تأثير الموسيقى على الدماغ.. لماذا تشعرنا بالسعادة؟
تاريخ النشر: 6th, July 2024 GMT
كشفت دراسات حديثة عن دور الدماغ في ربط الموسيقى بالحركة، وكيف تُحفز مشاعر الاستمتاع بالإيقاع (Groove) من خلال توقعاتنا ونظامنا الحركي، وفقا لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركية.
وتشير الدراسات إلى أن أدمغتنا تحب التنبؤ بما سيحدث، وعندما تُقدم لنا الموسيقى إيقاعا منتظما مع بعض المفاجآت المتوقعة، تحفز شعورا ممتعا بالـ”الإيقاع”.
وذكر باحثون أنه حتى الأطفال الرضع الذين يبلغون من العمر 3 أشهر يتحركون تلقائيا على أنغام الموسيقى عندما يستمعون إلى أغنية ” Everybody ” لفريق “Backstreet Boys”.
ويعد هذا الشعور مُرتبطا بنشاط الدماغ في مناطق المكافأة والتحفيز، حيث تحفز الموسيقى إفراز الدوبامين، وهو ناقل عصبي يُعزز مشاعر السعادة والرضا، وفقا لنتائج دراسة تصوير الأعصاب التي أجريت عام 2020.
وفي دراسة أجريت عام 2018، أفاد الطبيب في مستشفى الصليب الأحمر الياباني، تاكاهايد إيتاني، وزملائه بأن الإيقاع الأمثل يتراوح بين 107 إلى 126 نبضة في الدقيقة.
وقال إيتاني: “هذه الإيقاع يشبه ما يميل منسقو الأغاني إلى تشغيله في الأحداث الموسيقية ويشبه سرعة المشي المفضلة لدينا والتي تبلغ حوالي خطوتين في الثانية”.
وحسب إيتاني: “يُمكن للموسيقى أن تساعدنا على التنبؤ بالعالم من حولنا، وعندما تكون توقعاتنا صحيحة، نشعر بالرضا والمتعة”.
وتشير الأبحاث النفسية والعصبية إلى أن ظاهرة الإيقاع تكشف عن شيء أساسي حول كيفية عمل أدمغتنا، وفق الصحيفة، إذ نستمتع بمحاولة التنبؤ بكيفية سير الموسيقى، ونتحرك لمساعدتنا في إجراء هذا التنبؤ.
وقالت الأستاذة المساعدة للموسيقى في جامعة برمنغهام البريطانية، ماريا ويتيك، إنه عندما لا يكون الإيقاع الموسيقي قابلا للتنبؤ بشكل كامل، فإنه يدعونا إلى التحرك وملء الإيقاع”.
وأضافت ويتيك: “الموسيقى تتطلب منا التحرك لكي تكون كاملة، حيث إن قوة الإيقاع تكمن في أنه يجعل الموسيقى عملية موزعة نشارك فيها بنشاط”.
لكن ليس كل موسيقى تُحفز الإيقاع، إذ تشير دراسات إلى أن الموسيقى ذات التعقيد الإيقاعي المتوسط هي الأكثر إثارة لهذا الشعور، حيث تُوازن بين التنبؤ والمفاجأة، مما يحفز الدماغ على المشاركة في التنبؤ بالحركة التالية.
وعلى صعيد آخر، تلعب حركة الجسد دورا أساسيا في الإيقاع، حيث تشير الدراسات وفق “واشنطن بوست”، إلى أن تحريك الرأس أو التصفيق أو الرقص يُعزز شعور الإيقاع من خلال ربط الإشارات السمعية والحركية في الدماغ.
كما تلعب الموسيقى دورا اجتماعيا هاما أيضا، حيث تشير الدراسات إلى أن التزامن بين الناس في الحركة على الموسيقى يُعزز مشاعر الترابط والانتماء.
وقال إيتاني: “أعتقد أن تأثير الموسيقى على الترابط الاجتماعي مرتبط بإحساس أو تجربة الإيقاع”.
فيما قالت ويتيك: “إذا كنا جميعا نتحرك بنفس الإيقاع، فإن الحدود بينك وبين الموسيقى والناس من حولك تتلاشى”.
الحرة
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: إلى أن
إقرأ أيضاً:
حديث عن النقد الثقافي.. ما بين المفهوم والرواد والمرتكزات والرفض والقبول
هل جربت في إحدى جلساتك مع أصحابك أو زملائك في العمل أن تلحظ أو تحصي الجمل التي قيلت بهدف النقد؟ هل جربت أن تدقق بكلماتك وعباراتك وأسلوبك في حياتك اليومية، إن كنت ممن ينبرون للنقد ويكثرون منه أو لا؟
من البدهي أن ندرك أن للنقد وجهين، فمنه البناء ومنه الهدام، وبعض الناس يتغذون على الهدام منه بوعي أو بدون إدراك حقيقي لمغازي عباراتهم التي يسلخون بها وجوه المحيطين بهم يمينا ويسارا، وبعضهم يعتمدون على البنّاء منه بغية تحسين أنفسهم ومعطيات البيئة المحيطة بهم وتطوير الإمكانيات من حولهم.
يظن بعض الناس أن النقد المنهجي مصطلح خاص بالدراسات الأدبية، لكنه حاضر في الدراسات الإنسانية كافة، لا سيما النقد الثقافي الذي يعتمد على ثقافة الناقد وسعة اطلاعه وقدرته على استحضار ما يملأ الفراغ ويتواءم مع الحاضن البيئي المحيط.
يعد النقد الثقافي من أهم المفاهيم النقدية التي ظهرت في مرحلة ما بعد الحداثة في ساحتي الأدب والنقد، ويقال إنه أشبه برد فعل على اللسانيات البنيوية وعلم السيمياء ونظرية الجمال، التي تعنى بالجانب الشكلي للأدب أو الجانب الفني والجمالي، وتغض الطرف عن المحيط الثقافي الذي احتضن النص الأدبي عند ابتكاره.
إعلانفانصب اهتمام النقد الثقافي على دراسة الأنساق الثقافية عامة، والمضمرة خاصة، وتحليلها وفقا للظروف التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية المحيطة بصاحب العمل الأدبي وبالنص الذي أبدعه.
حين بدأ نجم النقد الثقافي بالسطوع في الأوساط النقدية العربية أحدث جدلا عميقا ممتدا واسع الأطراف، فقد دعا بعض النقاد لقطيعة النقد الأدبي المعهود سابقا والاستعاضة عنه بالنقد الثقافي وما يضمه من آليات ومفاهيم، استنادا إلى كونه أكثر حرية واتساعا من سابقه في ما يذهب إليه من زوايا وأفكار وآراء عند مقاربة النصوص الأدبية والنقدية.
فانقسم النقاد والدارسون بين داعم ومتقبل لآليات النقد الثقافي وإمكانية إحلاله محل النقد التقليدي، وبين رافض محافظ على ما نشأ عليه من مفاهيم يأبى دخول جديد موسوم بالثورة على ما سبق وترسخ من مفاهيم وأصول نقدية علمية في التراث البلاغي والنقدي والأدبي على حد سواء.
وقد اعترى مفهوم النقد الثقافي كثير من الغموض، فانبرى كثيرون ممن تبنوا وجهته إلى تحديد مفهومه العام، وتعريف آلياته وطرائق مقاربته للأعمال الأدبية، بغية توضيحه وعرضه كما يستحق وينبغي، وبهدف تقريبه للرافضين له من جهة أخرى.
يختلف مفهوم الثقافة من مجال إلى آخر، فهو في علم الاقتصاد مختلف عما هو عليه الحال في مجال الأدب والنقد، ولأن النقد الثقافي القائم على مفهوم الثقافة الواسع المتشعب وصل إلى الأوساط العربية مكتمل الأدوات، وبوصفه منهجا عاما كان الخوف من الاقتراب منه واستيضاحه وتبنيه أكبر، فقد تراءى للبعض أنه جاء لتقويض جزء من الأصالة والتراث اللذين يعنى بهما المحافظون من المثقفين والنقاد ودارسي الأدب.
يهتم النقد الثقافي بداية بالنص المدروس، لكنه لا يغفل عن النظر إلى المؤلف ومقاصده ولا ينسى دور القارئ أو المستمع في إنتاج المعنى المراد من النص، ويعنى بالسياقات التي تحتضن كلا من النص والمؤلف والمتلقي، لذلك يعد النقد الثقافي نقدا أيديولوجيا فكريا اجتماعيا عقائديا… واسع النطاق.
إعلانيقول كيه إم نيوتن في كتابه التاريخ الأدبي ومناهجه: "العمل الأدبي جزء مباشر من المحيط الأدبي… إن العمل الأدبي الخاص عنصر تابع، ومن ثم لا ينفصل عمليا عن المحيط الأدبي، وهو يحتل مساحة محددة في هذا المحيط، وتحدده مباشرة تأثيرات هذا المحيط، عندها سيكون من العبث أن نعتقد أن العمل الذي يحتل مساحة في المحيط الأدبي يمكن أن يتجنب تأثيراته المباشرة".
يمكن للنقد الثقافي أن يقارب أي خطاب سواء أكان أدبيا عاليا رفيع المستوى أم شعبيا بسيطا، أم مبتذلا، فهو يعنى بتفكيك عرى النص العقلية وتحليل وشائجه الفكرية وإسنادها إلى مصادرها الحقيقية المتأثرة بالجو الثقافي من حولها، ولا يهمل النقد الثقافي بوصفه منهجا نقديا الجوانب الفنية والبلاغية والجمالية للنص، بل يهتم بما تحمله من رسائل وما تستند إليه من أفكار ومعتقدات، وما دفعت به دفعا من مظاهر ثقافية وبواعث حضارية منبثقة من الحاضن المحيط بالنص وصاحبه ومتلقيه.
وفي ذلك، يرى الغذامي واصطيف -في مقالهما "نقد ثقافي أم نقد أدبي"- أن الدراسات النقدية استنفدت جميع طاقاتها في دراسة جوانب البلاغة والجمال، مما جعلها قاصرة أمام الحشود الثقافية والمعرفية والتغيرات الثقافية، لذا صرنا بحاجة للانفتاح على مفهوم جديد متمثل بالنقد الثقافي. لكنهما يغاليان قليلا فيما يذهبان إليه، فالنقد عامة مفهوم واسع بخطوات حرة ومتشعبة، والنقد الأدبي ذو أدوات متفرعة تنبثق من مجالات مختلفة من جوانب الحياة.
فالنقد الثقافي يقوم على مقاربات متعددة الاتجاهات، تستند إلى التاريخ، وتحاكي الواقع الاجتماعي، وترصد التطور السياسي، وتواكب الحالات النفسية والأهداف المضمرة في الأنساق الثقافية المتنوعة، والمختفية وراء اللاوعي اللغوي والفني والجمالي.
يعد مفهوم النقد الثقافي رؤية منهجية نقدية مهمة في الدراسات العربية النقدية المعاصرة، وقد أخذ موقعا مميزا في الوسط النقدي منذ أكثر من عقدين من الزمن، وعند تحديد مفهوم النقد الثقافي لا بد من العودة إلى مفهوم الحضارة الذي يربط بينه وبين الثقافة، فكما يقول ابن خلدون إن للحضارة طرفين أساسيين، ماديا تقنيا تكنولوجيا، ومعنويا أخلاقيا إبداعيا يتجلى بمفهوم الثقافة.
إعلان هل من صراع بين النقد الثقافي والنقد الأدبي عامة؟كثيرا ما يُسأل إن كان النقد الثقافي قد جاء ليزيح النقد الأدبي ويتربع على عرشه، لكن الأمر ليس بهذه السطحية، فالنقد الثقافي ليس بديلا عن النقد الأدبي والبلاغة وعلم الجمال، وليس بديلا عن الدراسات البينية المتمثلة بعلم الجمال والتحليل النفسي والاجتماعي، فهدف النقد الأدبي هو البحث عن الجمال في النصوص المدروسة، أما النقد الثقافي فيبحث عن المخبوء وراء كل جميل، والمخبوء بين السطور ووراء الكلمات، ويبحث عن غايات النص الكامنة، وعما سعى الكاتب إلى إيصاله بأسلوب لا يعيه من ينظر إلى المتون المدروسة نظرة عابرة أو سطحية، يقول إيزابرجر آرثر في كتابه النقد الثقافي:
"النقد الثقافي نشاط، وليس مجالا معرفيا خاصا بذاته".
عني كثير من النقاد والدارسين بمفهوم النقد الثقافي، وبحثوا في آلياته، وحاولوا تقعيد كثير من مفاهيمه، وقد انبرى لذلك ثلة من المهتمين بالموضوع من رواد الغرب والشرق، الذين وسموا برواد النقد الثقافي في الغرب والشرق.
ففي الغرب، يعد الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (توفي 1984) الذي كان متأثرا بالمدرسة البنيوية من أول وأهم من تبنى منهج الدراسات الثقافية في مقاربة الأدب من الغربيين، وكذلك المنظر الماركسي ريموند هنري ويليامز (توفي 1988)، فقد كانت أعماله من الأسس التي قامت عليها الدراسات التي اعتمدت منهج النقد الثقافي.
والبريطاني ريتشارد هوجارت (توفي 2014) الأكاديمي الذي كان يعمل في مجالات علم الاجتماع والأدب الإنجليزي، وكان مهتما بالدراسات الثقافية، خاصة ما يتعلق بالثقافة البريطانية الشعبية.
وغيرهم كثر أمثال ستيوارت هول، وبيير بورديو، وكاندي، على أن هؤلاء كانوا ينظرون لأفكارهم إلى جانب اهتماماتهم بالدراسات الثقافية.
أما رواد المشرق فقد ذكرهم محمد عابد الجابري في بنية العقل العربي دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية، وعبد الفتاح العقيلي في النقد الثقافي قضايا وقراءات، ويأتي في طليعتهم المفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد (توفي 2003)، ويعد كتابه "الاستشراق" أهم نتاج له في هذا الإطار النظري، فقد بدأ توجهه الفكري انطلاقا من وعيه لفكرة الاستعمار وسياساته، محيطا بالظرف التاريخي والسياسي، وما نتج عن تلك الظروف من أنساق انعكست على صفحات الأدب بأشكاله كافة، إذ نراه في الروايات والقصص والمسرحيات، وصولا إلى كل ما يحاكي الثقافة الشعبية من نصوص أدبية.
وكذلك محمد عابد الجابري، وجابر عصفور، وإدريس الخضراوي صاحب كتاب "الأدب موضوعا للدراسات الثقافية"، فقد قدم فيه نماذج مختلفة تعود لكبار مؤسسي النقد الثقافي، ونماذج لممارسيه من المعاصرين، وحدد بعض قضاياه في إطار الهوية، والذات، ورؤية الآخر المخالف، والحديث حول المرأة، ملقيا الضوء على أنساق ثقافية مضمرة وعميقة.
إعلانأضف إليهم مالك بن بني صاحب كتاب "مشكلة الثقافة" الذي يعد من أهم الذين أسسوا للدراسات الثقافية في الأوساط العربية، وزكي نجيب محمود، والرائد الناقد عبد الله الغذامي الذي يعرف بأنه أكبر النقاد العرب الذين تبنوا الدراسات الثقافية بوصفها منهجا مكتملا مستقلا قائما بذاته، ومن أهم آثاره المعرفية في مجال النقد "الخطيئة والتكفير"، وقد عرض في كتابه "النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية" أفكارا جديدة وجريئة حول منهج النقد الثقافي، ويعد تأصيلا معرفيا ونظريا له.
وقد كثر الحديث عن الغذامي رائد هذا المنهج النقدي في الأوساط النقدية العربية المعاصرة، إذ يرى كثير من النقاد ودارسي الأدب والمهتمين أن ما جاء به يعد ثورة على أساليب النقد الأدبي، ويعتقدون أنه جاء بمشروع نقدي جديد بدعائم منهجية مبتكرة بعيدة عن أساليب البلاغة والدلالات الأسلوبية والجمالية المعهودة، يهدف إلى استنطاق خفايا المواد المدروسة سواء أكانت متونا أم كلاما منطوقا أم فنا معماريا أم غير ذلك.
في حين رأى بعضهم أن ما جاء به يعد نظريته النقدية الخاصة، وذهب آخرون إلى أن ما جاء به ليس إلا نشاطا معرفيا. ويرد عبد النبي اصطيف على ذلك فيقول إن النقد الثقافي: "لم يلغ دور النقد الأدبي في المجتمعات الغربية وغير العربية التي ازدهر فيها".
والحقيقة أنني أرى أن ما جاء به يعد استكمالا وسدا لفراغ نظري وعملي في الدراسات والمناهج النقدية، فالدراسات البلاغية والأسلوبية والجمالية وغيرها من المقاربات النقدية المعهودة لا تنظر إلى المدروس نظرة سطحية، ولا تقطعه عن واقعه الذي انطلق منه، وتعنى بما أراده المؤلف وما أومأ إليه إيماء اتكاء على المنهج النفسي للعلامات البلاغية والدلالات الجمالية، كما تعنى بما ترك عند القارئ أو السامع من أثر وما حاكاه من خيالات ومعالم حقيقية لديه، وذلك بالانطلاق مما جاءت به نظرية الاستقبال، وهي نظرية نقدية ذات أصول عميقة في تراثنا النقدي القديم.
إعلان علامَ يرتكز النقد الثقافي؟يركز النقد الثقافي على الأنساق المضمرة، وينظر إلى الأساليب اللغوية ويدقق في معانيها، ويكشف عن مراميها، فالتركيز الجوهري للنقد الثقافي يقوم على أنظمة الخطاب والإفصاح، ويعنى بالأنساق الثقافية السائدة سواء أكانت أنساقا اجتماعية أم دينية أم أخلاقية. وهذه الآلية التي يعتمدها النقد الثقافي تعد "إستراتيجية تتأسس على الوعي بالبعد الثقافي للعنصر، بالإضافة إلى الوعي بالبعد الجمالي للعنصر نفسه داخل النص".
ويهتم بالدلالات البعيدة التي لا تقف عند حدود البلاغة والأثر الجمالي والشكل الفني للنصوص، ويسعى إلى إظهار الأنظمة الثقافية وتسليط الضوء على علاقاتها النسقية على الصعد كافة، السياسية والتاريخية والاجتماعية والفكرية وغيرها، ولا يكتفي بذلك فحسب، بل يكشف الغطاء عن خبايا تلك الأنساق، وكيف تجلت في سياقات الخطاب المختلفة، وعن أي أبعاد ثقافية أدبية أو فنية أو إعلامية أو غير ذلك انبثقت.
وبالحديث عن نظرة النقد الثقافي إلى الأدب وكيفية مقاربته للمتون الأدبية، فإن النقد الثقافي ينظر إلى الأدب بوصفه ظاهرة ثقافية لها أصول وجذور وامتدادات معرفية، وتصل تشعباتها إلى آفاق الدراسات البينية، سواء أكانت متأثرة بها أم مؤثرة فيها، كما يعنى النقد الثقافي بـ"الكشف عن الأنساق المضمرة والفاعلة في تشكيل الخطاب المخالف والمتنوع في مقابل الخطاب المركزي".
إذا انطلقنا من فكرة مفادها أن النقد الثقافي ليس بديلا عن النقد الأدبي وعلوم البلاغة والبيان والجمال، فسيواجهنا سؤال عن مدى تشابك النقد الثقافي مع المناهج النقدية الأخرى، ومع المناهج العامة للدراسات الموضوعية كافة؛ كالمنهج التاريخي والمنهج الاجتماعي، وكذلك المنهج النفسي، وغيرها من المناهج المعروفة والمعتمدة في الدراسات.
إعلانولعل أفضل إجابة عن هذا السؤال هي اعتبار هذه المناهج أدوات لضبط العينة النصية المدروسة، واستخدام ما يوائم طبيعة المدروس منها، ففي المقاربات الثقافية لا ضوابط للتأويل، لكن لا بد من ضبط حدود ما تقع عليه الدراسة، سواء أكان نصا مكتوبا أم شفهيا مسموعا، وسواء أكان شعرا أم نثرا. ومن العينة الثقافية سنصل إلى استنباط الجمل الثقافية التي ستخضع للتحليل الثقافي والتأويل المناسب للشواخص التي حددتها الأطر العامة للدراسة.
ما أدوات النقد الثقافي، وما مفاهيمه الرئيسة؟أول سؤال يتبادر إلى ذهن الدارسين المهتمين بالنقد الثقافي هو: هل يمتلك النقد الثقافي أدوات واضحة المعالم لمقاربة النصوص؟
قد يبدو سؤالا باهت المعالم للنقاد والدارسين، لكننا بحاجة إلى الإجابة عنه، وإن بدا سؤالا منحازا، فمما يعكسه واقع الدراسات الثقافية يبدو لنا أن النقد الثقافي لا يمتلك أدوات واضحة المعالم.
وهنا تكمن خطورة تطبيقه وممارسته، إذ لا يمتلك جميع القراء ولا جميع الدارسين مطلق الأدوات اللازمة للتفكيك البنيوي للغة، ولا يمكن الوصول إلى معنى المعنى إن لم تفكك البنى اللغوية تفكيكا دقيقا ملائما لحيثيات النص المدروس، ناهيك عن العلاقات الإسنادية في الجمل الثقافية التي يحتاج تحليلها إلى ثقافة موسوعية خاصة محيطة بأجواء المادة المدروسة من كل جانب.
تعد الأنساق المضمرة من أهم المفاهيم التي يدور حولها النقد الثقافي، فهي الهدف الذي يسعى وراءه في أي عمل أدبي يقاربه، يستقرئها ويحاكيها في جوانب النص المعتمة، ويستنطقها ويبحث عما تخفيه وما يريده صاحب العمل من خلالها. وهي ابنة البيئة التي أنشئ العمل فيها تاريخيا واجتماعيا وثقافيا، كما أنها تختفي وراء الكلمات وبين السطور، لكنها تلوح ببوارق الحاضن الثقافي وتعكس مكامنه.
كما يذكر المجاز الكلي في سياق النقد الثقافي على أنه البديل الأنسب عن المجاز البلاغي، ويضم الجمل الثقافية في أنساقه المتعددة، ففي النقد الثقافي لا نتحدث عن التراكيب النحوية أو الدلالات المعنوية والبلاغية، بل يدور الحديث حول الجمل الثقافية واستقراء الأنساق وما تخفيه من رسائل مضمرة. أضف إلى ذلك الظرف التاريخي والسياسي والثقافي السائد في الحاضن العام للنص المدروس وصاحبه ومتلقيه.
إذا ما سألنا عن هدف النقد الثقافي، فسنرى أنه يسعى إلى البحث عن المقصى والمخفى، ليكشف عن المضمر، ويسلط الضوء على كل ما يهيمن على النص اتكاء على سلطتين أساسيتين قادرتين على إخضاع أي كلام مكتوب كان أو منطوق لهما، السلطة المركزية والسلطة الشعبوية، وحين تسيطر إحدى هاتين السلطتين على الكلام وتهيمن عليه، فإن الأخرى تكون مهمشة.
إعلانوأيا ما كان المهمش فإن حيثيات النص وشواخصه ستتضافر لإبراز المهيمن على النص جميلا ومقبولا، وستسعى لجعله مقبولا باللاوعي لدى القراء أو المستمعين غير الواعين وغير المنتبهين للرسائل المضمرة التي تبثها الجمل الثقافية في ثنايا النصوص.
ماذا عن النقد الثقافي والشعر العربي القديم؟كثر الحديث في العقود الأخيرة عن مدى قدرة المناهج النقدية الحديثة على مقاربة الشعر العربي القديم بأدواتها ومفاهيمها، وكثر بالتزامن مع ذلك الحراك النقدي الداعي إلى بعث الحياة في خفايا تراثنا النقدي.
وقد وجد هذا الحراك أن كثيرا من المناهج النقدية الحديثة ذات أصول أو لها إرهاصات فيما مضى، ولسنا هنا بصدد إثبات ذلك من عدمه، فعنوان هذه الدراسة كفيل بإظهار قدرة التراث الشعري على التماشي، بل التناغم مع معزوفات النقد الحديث وكل ما يأتي به من جديد، فقد أثبتت الدراسات البنيوية قدرتها على استخراج لآلئ مخبوءة في خزائن العرب الشعرية والنثرية.