلول يستطيع معظم الناس التعايش معها، وتفرض أعرافًا تحد من الاستعمال التعسفي أو الانتقامي أو القمعي للسلطة، حتى عندما يكون قانونيًا. والأهم من ذلك، أنها تتطلب أن يُنظر إلى الخصوم السياسيين كمواطنين شركاء في الوطن، لا كأعداء يجب سحقهم.
ومن هنا تبرز خطورة دونالد ترامب، الذي يُجسد ثلاث سمات كلاسيكية للأنظمة الاستبدادية هي الزعامة الكاريزمية المحاطة بعبادة شخصية، والخلط بين الدولة وذاته، والرفض التام لشرعية المعارضة أو الاختلاف. والنتيجة هي استبدال حكم القانون بحكم قائم على الأهواء، وهو ما كان المؤسسون الأوائل للولايات المتحدة يعتبرونه الخطر الأكبر على الديمقراطية.
ترامب استخدم سلطاته العامة لتصفية حسابات شخصية. استهدف مكاتب محاماة مثلت خصومه، وحرم شخصيات عامة من الحماية الأمنية، وهاجم مؤسسات ثقافية مثل جامعة هارفرد ومركز كينيدي لأنها لا تتماشى مع أجندته الشخصية. حتى المادة الثانية من الدستور، التي تلزم الرئيس بتنفيذ القوانين بأمانة، باتت مرهونة بمزاجه. فقد وجّه وزارة العدل بعدم تطبيق قوانين صادق عليها الكونجرس، مثل قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة، وقلّص أو أوقف برامج خُصصت لها أموال اتحادية، وهدد حكام الولايات بقطع الدعم عنهم ما لم ينصاعوا له.
قد نمتلك نحن المراقبين من الخارج رفاهية المتابعة من مسافة، لكن علينا أيضًا التأمل في هشاشة ديمقراطياتنا. ما يحدث في الولايات المتحدة هو أزمة توقعات، شبيهة بما تمر به كثير من الدول المتقدمة. ففي استطلاع رأي أُجري في بريطانيا عام 2019، أعرب أكثر من نصف المشاركين عن تأييدهم لفكرة أن بلادهم «بحاجة إلى قائد قوي مستعد لكسر القواعد».
شهدت أوروبا ارتفاعًا في الدعم الانتخابي لشخصيات سلطوية بشكل علني، كمارين لوبان في فرنسا، ويورغ هايدر في النمسا، وفيكتور أوربان في المجر، وقيادات حزب البديل لأجل ألمانيا. الأسباب معقدة، لكن أبرزها أن الناس باتوا يتوقعون من الدولة أشياء تفوق قدرتها، ويزداد نفورهم من المخاطرة. في بعض الأحيان، تتحقق هذه التوقعات على حساب قيم مهمة أخرى. وتحديدًا، يعلّق الناخبون آمالهم الكبرى على أن تحميهم الدولة من التقلبات الاقتصادية القاسية.
نحن نطلب من الدولة الحماية من كل الأخطار التي تحفل بها الحياة مثل فقدان الوظيفة والفقر والكوارث الطبيعية والمرض والفقر والحوادث. وهذا نابع جزئيًا من التقدم الهائل في القدرات التقنية للإنسانية منذ القرن التاسع عشر. وبات الناس يطالبون الدولة بحلول لكل أزمة، وإذا لم يجدوا هذه الحلول، رموا بفشلهم على الحكومة.
وعندما تخيب هذه التوقعات، يلوم الناس النظام بأسره، أو ما يسمى بـ«الدولة العميقة». في غياب الثقافة الديمقراطية، يتجه الناس تلقائيًا نحو «الزعيم القوي»، ويخدعون أنفسهم بأن هذا الزعيم سينجز ما عجز الآخرون عنه.
الولايات المتحدة تقدم مثالًا فريدًا. لقد نعمت بما يقارب 150 عامًا من الحظ السعيد والاستقرار النسبي، لكن هذا الحظ قد ينتهي الآن، مع صعود قوى اقتصادية مثل الهند والصين. المهارات التقليدية باتت عديمة القيمة في الاقتصادات مرتفعة الأجور، مع انتقال الثروة نحو صناعات التكنولوجيا المتقدمة، ما أضر بدخول من اعتمدوا على التصنيع والزراعة والصناعات الاستخراجية. وحتى في المجالات التكنولوجية التي لا تزال أمريكا تتفوق فيها، فإن الفجوة بدأت تضيق.
هذه المشكلات لا تخص أمريكا وحدها. أوروبا تعاني منها أكثر، وتوقعاتها من الدولة أعلى. لكن فقدان الأمل لحظة خطرة في حياة أي ديمقراطية. خيبة الأمل من وعود التقدم كانت أحد أسباب الأزمة الأوروبية الكبرى التي بدأت في 1914 وانتهت في 1945.
والمفارقة أن التاريخ يعلّمنا أن الزعماء الأقوياء لا يحققون شيئًا في نهاية المطاف.
ربما يرضون غرور بعض الناس لفترة، لكن بثمن باهظ. غالبًا ما يلتصق هؤلاء بحلول مبسّطة لمشكلات معقدة، ويركزون السلطة في أيدي قلة، دون تخطيط أو بحث أو مشورة. ويحيطون أنفسهم بالموالين بدل الحكماء، وبالمتملقين بدل المستشارين، ويضعون مصالحهم فوق المصلحة العامة. وهذه وصفة للفوضى والانهيار السياسي والانقسام المجتمعي.
إذا استمر الأمريكيون في انتخاب شخصيات سلطوية ومن يروّجون لها إلى الكونجرس، فلن تصمد الديمقراطية. لكن هذا ليس قدرًا محتومًا بعد.
كان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة يدركون تمامًا أن الديمقراطية تعتمد على الثقافة، وأنها هشة. كتب الرئيس الثاني للبلاد، جون آدامز، وهو في شيخوخته، أن الديمقراطية، مثل غيرها من أنظمة الحكم، معرضة لأهواء الغرور والطمع والطموح، بل إنها أكثر تقلبًا منها. وخلص إلى أن «لا ديمقراطية في التاريخ إلا وانتهت بالانتحار».
ولذا، صمّم المؤسسون «حكمًا يقوم على القوانين لا على الأشخاص». حكمًا يقوم على مبادئ عقلانية مطبقة باستمرار، لا على أهواء رجال يتحكمون بمصير الدولة. فالحكم القائم على الأشخاص دعوة لحكم الاستبداد، تغذّيه نزوات الغرور والجشع والطموح.
عرفت أمريكا ديماغوجيين في تاريخها، لكنها كانت حتى الآن قادرة على إقصائهم. فقد كانت الأحزاب السياسية تحترم النظام الديمقراطي بما يكفي لقطع الطريق عليهم.
ولا يزال الأمل قائمًا في أن يقتنع الناخبون، بعد تجربة الحكم الفردي، بضرورة العودة إلى الإرث الديمقراطي الحقيقي للولايات المتحدة، وإلى السعي الجاد لجعلها - عظيمة حقًا - من جديد.
جوناثان سمبشن قاض سابق في المحكمة العليا البريطانية ومؤلف كتاب «تحديات الديمقراطية وسيادة القانون».
خدمة نيويورك تايمز