الأمكنة ياأحباب كالأزمنة لها عذابات وأوجاع، وفي ذلك قال المتنبي:
لك يامنازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
سنار المدينة…
كانت ولم تزل في خاطري صبية شقية، تنبري بعنفوان عمرها للمطر، تفرد ذراعيها لتراقص النسيم، يبتل ثوبها بحبات المطر فيشي بمواطن جمال تحسبه الفراشات ورودا فتأتيها سراعا بحثا عن رحيق…
الشمس تشرق من هناك، والقمر يعقبها ليصل ليلها بنهارها…
في سنار اختلج الفؤاد لأول مرة، وما أحلى دقات القلب الأولى يا أحباب…
وتبقى ذكريات الشخوص والمواقف والمشاهد مرتهنة بصور المدينة على اتساعها…
باحات الثانوي العالي التي تمددت في الوجدان بروشا من حنين…
سور نادي السكة الحديد الذي كان ولم يزل أخضرا وباسما بأزهاره التي تذهب عن النفس الضجر…
عنابر مستشفى سنار التي تفوح منها رائحة البنسلين… أبراج محالج القطن التي تحط عليها طيور البقر البيضاء بصوتها الأجش، ذكرني صوت احداها بحسناء (باتعة) ذات صوت أجش، وما أدراك ما في ذلك التضاد من ادهاش!
خزان مكوار الذي يلف ذراع النيل كسوار جميل…
قبة الشيخ فرح ود تكتوك وهي تناديك من بعيد…
والدُنا في سنار دوما مطيرة…
مطر يعقبه مطر، قالت لي دواخلي يوما:
الذكريات التي يشوبها المطر تبقى حية على الدوام،
وكم من ليال تحلق بي في ثناياها صور لشخوص كما الأقمار، تنسرب إليها أشواقي ومشاعري لتدعني حرضا على فراشي، وتنبري هي عروسا للبحر بكامل زينتها، تمسك بكفيها مجدافين من بلور…
وهناك عند التقاء خط انتهاء أفق الأرض بسقف السماء تتمدد خضرة الماضي الجميل صفوفا من أشجار تحف النهر على جانبي خزان مكوار، تصطف رموشا تحرس مقلة سليل الفراديس، وثم سرابات من ورود تكسو الأرض على مد البصر لتحكي عن كرنفالات من الألوان، وفوح لعطور مشبعة بها السوح والفضاءات، وفي قبة السماء ينبري قوس قزح تأتلق ألوانه أئتلاقا، والنسيم يحتشد برطوبة تنسرب إلى الصدور ليتمشى في مفاصلي النُعّسِ، والكونُ كأنه قد غفى غفوة المساء، ولاصوتَ الاّ من (لَشْغِ) الموج نتاج ملامسة المجدافان لسطح المياه، ياااالجمال المشهد يا أحباب، ويالعذابات المكان وأوجاعه…
وإذا بصوت الراحل أبواللمين من البعيد ينساب من السماء:
بتتعلم من الايام مصيرك بكرة تتعلم…
والقلب يا أحباب إن كتب له الولوج إلى عوالم حب -لا ترجح له كفة أخرى- يضيييييع…
وتترى الأسئلة حيرى تقض المضجع وتدمي الفؤاد…
متين عرف الهوى قلبك؟!
متين صابك بآهاتو؟!
متين سهر عيونك ليل طوييييييلة ساعاتو؟!
واذا بعواء القطار وصرير كوابحه يجيشان في صدري مشاعر عجيبة، وعندما يهمُّ بالتوقف قبالة بيتهم يذكي في دواخلي الكثيف من المشاعر والتحفز، فتدق في دواخلي الطبول بكل ايقاعات الدنيا، بيتهم يطل على خط السكة الحديد، ووالدها يعمل في ذات القطار…
يالجمال ابتسامتها وهي تطل بوجهها الصبوح ترقب نزول الوالد من أحدى عرباته،
وياللفراش الذي يتخلّق من جبينها لينطلق صوب عيون القاش يتعبد الله…
وتحين منها التفاتة تجاهي فتصلني سهام نظراتها، ويقتحمني الصوت من البعيييد متحدثا بلسان حالي:
اقابلك وكلي حنية
واخاف من نظرتك ليا
واخاف شوق العمر كلو
يفاجأك يوم في عينيا.
وتنصرم سنوات العمر كحال حبات مسبحة في يد شيخ وقور لأعود إلى سنار وأقف بجوار الخزان ذات مواقف سبقت، وسنار كلها موقف…
السوح مافتئت يبللها المطر، والفضاءات تعبق بروائح الليمون المتناثر شرق الضفة، تخالطه روائح الموز المنداحة من الضفة الأخرى حيث يرقد الشيخ فرح ود تكتوك…
هنا كان مجلسنا…
انها لعمري ذات الصخرة تطل على الأمواه هياما بهذا النهر الذي نحبه ويحبنا، ولم تزل عصافير الخريف وطير الجنة تشقشق محتفية بزيفة المطر…
أمواهٌ تكتنف مد الرؤية سوحا وفضاءات، وشلالات تنهال من بوابات السد تعلوها سُحُبٌ تنثال منها حبات المطر لتغازل وجوه الناس والأزاهر…
وينداح النسيم وينسرب بلطف فترتوي الأعماق…
لعله ذات النسيم الذي خاطبه ذاك وقال:
أرجوك يانسيم روح ليهو
بي اشواقي صرح ليهو
وأذكر صبوتي وسهاد…
والنسيم دوما مطواع مطواع…
وبين يدي اتشاح الشمس بقرمصيص أشعة الغروب ململمة اطرافها شروعا في الرحيل أتذكر سبتنا ذاك…
لقد كان السبت الذي يسبق شروعنا في امتحانات الشهادة الثانوية بأيام…
كأني بها قمر منير، بل كوكب درّي، أو لعلها شمس إبراهيم التي خالها ربّا…
تتسامى الروح مني وتتغشاني مشاعر جميلة، وإذا بصورة وجهها الملائكي يرتسم على صفحات كتب الكيمياء، والفيزياء، والأحياء…
وإذا بكل الرموز ليلى، وكل المعادلات ليلى، واذا بكل الرسوم ليلى…
جلست انظر إلى قبة الشيخ فرح ود تكتوك وليلاي تبتعد في ركب الشمس التي شرعت في الغروب…
قبة فرح ودتكتوك ليست ككل القباب، وقد جُبلتُ على شنآن القباب طرا، بل احسبني من أكثر الغامطين لمآلات الإعتقاد الذي يلج من كوّته الشيطانُ إلى قلوب ووجدان أهلنا الطيبين بسبب تلك القباب، لكن يقيني راسخٌ بأن الراقد تحت هذه القبة أمرؤ مات وانقطع عمله الاّ من ثلاث…
وما أدراك مافرح ود تكتوك!…
لقد عاش الرجل في سنار مئة سنين وازداد عشرا، فبقيت سنار في وجداني طفلة بِمَدِّ عمر هذا الشيخ الجليل، ولم أفتأ أستروح عبق ماضي المدينة التليد كلما ذُكر اسمه، وكم استهوتني كتابات عديدة كتبت عن مآثره وأقواله فكانت مدخلا و مثارا لنقاشات وأحاديث لرفاق فكر ومنهج يضوع مسكا وتصالحا مع النفس…
والأمكنة يااحباب تزداد جمالا كلما ذخرت بما يتصل بماضِ لها تليد…
لنلق نظرة الى من حولنا من الشعوب،
أليس الأحباش أكثرهم جمالا من حيث الطبع والتراث والأنسنة؟!
حتى اللغة عندهم أجدها أوقع موسقة في الأذن عن سواها من لغات الشعوب من حولنا، وما ذاك إلا لكونهم شعب له تاريخ تليد وحضارة ضاربة في القدم، وكان مسك ختامها الاسلام ومن قبلها المسيحية، ولاغرو إن توالي السنون يعجم من عود الشعوب فينضجها لتخطو السعوب على درب النضج الجمال فراسخ وأشواطا…
سنار المدينة تستمد من قبة الشيخ ودتكتوك أصالة وتجذرا، تتبين ذلك منذ أول ولوج لك اليها…
حتى المطر في سنار له رائحة دون سواه في بقية مدننا، تحس بالارتواء وانت تتنسم زيفة المطر في سنار، أنسامها تكتنفها أخلاط من رائحة الطين الممزوج بعبق الليمون والموز والمانجو وكثير من شجر الحراز، وكل ذلك يحيط بالمدينة في ضهاريها التي ترفد المدينة بلواري الفحم كل يوم…
يالهذه الذكريات التي مافتئت تسكنني وتهبش فيّ مواطن العذابات والأوجاع!!
ذكريات قد تذكيها نفحة عطر، أو صورة وجه جميل، أو نبرة صوت حنين…
وتظل سنار المدينة بشخوصها في الخاطر والوجدان مدينة من نور.إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: سنار المدینة فی سنار
إقرأ أيضاً:
حلم الثري اليهودي فريدمان الذي يسعى سموتريتش لتحقيقه
في 19 مارس/ آذار 2024، ألقى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش خطابًا في العاصمة الفرنسية باريس، ظهر فيه على منصة دعائية خُصصت لفعالية تحمل خريطة مثيرة للجدل، تضم فلسطين، والأردن تحت مسمى واحد: "إسرائيل".
الخريطة التي كانت تحمل شعار إحدى المنظمات الصهيونية، تعكس تصورًا أيديولوجيًا توسعيًا يقوم على أن "إسرائيل الكبرى" تمتد لتشمل كامل الأراضي بين البحر والنهر، بل وتمتد أيضًا لتشمل الضفة الشرقية لنهر الأردن.
وجاء هذا المشهد متقاطعًا مع خطاب آخر للرئيس الأميركي دونالد ترامب في 15 أغسطس/ آب 2024، أعرب فيه عن دهشته من ضآلة مساحة "إسرائيل"، مقارنة باتساع المنطقة المحيطة، متسائلًا: "هل من طريقة يمكن أن تحصل بها إسرائيل على مزيد من الأراضي؟".
هذه التساؤلات وإن جاءت مغلّفة بلغة سياسية معاصرة، إلا أنها تعكس امتدادًا لخطاب استيطاني إحلالي قديم، لطالما استهدف شرق الأردن كجزء من الطموحات التوسعية الصهيونية.
البدايات الاستعمارية للفكرة: من لينش إلى أوليفانتمنذ منتصف القرن التاسع عشر، استهدفت المشاريع الاستعمارية الغربية -وفي مقدمتها المشروع الصهيوني- الأراضي الأردنية باعتبارها امتدادًا طبيعيًا لفلسطين التوراتية.
فقد أرسلت الحكومة الأميركية عام 1848 بعثة بحرية بقيادة الضابط وليم فرانسيس لينش إلى نهر الأردن والبحر الميت، في أول مهمة رسمية ذات أهداف تتجاوز الجانب العلمي، وصولًا إلى البحث في إمكانية إنشاء وطن قومي لليهود في شرق الأردن، بما يشمل "ترحيل السكان المحليين إلى محميات بشرية"، على حد تعبير الوثائق المعاصرة.
إعلانلينش، في تقاريره، لم يُخفِ انحيازه الأيديولوجي. فقد شبّه السكان المحليين بـ"الهنود الحمر" في أميركا، وعقد مقارنة مثيرة بينهم وبين السكان الأصليين في أميركا "الهنود الحمر"، الذين رأى أنهم كانوا متوحشين وتحولوا إلى متمدّنين بفضل الاستيطان الأوروبي.
وبهذا المنطق الاستعماري، استنتج لينش أن سكان شرق الأردن "عكسوا" تلك المسيرة، وأن استبدالهم ضروري لتحقيق التقدم. في تقريره، تنبأ لينش بأن "تفكك الإمبراطورية العثمانية"، سيُمهد لعودة اليهود إلى فلسطين، وصرح عقب رفع العلم الأميركي في المنطقة بأن ذلك "قد يبشّر بإحياء الشعب اليهودي".
لم تكن أفكار لينش استثناءً. في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، ظهرت دعوات مماثلة. فقد دعا يهوشع يلين، أحد مؤسسي مستوطنة "نحلات شيفع" في القدس، إلى توسيع الاستيطان نحو شرق الأردن.
وفي عام 1871، أسس شركة بالتعاون مع رجال أعمال يهود، وادعى أنهم توصلوا إلى اتفاق مع بعض شيوخ عشيرة "عرب النمر" لفلاحة أراضي غور النِّمرين شمال شرقي البحر الميت.
وفي السياق نفسه، قدّم الضابط البريطاني في سلاح الهندسة السير تشارلز وارن، وهو أحد الباحثين المرتبطين بـ"صندوق استكشاف فلسطين"، مقترحًا صريحًا لتوسيع الاستيطان اليهودي شرقي نهر الأردن.
دعا وارن إلى تأسيس شركة استيطان تستأجر الأراضي من الدولة العثمانية مقابل سداد جزء من ديونها الخارجية، وذلك ضمن إطار رؤية استعمارية تجمع بين الطموح الصهيوني، والمصالح الإمبريالية البريطانية.
ومن أبرز الشخصيات الأوروبية التي قدمت دعمًا نظريًا وميدانيًا للمشروع الاستيطاني الصهيوني في شرق الأردن كان لورانس أوليفانت. ففي عام 1889، نشر الطبعة الأولى من كتابه النادر: "أرض جلعاد"، والذي دوّن فيه مشاهداته وآراءه عقب رحلته إلى لبنان، وسوريا، وفلسطين، وشرق الأردن في عام 1880.
إعلانرأى أوليفانت في أراضي شرق الأردن "مساحات خصبة صالحة لأقصى درجات التطوير الزراعي"، مؤكدًا أن توفر الموارد الطبيعية والظروف المناخية، يجعل من هذه المنطقة هدفًا استثماريًا جذابًا للمهاجرين اليهود.
في تحليله للسكان المحليين، أشار أوليفانت إلى أن العشائر الأردنية المتجولة "لا تملك سندًا قانونيًا للأرض"، مما يجردهم -من وجهة نظره- من أي شرعية في الوجود.
بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين وصفهم بأنهم نشروا "الخراب والفوضى"، وأن تهجيرهم إلى الصحراء التي جاؤُوا منها هو "الحل المنطقي"، على حد تعبيره.
أما المنطقة التي اقترحها للاستيطان اليهودي، فشملت كامل إقليم البلقاء من وادي الموجب جنوبًا إلى نهر الزرقاء شمالًا، وتمتد شرقًا إلى درب الحاج، وحتى أجزاء من عجلون شمال نهر يبوق (الزرقاء)، بمساحة تقارب مليونًا ونصف المليون هكتار، بحدود غربية تصل إلى نهر الأردن وساحل البحر الميت.
مشروع أرض مدينلم تكن المحاولات الصهيونية للتمدد شرق نهر الأردن حكرًا على لورانس أوليفانت، بل مثّلت جزءًا من توجّه استعماريّ أوسع تجاوز الشخصيات الفردية وتحول إلى مشاريع متكاملة تقودها شخصيات، وجمعيات، ومؤسسات.
في مطلع تسعينيات القرن التاسع عشر، حاول الثري اليهودي الألماني الأصل، بول فريدمان، تنفيذ مشروع استيطاني استعماري مشابه، ولكن هذه المرّة في منطقة مدين جنوب شرق الأردن، بدلًا من "جلعاد" التي كان أوليفانت يركز عليها.
نشر فريدمان في عام 1891 كُتيبًا من 18 صفحة بعنوان: "أرض مدين" في برلين، عارضًا فيه تصورات جغرافية واقتصادية وسكانية عن المنطقة، مدعومة بإحصاءات تفيد بأن عدد سكانها الأصليين حينها بلغ نحو 23 ألف نسمة.
وقد وُجّه هذا الكتيب إلى شخصيات يهودية نافذة في بريطانيا، والنمسا، وألمانيا بهدف كسب الدعم السياسي والمالي للمشروع. حاول فريدمان إقناع المهاجرين اليهود بأن السكان المحليين سيرحبون بهم، زاعمًا أن سكان العقبة ينحدرون من عشيرة يهودية تُدعى "بني سبت" احتفظت ببعض التقاليد الدينية اليهودية، واستنتج أن مدين كانت في الماضي جزءًا من الكيان اليهودي القديم.
إعلانقام فريدمان بتجنيد خمسين متطوعًا من علماء ومهندسين وجغرافيين، إضافة إلى ثلاثين عائلة يهودية مهاجرة. تلقى هؤلاء تدريبات عسكرية في معسكرات خاصة بهنغاريا، والنمسا، بإشراف ضابط ألماني يُدعى لوثر فون سيباخ، بمشاركة ضباط يهود من النمسا.
وخصص فريدمان يختًا تجاريًا أطلق عليه اسم "إسرائيل"، حمّله بالمتطوعين، وكميات كبيرة من الذخائر والأسلحة وفّرها له الجيش النمساوي، ثم أبحر من ميناء ساوثهامبتون البريطاني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1891، تحت العلم النمساوي. انضمّ إلى الحملة خلال توقفها في الإسكندرية عدد من اليهود المصريين الناطقين بالعربية، وتوجهت السفينة إلى منطقة "الطور" قرب مدين، حيث نُصبت الخيام وأُنشئ معسكر في وادٍ قريب.
نجح فريدمان في شراء قطعة أرض قرب قلعة المويلح، وشرع بمحاولات إضافية لشراء مزيد من الأراضي في المنطقة. ومع أن المشروع انهار في نهاية المطاف، بعد أن كلّفه ما يعادل 170 ألف مارك ألماني، إلا أن فريدمان أصر على "إنقاذ الشرف اليهودي"، وفقًا لتعبيره، ورفع دعوى ضد الحكومة المصرية مطالبًا بتعويض قدره 25 ألف جنيه إسترليني، كما حاول إعادة تمويل المشروع لاحقًا.
مشاريع استيطانيةفي ذات العام (1891)، أعلن إلياهو شيد، المسؤول عن مستوطنات البارون روتشيلد، نية البارون شراء أراضٍ شرقَ الأردن لتوطين ألف مستوطن، يليهم لاحقًا آلاف آخرون. أُثيرت تساؤلات حول البنية التحتية، فأكد شيد أن خططًا قائمة لتعبيد الطرق، بل وتُدرس مشاريع مثل مدّ خط سكة حديد أو قناة مائية تربط البحر الأبيض المتوسط ببحيرة طبريا.
وفي السياق ذاته، قام الحاخام شموئيل موهيلبر، أحد مؤسسي حركة "أحباء صهيون" في روسيا، بجولة ميدانية شرق الأردن، وأعد تقريرًا خلص فيه إلى أن الاستيطان هناك أفضل من الجليل، من حيث جودة الأرض وتكلفة شرائها، شرط وجود "مائة عائلة قادرة على مواجهة أخطار البدو".
إعلانومن روسيا أيضًا، كتب يهوشع سيركن، أحد زعماء الجماعات اليهودية في مينسك، تقريرًا يؤكد فيه خصوبة الأراضي ورخصها شرق الأردن، معتبرًا أن مخاوف الاعتداءات البدوية لا أساس لها من الصحة، وداعيًا إلى توطين عشرات الآلاف من الصهاينة فيها.
وقد أبدت جماعة يهودية من مدينة فيلنه السوفياتية اهتمامًا مباشرًا بالاستيطان، إذ قررت إرسال ممثل لدراسة شروط الإقامة في شرق الأردن. وفي مايو/ أيار 1891، قدمت عشرون عائلة يهودية ميسورة من باكو طلبًا إلى أ. زافشتاين، تستفسر فيه عن إمكانية شراء أراضٍ للاستيطان في المنطقة.
تكررت هذه المحاولات لاحقًا. ففي عام 1893، حاول هنري دي أفيغدور شراء أراضٍ في منطقة حوران لتأسيس قاعدة استيطانية، إلا أن المشروع فشل نتيجة رفض الدولة العثمانية، وغياب الدعم اليهودي الكافي.
وفي العام نفسه، قدم أفيغدور، بالتعاون مع صموئيل مونتاغو وباسم جمعية "أحباء صهيون"، التماسًا إلى السلطان عبدالحميد الثاني للسماح بالاستيطان شرق الأردن، بعد أن فُرضت قيود على شراء الأراضي داخل فلسطين.
كما طرح الدكتور بوهلندورف خطة لجمع عدد كبير من اليهود في شرق الأردن، وتنظيم عمليات مقاومة مسلحة ضد السكان البدو، بهدف تهجيرهم وتأسيس قاعدة لما وصفه بـ"الدولة اليهودية".
في خضم هذه التحركات، برزت قضية الأراضي السلطانية (الجفالك) التي نُقلت ملكيتها من السلطان عبدالحميد إلى الخزينة العامة عقب عزله عام 1909. وقد طلب نجيب إبراهيم الأصفر – إحدى الشخصيات اللبنانية النافذة- امتيازًا لاستئجار هذه الأراضي مقابل قرض بمائة مليون فرنك، شريطة استصلاحها وبيعها لاحقًا للزراع. لاحقًا، تبيّن أن شركة بلجيكية ذات صبغة صهيونية كانت المستأجر الفعلي، في محاولة للالتفاف على التشريعات العثمانية.
كشفت صحف سورية وفلسطينية، على رأسها جريدة الكرمل، هذه الصفقة، محذّرة من خطورة المشروع على الوجود العربي في جنوب سوريا، وفلسطين، وشرق الأردن، ومسلّطة الضوء على دور جمعية "فلسطين اليهودية" خلف الكواليس.
إعلان خطة روتنبرغ (1936): الترحيل الممنهجفي عام 1936، قدّم بنحاس روتنبرغ، أحد أبرز رموز المشروع الصهيوني الاقتصادي، خطة استيطانية طموحة تستهدف جانبي وادي نهر الزرقاء في شرق الأردن. قامت الخطة على تقسيم استيطاني دقيق، حيث تُخصّص الضفة الجنوبية للفلاحين العرب، فيما تُخصّص الضفة الشمالية للمستوطنين اليهود.
جاء هذا المشروع ضمن سياق أوسع يسعى لخلق تواصل جغرافي بين المستوطنات اليهودية في غور بيسان والباقورة، من جهة، والمناطق المستهدفة شرقي نهر الأردن، من جهة أخرى، بما يعزز السيطرة الصهيونية على مفاصل زراعية ومائية حيوية.
واقترحت الخطة إنشاء شركة خاصة برأس مال يصل إلى مليوني جنيه فلسطيني، يُخصص نصف هذا المبلغ لتمويل عملية إعادة توطين الفلاحين الفلسطينيين المُرحّلين من أراضيهم داخل فلسطين إلى أراضٍ جديدة في شرق الأردن، بينما يُخصص النصف الآخر لتوطين المستوطنين الصهاينة في المنطقة نفسها.
تُظهر خطة روتنبرغ هذا المزج الدقيق بين الطابع الاستيطاني الإحلالي والآليات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى لإضفاء مشروعية إدارية واستثمارية على مشروع جغرافي- سياسي قائم على الترحيل الطوعي للعرب والتوطين المنظم لليهود.
كما تعكس الخطة انخراطًا صهيونيًا متقدمًا في معادلة شرق الأردن، في وقت كان يُفترض فيه أن هذا الإقليم خارج حدود "وعد بلفور" المعلن رسميًا عام 1922.
أخيرًا، رغم فشل تلك المخططات المتعددة والمتتالية، فإن الأطماع الصهيونية في شرق الأردن لم تنتهِ، بل ظلت كامنة وتظهر كلما توفرت الفرصة، كما في التصريحات العلنية الأخيرة لرموز سياسية إسرائيلية، والتي تؤكد أن الأردن، بموقعه وحدوده، لا يزال في "عين العاصفة" ضمن التصور التوسعي للمشروع الصهيوني.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline