عاش نيكولاي أوستروفسكي (1904 -1936) حياة قصيرة حين أقعده المرض في السرير وهو شاب في العشرين من عمره بعد الجراح الممضة وفقدان البصر التي أصيب بها في جبهات الحرب الأهلية، وكانت صحته تتردى يومًا بعد يوم، في تلك الفترة بدأ يكتب رواية «كيف سقينا الفولاذ» الصادرة عام 1934 التي تعد من عيون الأدب السوفييتي، الرواية التي تحدث بها عن الشباب والحب والكفاح في سبيل الحياة وفيها يقول: «الحياة أعز شيء للإنسان إنها توهب له مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها ولا يلسعه العار على ماض رذل تافه، وليستطع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قواي موهوبة لأروع شيء في العالم: النضال في سبيل تحرير الإنسانية».
كثيرا ما يحدث أن تفقدنا الألفة الدهشة، ويفقدنا التكرار لذة الانفعال الشعوري المصاحب للمرة الأولى، يحدث أن يقلّ تأثرنا ثم يختفي تدريجيا بتعودنا على أحداث كثيرة تمر علينا لتتحول من الندرة إلى الألفة، ومن الاستهجان إلى التعوّد، ومن التأثير إلى انتزاع الأثر؛ من هذه الفكرة تحديدا وعبرها تتم برمجتنا عصبيا ونفسيا بمعايشتنا لسنوات قائمةً من الأحداث والأخبار والمشاهد المرئية والمسموعة التي تتلقاها أجهزتنا العصبية وأرواحنا المتعبة لنختزنها في أعماقنا ما قد يحرك ردود أفعالنا ذات مرة أولى، وسلوكنا ذات صدمة للتلقي لا نلبث أن نتجاوزها بعد التكرار العاشر (أو ربما قبل ذلك؛ حسب قدرة كل منا على الخزن والتجاوز)، وقد يكون ذلك من الخير حين نتحدث عن مساحات السلام الداخلي وضرورة تخلص الإنسان من المخزون السلبي وطاقات الحزن والخوف والفزع، لكن لذلك مآلات نفسية سلوكية خطيرة قد تتجاوز فكرة التشرب والتأقلم والتجاوز إلى فكرة أخطر في استمراء الألم وتعود القهر وألفة غير المألوف.
لا يمكن إخفاء تأثرنا العظيم قبل سنوات من خبر صادم يتضمن مشهد إنسان يعاني ويلات الحروب أو المجاعة، طفل يتألم من طلقة طائشة، أو عجوز يصرخ بعد تهجير أو تجويع، كما لا يمكننا إخفاء أن أحداث العالم في العقد الأخير الذي نعايشه أمطرتنا بكثير من مشاهد أكثر وجعا، وصرخات أعلى دويا دون أن تترك الأثر ذاته، وليس ذلك أننا صرنا بلا شعور، بل هو اليقين بأن ثمة برمجة (سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة) قد حدثت لشعورنا لحظة التلقي، وسلوكنا أوان استيعاب الحدث، كما لا يمكن إنكار قدرة التكرار على تخدير الوجع وتعوّد الموجع كما لو أننا فعليا نسير إلى مرحلة فقدان التأثر وتجميد الانفعال.
ما يحدث اليوم من أحداث عالمية تهاجم أجهزتنا العصبية تحيل بعضنا إلى العزلة بغية الاستشفاء واستعادة ما بقي من قدرة على الشعور والتفاعل، هروبا من نمط التكرار وحال التعود ولو إلى حين، كما أنها أحالت بعضنا إلى آلية الاستقبال وبلاهة التلقي إذ يصل الإنسان في هذه المرحلة إلى تحييد مشاعره وتجميد انفعالاته ليمر على المآسي مرورًا وظيفيًا عابرًا دون أن يشعر بأنه في الحقيقة وقع ضحية لعصابة خفيّة إجرامية تسعى لسرقة محفزات جهازه العصبي وقدرته الإنسانية على التأثر المرتبطة كذلك بقدرته على التأثير، فيمضي لا شعوريا إلى مرحلة لاحقة من تحول إنسان هذا العصر إلى آلة يستنزفها الواقع، ويستهلكها نمط الحياة المادية البالية.
إن ما نمر به من أحداث يومية شخصية أو محلية أو عالمية يغبّش -مع كثرته- على قدرة عقولنا على الاستيعاب والتحليل، وقدرة أرواحنا على التأقلم والتعود، فهل تصدمنا بعد كل ذلك حقيقة أننا نسير إلى تشييء أرواحنا وقولبة ردود أفعالنا لنكرر ما كنا نستنكر من تحول بعضنا أفرادا أو مؤسسات إلى مجرد قوالب ناطقة مكررة كلمات مثل تنديد، استنكار، قلق، حذر، وغيرها من كلمات نحاول بها استنطاق الميت من مشاعرنا والمحنّط من ردود أفعالنا؟!إن خطورة ما يعايش شباب اليوم هو التركيز على المادة، واستنزاف طاقات كل من العقل والروح في سبيل الوصول إلى المادة التي سنكتشف جميعا بعد أمد طويل أنها ليست ما كنا نبغي، ولا هي غاية الساعي في استنزاف أيامه واستهلاك عمره كاملا دون تبني رأي، أو اعتناق عقيدة.
لعلّ بعض الأحداث السياسية الكبرى اليوم أسلمتنا إلى يقين عودة الحياة إلى آلة الجسد، وعودة التأثر إلى قالب الحياة الاستهلاكية البائسة، تلك الأحداث أحدثت ضجّةً هائلةً، وردات فعل جماهيرية مدهشة ليس لتضمنها وجعًا إنسانيًا عظيمًا وحسب، بل لقدرتها العميقة على بعث الميت من روحانيات الناس، والكامن المقولب من ردود أفعالهم ليمضوا في نصرتهم للموجوعين دون تلفت إلى خسارات كانوا يكبرونها بالأمس، أو تفكّر في ماديات استصغروها اليوم بعد احتفائهم الجماعي بإدراكهم أن إنسان هذا الكون المستنزف المتعب ما زال قادرًا على التوجع لأجل إنسانيته بعيدا عن كل ماديات العالم، وأن هذه القدرة وحدها هي من تضمن له ولغيره من البشر النجاة أوان تكامل الناس وتحلقهم حول أهداف إنسانية عليا تنتصر للحياة وتدرك مغبّة وقوع البشر ضحايا قسوة عجلات الوقت المادي الاستهلاكي.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
شاب تركي يفارق الحياة بسبب قرادة قاتلة
خاص
فارق شاب تركي في بداية العقد الثالث من عمره الحياة بعد إصابته بفيروس “حمى القرم– الكونغو النزفية (CCHF)”، الذي يُنقل عبر حشرة القراد، في واقعة جديدة تسلّط الضوء على تصاعد الإصابات بهذا المرض القاتل في تركيا.
ووفق ما أوردته وسائل إعلام محلية، توفي الشاب “أوغور أويماز” (30 عامًا) داخل أحد مستشفيات ولاية سيفاس وسط البلاد، بعدما تدهورت حالته الصحية خلال أربعة أيام فقط من ظهور أولى الأعراض، رغم جهود الطواقم الطبية لإنقاذه.
وكان أويماز قد لاحظ وجود قرادة ملتصقة بجسده قبل أربعة أيام من وفاته، لكنه لم يسارع إلى زيارة المستشفى، ما أدى إلى تفاقم حالته بعد يومين، بحسب إفادات مقربين منه. ويرجّح الأطباء أن القرادة تسببت في إصابته بفيروس “حمى القرم– الكونغو النزفية”، وهو فيروس شديد الخطورة قد يؤدي إلى الوفاة في غضون أيام.
وتُعد هذه الحالة عاشر وفاة تسجلها ولاية سيفاس بالفيروس منذ مطلع العام الجاري، بينما ارتفع إجمالي الوفيات المرتبطة بلدغات القراد في مختلف أنحاء تركيا إلى نحو 20 وفاة.
وتتركّز معظم حالات الإصابة بالفيروس في المناطق الريفية من سيفاس، حيث يعيش المصابون عادةً بالقرب من المواشي أو يتعاملون معها بشكل مباشر، مما يسهل انتقال القراد إليهم.
وكانت سيفاس قد شهدت أيضًا، في مايو الماضي، وفاة طفل رضيع يبلغ من العمر عامًا ونصف، بعد أن التصقت قرادة برقبته وتسببت في نقل العدوى له.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن فيروس “حمى القرم– الكونغو النزفية” يتسبب في فاشيات حادة من الحمى النزفية، ويصل معدل الوفيات الناجمة عنه إلى 40%، وينتقل الفيروس إلى البشر عبر لدغات القراد أو ملامسة دم أو سوائل أشخاص أو حيوانات مصابة، فيما لا يوجد حتى اليوم أي لقاح معتمد للوقاية منه سواء للبشر أو للحيوانات.
ويُعد الفيروس متوطنًا في عدة مناطق حول العالم، منها دول في إفريقيا والبلقان والشرق الأوسط وآسيا الواقعة جنوب خط العرض 50 شمالًا، ما يجعل منه تهديدًا صحيًا مستمرًا في تلك المناطق، لا سيما خلال مواسم نشاط القراد.