موقع النيلين:
2025-06-17@21:56:42 GMT

عزمي عبد الرازق: بصرف النظر عن كل الكلام

تاريخ النشر: 19th, June 2024 GMT

رحم الله شوقي حين أيقظه الشوق، أنات الفقد، مما استوحش فيه، فبلغ يجاري كل ذلك الدمع، “كل المنــاهل بعد النِّيــلِ آسِـنَةٌ ما أَبعـدَ النِّيــلَ إلاّ عن أَمانِينَـــا” وأنا مثله، أعرف تلك المُكابدة، لكنني، هنا، أو في ذلك الجسر المعلق، قُبالة توتي، الجزيرة الأُخرى، حين لم أدرك قيمة المكان ولا العمامة التي ابتلعت رأسي، أي كانت توحي، لبلاد الخرتيت، أو لدولة ٥٦، فكل ما يهمني ويهمكم، أنني فقدت كثير من الأشياء العزيزة، كل ما أملكه حرفياً، أو آلفته، شارع الجرائد، البيتش، إذاعة القرآن، مسجد السيدة سنهوري، الحديقة النباتية، الباخرة كهرمان، وأشيائي الصغيرة، كُتبي، مفتاح الشقة، الشقة كلها، الجاكيت الأزرق، اللابتوب، ألبوم الصور، نصف دزينة من الأحذية، صورة قلب وسهم نحيل، والسيارة أخيرًا، تم شفشفتها قبل العيد بيوم، بعد تشليعها بحقد، لسبب غامض، لا يتعلق بقيمتها على الأرجح، ولذا حين سمعت بالخبر، قلت كما قال دوستويفسكي “لقد سرقوا مني كل شيء تقريباً، ثم أعطيتهم الباقي من تلقاء نفسي!”، أصبحت أقرأ له كثيراً، دوستويفسكي، الحبر الأعظم للرواية الروسية، وقد تجلى في الليالي البيضاء، الجريمة والعقاب، في قبوي، الإخوة كارامازوف، الرسائل كلها، الى ماريا دوستوفسكايا، لكنه صعقني مرة آخرى، كاتبي المفضل، ولم أظنه سيكتبني “انتهى الزمن الذي كان فيه أهلنا يخافون علينا في الغربة، وأصبحنا نحن في غربتنا نخاف عليهم في الوطن”، هل قال ذلك؟ نعم.

من يقصد؟ نحن بالطبع، الجميع، دياسبورا الملاجئ الجديدة، أليس ذلك البيت يخصنا؟ وتلك الحديقة، موتور المياه، الثلاجة، متجر الورثة، المزاريب، ألواح الطاقة الشمسية، مخزن الكراكيب القديمة، زكائب المرح المحشوة بالهواء، الصحاب، الجارة الجميلة، والجَارِ ذي القُربى والجارِ الجُنُب.

بصرف النظر عن كل الكلام، كنت أسأل دائماً ولا أجد الإجابة، مع يقيني المطلق، أنه لا يوجد أكثر تضرراً من الناس الذين لا تصطحبهم المفاوضات، أي مفاوضات، في جولاتها، وهو القلق الحاضر، هل سوف يسدد حميدتي فاتورة ما نهبته قواته، أو دمرته، في سبيل تحقيق مآربها، رغبته القاتلة، أو من استأجره، أو بالأحرى، كيف ستعوضنا، تشاد، الإمارات بما ألحقت بنا من أذى، أم ستكتفي بطرود التمر والشاش وخيم الإيواء؟ وهى إجابة تقريبًا، لفرط التشاؤم، أو من خذلان ما رأينا أعرفها، مثل ما أعرف وقع خطوات أمي في الظلام، لا شك أنني أفتقدها، هذه الأيام، ولم أتخيل بعد هذا العمر، أنني لا زلت، رغم البعد، عالق في حِجرها، وكذلك أفتقد الجزيرة وكناراتها، وتلك القرى التي استباحها الجنجويد، وضبوا إليها ضبوء السّبع للطريدة، قال لهم أميرهم، رهين المحابس الخليجية، إن مجزرة ود النورة كانت معركة عسكرية ضد الفلول، يا عيب الشؤم على خطاب العيد!

لهفي عليك يا أم الفقراء، ولدك البطل في القيادة، ينافح عن شرفه العسكري، عن بلاده لتبقى عزيزة، والآخر اصطحب الأخوات، وفر إلى مصر، عبر المفازات، بكاسي اللبن، من مهانة إلى مهانة، زحف طويلاً، حتى وقع في قبضة الصحراء العنيدة، عند التخزينة، بالقرب من الكسارات، ماتت شقيقته بضربة شمس، ولحقتها الآخرى، عطشى، دفنهم هنالك، ودفن معهم قلبه، أخرسه الدمع، لم يعرف هل يواصل أم يعود، لهفي عليك يا أمه، تبقى لك الصبر، لعل الله يوفيك أجرك بغير حساب.

وأيضاً في تلك القرية التي نحبها، كانت لحظة لا يمكنك أن تتخيلها، سيناريوهات الدم، مقتل أمير ود العمدة، أمام والدته المريضة التي يرعاها، وهو الذي لا يعرف، ولا يهتم بالسياسة، أو بالحكم، لا يتذكر حتى اسم آخر معتمد للكاملين، فجأة أصبح أبلده أم قاش، فلولي مُندس، وهو في الحقيقة كل ما يهمه، أو يستغرق تفكيره، الخريف، السعر التركيزي لقنطار القطن، بابور الحراتة، سوق المحاصيل في المعيلق، وإن أبعد النُّجْعَة، ربما يسأل عن أخبار شبكة بنكك، لأن ثمة حوالة عالقة، فيا رب أن أمير ود العمدة، خالي، ومئات الشهداء، في رحابك، وأنت الرحيم، يا من لن يُضطهد من آوى إلى ظلّ كفايتك، يا خالق الوحش والسوسنة، يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف.

عزمي عبد الرازق

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

الدرس الخفي للتضخم: إعادة النظر في القيمة في اقتصاد متحول

 

 

د. عبدالعزيز بن محمد الصوافي **

 

بينما يُصارع العالم تداعيات التضخم، من ارتفاع فواتير البقالة والكهرباء والماء إلى ارتفاع تكاليف إيجار السكن، يبرز سؤال جوهري واحد فوق كل اعتبار: ما الذي تعلمناه من كل ذلك؟

التضخم ليس مجرد مفهوم مالي عابر أو خبر مقتضب في نشرة الأخبار المسائية. إنه قوة لا يمكن تجاهلها تمس كل جانب من جوانب حياتنا اليومية؛ يتأثر به الكبير والصغير والغني والفقر والعامل والباحث عن عمل والرجل والمرأة والمواطن والمقيم. إنه قوة تُعيد تشكيل طريقة تفكير الناس وتصرفهم وإنفاقهم في صمت وبشكل تدريجي وإجباري في كثير من الأحيان. وبينما يُناقش الاقتصاديون وخبراء السوق الأسباب الكامنة وراء التضخم وارتفاع الأسعار- مثل: اضطرابات سلاسل التوريد، والتوترات الجيوسياسية، والتعافي بعد الجائحة- يُترك الناس العاديون ليواجهوا عواقب التضخم ودفع ثمنها. ومع ذلك، يكمن في هذه المحنة درس قيّم، غالبًا ما يُغفل عنه ألا وهو: ضرورة إعادة النظر في فهمنا للقيمة.

لعقود من الزمن، ربط الكثير منا القيمة بالسعر. إذا كان الشيء غالي الثمن، فلا بد أنه ذو جودة يستحق ثمنه؛ فالسيارة التي تبلغ قيمتها 50 ألف ريال تعني الجودة والفخامة، والهاتف النقال الذي يبلغ ثمنه 700 ريال يعني امتلاكه المكانة الاجتماعية والبرستيج، وامتلاك فيلا في وسط المدينة تعني النجاح والرقي. لكن مع ارتفاع الأسعار، تبدأ هذه المعادلة بالانهيار. لقد أزال التضخم وهم ربط التكلفة العالية بالقيمة والجودة العالية. حيث أصبح المتسوق العادي يٌفكر مرتين، ويتردد ويقارن قبل القيام بأي عملية شراء.

هذا التحول لا يقتصر على التوفير فحسب، بل يتعلق بالوعي. بدأ الناس يطرحون أسئلة أكثر عمقاً: هل أحتاج لشراء هذا حقًا؟ هل يستحق هذا الثمن؟ ما هي فوائده على المدى الطويل؟ هذه ليست أسئلة مالية فحسب، بل أسئلة فلسفية أيضًا. لقد أحدث التضخم، بطريقة غير مقصودة، ثورة هادئة في كيفية قياس الرضا والنجاح.

إن ازدهار الأسواق والمنتجات المحلية ما هو إلا نتاج لهذا الوعي في تفكير وسلوك الناس؛ وذلك بسبب ابتعاد الناس عن شراء السلع والماركات المستوردة الباهظة الثمن ويتجهون نحو المنتجات المنتجة محليًا، ليس فقط لأنها أرخص، ولكن لأنها أكثر استدامة، وتدعم الشركات الصغيرة الوطنية، وتعيد ربط المستهلكين بمجتمعهم. بمعنى آخر، لم تعد القيمة مالية فحسب، بل اجتماعية وبيئية ووطنية.

وينطبق الأمر نفسه على كيفية استغلالنا لوقتنا. مع ارتفاع الأسعار وتضييق الميزانيات، يُعيد الكثيرون النظر في كيفية قضاء ساعات عملهم. يختار البعض قضاء وقت أطول مع عائلاتهم بدل الجلوس في المقاهي التي تستنزف ميزانياتهم. ويتعلم آخرون الطبخ في المنزل بدلاً من تناول الطعام في الخارج، حيث وجدوا متعة أكبر في روتين أبسط وأقل تكلفة. تُعدّ إعادة ترتيب الأولويات أحد أهم الهبات وفوائد التضخم الصامتة: فهي تُجبرنا على إعادة اكتشاف معنىً يتجاوز المال.

ولكن لعلّ أهم درس هو أن الهشاشة الاقتصادية ليست مُوزّعة بالتساوي؛ فبينما يُثقل التضخم كاهل الجميع، فإنه يُثقل كاهل الأفقر. فقد ارتفعت أسعار السلع الأساسية، كالغذاء والوقود والإيجار، بشكل غير متناسب مع الدخل، وضاقت فرص القدرة على توفير سبل الحياة الدنيا بالنسبة للعديد من العائلات. لذا ينبغي أن يحثّنا هذا الواقع ليس فقط على التكيف شخصيًا، بل على الدعوة جماعيًا - من أجل أجور أكثر عدالة، وشبكات أمان وحماية اجتماعية أقوى، وسياسات تُعطي الأولوية لرفاهية الأغلبية، لا لاستقرار الأسواق فحسب.

يجب على الحكومات والمؤسسات أيضًا أن تُدرك ذلك؛ فالتضخم ليس مجرد إشارة اقتصادية عابرة؛ بل هو اختبار ضغط مجتمعي. يكشف التضخم عن نقاط ضعف في الأنظمة والسياسات العامة، ويكشف عن عدم المساواة، ويطالب بالمساءلة. إذا استجاب القادة بتعاطف وبصيرة، فقد تصبح هذه اللحظة نقطة تحول. ولكن إذا ركزوا فقط على الحلول التقنية والاقتصادية من خلال رفع أسعار الفائدة، وتعديل السياسات المالية؛ إذ إنهم يخاطرون بإغفال الرسالة الأعمق التي يُرسلها التضخم.

في النهاية، قد ينحسِر التضخم، كما يحدث في جميع الدورات الاقتصادية في نهاية المطاف. ستستقر الأسعار، وستتغير العناوين الرئيسية، وستتحرك الأسواق وتنشط. ولكن لا ينبغي نسيان الدروس التي يتركها وراءه. لقد تعلمنا أن القيمة الحقيقية لا تقاس دائمًا بالسعر. لقد رأينا أن المرونة لا تُبنى على الاستهلاك، بل على التواصل ووضوح الهدف. وتذكرنا أنه عندما يتغير الاقتصاد، يجب علينا أن نتغير أيضًا ونتكيف، ليس بدافع الذعر والخوف، ولكن من منظور مستقبلي.

وفي الختام.. علينا أن نتذكر أنه في عصر التضخم والغلاء وتذبذب الأسواق، قد لا تكون أعظم عملة هي المال على الإطلاق؛ بل الحكمة والقدرة على التكيف وترتيب الأولويات.

** باحث أكاديمي

مقالات مشابهة

  • غادة عبد الرازق راقصة وحاتم صلاح طبيب نفسي.. لقطات من الإعلان التشويقي لفيلم أحمد وأحمد
  • محافظ المنيا يُكرم مديرة مستشفى الرمد ويُوجه بصرف حافز إثابة لجميع العاملين تقديرًا لتميزهم الطبي
  • الجراد يهدد المحاصيل غرب وجنوب ليبيا.. وتحذيرات من تفاقم الكارثة
  • أحمد ربيع: طموحاتنا في البنك الأهلي بلا حدود.. وأمير عزمي مجاهد صاحب فضل كبير عليا
  • الدرس الخفي للتضخم: إعادة النظر في القيمة في اقتصاد متحول
  • المالية النيابية: حكومة السوداني خالفت القانون وتأخرت بصرف مستحقات الموظفين
  • محافظ الجيزة يوجّه بصرف تعويضات عاجلة لضحايا حادث مصنع الطوب
  • إياك ومقالات بيع الكلام!
  • الاتحاد يؤجل النظر في عروض مروان الصحفي
  • فرنسا: الكلام عن إنهاء عمل اليونيفيل مش وقتو