محمد بن حمد البادي
mohd.albadi1@moe.om
الإنسان -كما عرَّفه ابن خلدون في مقدمته- كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه، غير قادر عن الاستغناء عن التعامل مع الناس، ولكي تكون علاقة الإنسان بالآخرين ناجحة، فلا بُد أن يكون على قدرٍ عالٍ من الذكاء الاجتماعي.
واختلفَ علماءُ الاجتماع حول تعريف الذكاء الاجتماعي، وهذا انعكاسٌ طبيعي لاختلافهم حول تصنيفه: هل هو فطري يولد مع الإنسان؟ أم مُكتسب، يتأثر بعوامل أخرى كالخبرات والتجارب.
الفريق المناصر لفطرية الذكاء الاجتماعي؛ يعرفه بأنه قدرات تُوْلَد مع المرء وتنمُو معه لتساعده على الانسجام والتآلف الجيد مع الآخرين. أما الفريق الآخر الذي يراه مكتسبًا؛ فإنه يعرِّفه بأنه مجموعة المهارات التي يمتلكها الفرد وتساعده على الاستجابة والانسجام والتكيف والمواءمة مع المواقف الاجتماعية المختلفة.
ولكي يتمتع الإنسان بذكاءٍ اجتماعيٍّ يُعِينه على التعامل السوي مع الآخرين؛ لا بد أن يراعي عدة نقاط؛ أهمها:
أولًا: الطهارة الداخلية من الصفات المذمومة؛ مثل: الغيرة والغل، والحقد والحسد، والبغضاء وسوء الظن بالآخرين، وأن يتصف بالخلق الحسن، فالإنسان -مهما بلغ من العلم، ومهما حاز من شهادات وألقاب ومناصب، ومهما حقق من إنجازات- لن يستطيع التأثير على الآخرين، ولن يكون له قبول في دواخلهم ما لم يكن على خلقٍ حسن، والنبي -صلوات الله وسلامه عليه- كان دائما يدعو لحسن الخلق، فمما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا"، لم يقل -عليه الصلاة والسلام- أكثركم صلاةً وصيامًا، ولم يقل أكثركم مالًا وأولادًا، ولا أعلاكم منصبًا وشهادة، بل قال أحاسنكم أخلاقًا.
تَحلَّ بالفضائل والشمائل والأخلاق الحسنة لتكُن أساسًا لتعاملك مع الآخرين، وكُن أنت مصدر الخير، والنور الذي يضيء الطريق للآخرين دائمًا، وإن مما عُدَّ من خوارم المروءة أن يجعل الإنسان البشر مرآة لأخلاقه؛ يُحْسِن أن أحسنوا؛ ويُسيء إن أساؤوا.
ثانيًا: لا تجعل من اللوم منهجًا لك في الحياة؛ فكثرة اللوم تُوْرِث العداوة، واترك العتب لأجل صفاء الود، فإنْ كنت في كل الأمور معاتبًا، لم تلق الذي لا تعاتبه، فكثرة العتاب من أسباب فقد الأحباب.
يقول الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله: "لا أذكر قطّ أنّي عاتبتُ أحدًا، أتركُ النّاس على سجيّتهم. مَن أحسن أحسنتُ إليه، ومَن أساء عذرتُه، وإن كررها رحلت عنه بكرامة".
وإنَّ من تمام الوفاء بين الزوجين ألا يُعاتب كل منهما الآخر على كل ما يراه منه من تجاوز، وإن كان لا بد من العتب فاكتف بأقل الكلام وأحسنه.
ثالثًا: لا تتدخل في خصوصيات الآخرين؛ واحترم الحدود الشخصية بينك وبينهم، (كم راتبك؟ وين سافرت؟ شو عندك من السيارات؟ وماذا أكلت؟ وماذا شربت؟ وماذا فعلت؟ وماذا تركت؟).
من عفَّ نفسه عن الفضول ازدادت محبة الناس له، وهذا أدبٌ من آداب الحياة العامة التي دعا إليها الإسلام، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".
رابعًا: لقد علَّمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة؛ لكي يفهم الآخرون ما نكتب، وعلمتنا قواعد المرور أن نترك مسافة أيضًا بيننا وبين السيارة التي أمامنا؛ حتى لا نصطدم بها، وعلمتنا حركة الحياة؛ في فضاء العلاقة مع الناس؛ أن نترك مسافة بيننا وبين الآخرين؛ حتى نفهمهم جيدًا وحتى لا نصطدم بهم، أو نتصادم معهم، واعلم أنَّ بعض الأشياء أجمل من بعيد، فكن واعيًا بفن إدارة المسافات بينك وبين الآخرين، فقُربك منهم ربما يسبب النفور والملل والسآمة، وبعدك عنهم ربما يدخلك في نفق النسيان.
خامسًا: تقبَّل من حولك كما هم بكل علّاتهم، لا تكن علاقتك بهم مشروطة، وخصوصًا الأقربين، لا تشترط عليهم المثالية التي حفرت صورتها في مخيلتك كقيد ليكونوا مقبولين لديك، وكأنك تفصِّل ثوبًا على مقاسك، ولا تتوقع أن تجد أحدهم خاليا من كل العيوب؛ فالكمال لله وحده، وإذا لقيت أحدهم بعد غياب طويل فصافحه بحرارة، وتكلم معه بحماس، وودعه بحرارة.
سادسًا: أَحْسِن الظن بالآخرين وتعامل بالخير الموجود في دواخلهم، فمهما اجتهدت لن تُصلِح أخطاءهم، فليس من اللائق أن تتصيد أخطاء الآخرين وكأنك تريد أن تلصق التهم بهم، وضع نفسك مكان أحدهم، كيف سيكون شعورك عندما يكون تعامل أحدهم معك بسوء الظن؟
سابعًا: عَامِل الناس على أساس أنهم مختلفون في أساليب حياتهم وخبراتهم وتجاربهم وبيئاتهم التي يعيشون فيها، وأن كلًّا منهم تأثر بعوامل مختلفة، ونشأ في ظروف مختلفة، وكُن على يقين أن الاختلاف بين البشر من سنن الكون، فحتى التوأم -رغم أنهما من رحم واحد؛ تفصلهما ربما دقائق معدودات- تجد بينهما خلافات دائمة، وسلوكيات وطباعا متباينًا.
ثامنًا: عبِّر عن مشاعرك الإيجابية تجاه الآخرين؛ فهناك مقولة رائعة سمعتها من أحدهم؛ يقول فيها: "وردة واحدة تهديها لمن تحب؛ خيرٌ من بستان من الورد تضعه على قبره بعد موته"، واحذر أن تعبر عن مشاعر السخط والكراهية، فلست مُضطرًا لذلك، فقليلٌ من المجاملة لن يضرَّك، واعلم أن محاولة كسب ود الآخرين أقل جهدًا؛ وأسهل بكثير من محاولة استعدائهم.
وأخيرًا.. إنَّ جوهر الذكاء الاجتماعي يعتمد على معرفة الإنسان بالآخرين وإدارة التعامل معهم، ولتحقيق ذلك لا بُد أن يكون الإنسان على مستوىً عالٍ من الذكاء العاطفي الذي يتلخص في معرفة الإنسان بذاته؛ وإدارته لذاته. ومن هنا، يتبين لنا أن الذكاء الاجتماعي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالذكاء العاطفي؛ فلا يمكن أن يكون هناك ذكاء اجتماعي ما لم يكن هناك ذكاء عاطفي.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
كوب قهوة يُغيِّر كل شيء؟!
ريم الحامدية
reem@alroya.info
ليست العطايا الثمينة وحدها ما يصنع الفارق في أيامنا، وليس من الضروري أن تكون الحياة مُعقَّدة حتى نشعر بالسعادة، تمُر بنا الأيام سريعةً نركُض بين التزاماتنا وازدحام مسؤولياتنا، نلتقي بأهلنا وأحبتنا وزملائنا وننسى- أو بالأحرى نتناسى- أن اللفتات الصغيرة تترك أثرًا لا يُنسى، وفي زحام الأيام لا نحتاج إلّا للحظة دافئة وصادقة وهادئة تنتشلنا من تِيه الركض إلى حضن السكون.
نعيش في مجتمعات لا تزال ترى التعبير عن الود والمحبة نوعًا من الكماليات! رغم أنه من أبسط وأروع الصور الإنسانية، في حين أن البعض يراها تصرفات لا داعي لها. بينما في حقيقة الأمر، هذه التصرفات وحدها هي التي تُعمِّق العلاقات وتُخفِّف الضغوط وتُشعِر الآخر بأنه مُقدَّر ومحبوب. ليس كوب القهوة بحد ذاته الذي يصنع الفارق؛ بل ما يُرافق هذا الفعل من كلمة صادقة ويد مُدَّت للمصافحة أو حتى صمت مُطمئِن، لا يطلب تبريرًا. وهذا الفعل قد لا يُغيِّر حياةً بأكملها، لكنه قادر على أن يُغيِّر يومًا في حياة أحدهم، وقد لا يصلح العالم، لكنه قد يُرمِّم قلبًا مُرهفًا أو يُضيء عتمة مرَّت على إنسانٍ دون أن يشعر.
لا نعلم كم من البشر ينهضون من نومهم مُثقلين ويعملون بصمت، يتحدثون وهم يُخفون خلف الكلمات شيئًا من الانكسار، وقد يبتسمون وهم مُنهكون. تخيَّل أن يُطرق بابك شخص، بينما أنت مُنهك في عملك، ويحمل كوب قهوتك المُفضَّلة ويتحدث معك بابتسامةِ ودٍّ ويقول "مريت على بالي".. ألا يكفي ذلك لتغيير نظرته تجاه يومه ونبض قلبه ونظرته لما تبقى من ساعات يومه؟
أتساءل متى تأخذ هذه الثقافة مكانتها في مجتمعنا؟ وأجيبُ في الوقت ذاته، أنَّ ذلك سيحدث عندما نُدرك أن اللُطف لا يؤجَّل، وأن النيّة الطيبة كافية لتجعلنا أُناسًا أجمل وأورع. والبداية ستحِل عندما لا ننتظر الوقت المناسب، ونتعامل مع اللحظات وكأنَّها الفرصة الأخيرة.
إنَّنا لا نفتقر إلى القدرة على العطاء؛ بل نفتقر إلى ثقافة العطاء البسيط، ونربط الحب بالهدايا الكبيرة، والامتنان بالكلمات الرسمية، والمودَّة بالمواقف العظيمة، بينما في الحقيقة الإنسان يحتاج إلى لفتة.. لمسة.. كوب قهوة.. وردة.. رسالة مكتوبة بخط اليد، وربما نظرة اهتمام. هذه التفاصيل التي نمُر عليها مرور الكرام قد تكون طوقَ النجاة لشخصٍ ما.
نحتاج لأن نُراجع أنفسنا، ونسأل: كم مرة في الأسبوع فكَّرنا في شخص نُحبه دون أن يكون هناك سبب مباشر؟ كم مرة أسعدنا أحدهم فقط لأننا نُريده أن يكون سعيدًا؟ في زحام الروتين اليومي تُصبح العلاقات باهتةً إن لم تُسق بماء الاهتمام، وهذه المبادرات لا تتطلب وقتًا طويلًا؛ بل فقط تحتاج إلى قلبٍ حيٍّ وإلى حسٍ إنسانيٍ بسيط.
ما الذي نخسره لو أسعدنا الآخرين؟
يجب علينا أن نُدرك أن ثقافة إسعاد الآخرين لا تحتاج ثراءً، ولا حتى مناسبة، أننا لا نُكلِّف أنفسنا الكثير بهذا الفعل؛ بل على العكس نحصدُ سلامًا داخليًا لا يُشترى، ولو تبنَّينا هذه الثقافة دون انتظار مناسبة ودون مقابل، كيف سيكون شكل علاقتنا؟ بيوتنا؟ بيئة العمل؟ حتى الشوارع التي نسير فيها؟ كم من الخلافات ستختفي؟ وكم من القلوب ستَلِين وتودع القسوة؟ وكم من الأرواح ستُشفى من التعب؟
الفرحة لا تُشترى، لكنها تُمنَح، والقلوب لا تُفتح بالعِظات؛ بل بالإحساس، فما أجمل أن نُعيد بناء ثقافة البساطة في إسعاد الآخر، أن نحمل معنا كوب قهوة لا لنتناوله نحن؛ بل لنُقدِّمه لمن يستحق لحظةَ فرحٍ في خِضَمِّ يومه المُزدحم.
وأخيرًا.. أود أن أهمس في قلوبكم، بأن القلوب مُرهفة والحياة قصيرة، وكُلُنا نحتاج إلى من يلتفت إلينا في لحظة غير متوقعة، لا تنتظر مناسبةً لتكون لطيفًا ولا تُؤجِّل فعل الخير لحين فراغك، ولا تنتظر أن ينهار أحدهم كي تُواسِيه.. قدِّم شيئًا بسيطًا وأنت لا تعرف كم ستحمل معه من نور، ربما يتذكَّر أحدهم هذا الكوب بعد أعوام، وربما لا ينساه أبدًا.
كوب قهوة يُغيِّر كل شيء.. فلنكن نحن هذا الشيء الجميل في يوم أحدهم.
رابط مختصر