سناء حمد: الخطأ القاتل الذي ارتكبه البرهان هو منح الكثير من الصلاحيات لحميدتي
تاريخ النشر: 9th, July 2024 GMT
قالت القيادية بالحركة الإسلامية سناء حمد للجزيرة مباشر بأننا سنجلس للتفاوض مع تنسيقية تقدم إذا قبل بها الشعب السوداني.– تنسيقية تقدم جريمتها لا تغتفر فهي وفرت الغطاء السياسي للدعم السريع بوعي كامل لكل هذه الجرائم.– الخطأ القاتل الذي ارتكبه البرهان هو منح الكثير من الصلاحيات لحميدتي.الجزيرة – السودانإنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
إقرأ أيضاً:
في المعرفة بوصفها خبرة
يتوهَّم بعض بني آدم -في هذا العصر المضطرب- أن الإنسان يصنعه كم المعلومات الذي حصَّله، وكمية البيانات التي راكمها، والإحصاءات التي يعتمد عليها، بل وأن التكثير في هذه "المعرفة الكمية" يزيد من فرص "ضمانه" لاستقرار مُستقبله وسلامته. وربما بسبب هذا الوهم، لا زالت طبقات واسعة تؤمن بالتعليم النظامي الرسمي، الذي صُمم خصيصا -في أفضل أحواله- لصناعة عبيد وخدم، وتروس موظَّفة بكفاءة في نظام عالمي متوحش لا يرحم. فإذا أراد الواحد من هؤلاء المستعبَدين صقل بعض المهارات العمليَّة، أو اكتساب بعض الخصال السلوكية؛ لجأ إلى كتب أو محاضرات ذلك الغثاء المُضِل، والمسمَّى بـ"التنمية الذاتية" أو "التنمية البشرية"، أو أيّا كان اسمها؛ فالمهم أن محتواها واحد: بناء "لاهوتي" تأسس على قاعدة بروتستنتية قَدَريَّة، تسمح بإعادة توجيه البوصلة البرانية التي غرسها التعليم النظامي المُفسد؛ لتكتسب بعض العمق الجواني، الذي يمنح الإنسان شيئا من "الهدوء الإيماني" المؤقت، إذ يوهمه بمقدرته على التحكُّم في كل شيء، ويُكسبه رغبة في تأصيل الوهم الذي تلقَّاه -في سني تعليمه النظامي- تأصيلا ميتافيزيقيّا يُرضيه عما نال وما حقَّق، ويُسيِّل لعابه للمزيد؛ إذ يربطه بالنظام الضال الذي يتحرَّك في إطاره برباط عضوي، ويسمح بإعادة دمجه -مرة أخرى- في المنظومة ذاتها بعد إعادة برمجته عصبيّا وسلوكيّا، وهكذا دواليك؛ كلما أُنهِكَ الإنسان وأراد التفلُّت من طقوس هذا الدين الجديد، جاءت الجرعة اللاهوتية لتُعيد تهدئته وبرمجته.. وتُجدِّد عهد استعباده.
وربما لهذا السبب تحديدا لا يكتسب عموم الناس اليوم مهارات حياتيَّة فعليَّة إلا لماما، وبغير وعي ولا إرادة في الغالب؛ أي أنهم قد يخوضون بجد مسارا من مسارات حياتهم التي لم يختاروها، فيكتسبون عبر هذه المسيرة وبسبب هذه "الخبرة" مهارة عمليَّة معينة لم يقصدوا إلى اكتسابها (وإنما تراكمت بانتظام ممارسة ما)، بل وقد يبلغ البؤس بأكثرهم درجة ألا يستطيعون اكتشاف شيء مما اكتسبوا بأنفسهم؛ فيكتشفه بعض أقوياء الملاحظة من المحيطين بهم.
الاكتساب الحقيقي النافع للمهارات والأدوات لا يكون -في الأغلب- مُصادفة قدريَّة، ولا يقع اتفاقا بغير قصد مُسبَق، أو جهد منظَّم، ولا يحدُث أصلا بسبب جمع المعلومات الجزئية مجردة، ومراكمتها؛ وإنما هو حصيلة عمليَّة طويلة ومستمرة من التعلُّم بالتجربة والخطأ في إطار رؤية كليَّة جامعة، وحصيلة صيرورة منهكة من الخبرة، فيها قدر من الاطراد والانتظام، بل وحد أدنى من الانضباط في مسيرة تعلُّم تسمح بمراكمة الخبرة، والتعلُّم من الأخطاء، وتصحيحها
وما ذلك إلا لأن الاكتساب الحقيقي النافع للمهارات والأدوات لا يكون -في الأغلب- مُصادفة قدريَّة، ولا يقع اتفاقا بغير قصد مُسبَق، أو جهد منظَّم، ولا يحدُث أصلا بسبب جمع المعلومات الجزئية مجردة، ومراكمتها؛ وإنما هو حصيلة عمليَّة طويلة ومستمرة من التعلُّم بالتجربة والخطأ في إطار رؤية كليَّة جامعة، وحصيلة صيرورة منهكة من الخبرة، فيها قدر من الاطراد والانتظام، بل وحد أدنى من الانضباط في مسيرة تعلُّم تسمح بمراكمة الخبرة، والتعلُّم من الأخطاء، وتصحيحها. وبعبارة أخرى؛ فإن التعلُّم الحقيقي ليس "مُراكمة لتفاصيل الوجود" البراني، وإنما هو "خبرة وجوديَّة" جوانية لا يُمكن أن تُكتسب إلا بانتقاص البراءة، وبالألم والمعاناة، وتقلُّص الراحة، والتآكُل المطرد -والمخيف- لطمأنينة الجهل، وربما ببعض العيش على حافة الخطر، وعلى شفير الحياة القاطع، بل وأحيانا بالسقوط في هاوية بعض محن الحياة العاصفة المزلزلة.
أي أن التعلُّم الحقيقي نُضج إنساني، يجب أن يُمزِّق غشاء البراءة، أو بعضه على الأقل. وكل "تعلُّمٍ" لا يُنضج شخصيتك؛ مخلفا جروحا وندوبا، تشغل مكان بعض البراءة الفطرية؛ فهو غُثاء ضار، لا قيمة له ولا جدوى منه. إن البيانات والمعلومات لا يمكن أن تصنع ذلك بذواتها الباردة المتشظية، وإنما تصنعه آثارها في نفسٍ تُراكمها كبدا في إطار خبرة وجودية، ورؤية كُليَّة واعية لهذا العالم؛ أي أنها تُحدث هذا الأثر اعتمادا على شخصيَّة المتلقي ومؤهلات التلقي، وربما لهذا السبب؛ كان السلف يؤكدون على ضرورة أن يؤتى الإنسان الإيمان قبل القرآن؛ فإن كتاب الله تعالى لا يؤتي أُكله، ويحقق غرضه الذي تنزَّل له؛ إلا بين جنبي نفس مؤمنة ابتداء. وكذلك إعادة إحياء الإسلام في كل جيل، يجب أن تبدأ بالإيمان لا بتحكيم الشرائع والنواميس الإلهيَّة؛ فإن النفوس التي لم تمتثل ابتداء ستتفلَّت من التعاليم.
والناظر في نفوس الخلق، يجد أن البراءة الفطريَّة الأولى التي لم تُخدش بسبب قلَّة الخبرة العمليَّة، وبسبب نقص المعرفة الحقيقيَّة التي يتم تلقيها بواسطة الحركة والخطأ، وتكرار الحركة لتصويب الخطأ؛ تتحول بعد طور الصبا إلى لون بغيض مقزز من البلاهة، أو السذاجة الممقوتة. فإذا كان الطفل البريء نظيف النفس، يُخرج فضلات جسمه لا إراديّا في أي زمان ومكان بحكم حداثة الخبرة؛ فإن البالغ العاقل يجب أن يفقد من عموم البراءة ويكتسب من الخبرات الحياتية -إجمالا- قدرا يليق بما اكتسبه من "خبرة" حبس فضلاته عن الآخرين، واعتياد إخراجها بطريقة تليق بإنسانيته. فكذلك يجب أن تكون مُعدلات النضج العام لشخصيته الاجتماعيَّة، موازية لنُضج إنسانيته والتزامه الإرادي بآداب الفطرة الإنسانيَّة مثل العفة والطهارة.
لكنَّ النفوس الضحلة -والمفتقرة إلى خبرة الحياة- لا تكون بالضرورة ساذجة في كل شيء، فهي قد تتلقى -بالتقدُّم في العمر- معارف نظريَّة وعمليَّة شتى، لكن تظل هذه السذاجة تتجلَّى أشد ما تتجلَّى في توقُّع المرء للمعونة ممن يُصحح له خطأه في كل مرة، بعد أن اعتاد ذلك من والديه؛ فهو أجبن من أن يستطيع الإقدام على شيء مفارق لمألوفاته، بله أن يتجاوز ذاته ليُصوب أخطائها في الحركة. فإنما مثله في نفسه وحياته، مثل الطفل البريء؛ الذي ينتظر من يُنظف له إفرازات جسده وفضلاته لعجزه عن ذلك، أو لنكون أدق؛ لجهله أحيانا بأنها فضلات، لكثرة ما اعتاد على من يرفعها عنه حتى كأنه صار يجهل وجودها.
أسوأ ما يترتب عليه هذا العجز، عن التعلُّم من الأخطاء ثم تصحيحها وأخيرا التصالُح معها؛ فهو أن تتحول مكابدة الإنسان الحياتيَّة الضروريَّة واللازمة إلى "مُعاناة سلبيَّة"؛ آلام نفسيَّة "مجهولة السبب" ولا يُمكن التعاطي معها -في روع صاحبها فحسب!- تستثير الشكوى ولا تستثير التفكُّر، وتُسبب الإحباط والاكتئاب بدل أن تكون درسا للتعلُّم
وجه آخر من أوجه السذاجة؛ هو انعدام المقدرة على التصالُح مع الأخطاء. وهذا النوع من البشر إما أنه دُلِّل في طفولته لدرجة عدم تصوره إمكان وقوعه في الخطأ، أو أنه نشأ في بيئة قاسية لم تكن تسمح له -أصلا- بالخطأ، فكانت تُعاقبه على أتفه الأمور أشد العقوبة. ورغم التعارُض الظاهر بين الطريقين، إلا أن جوهرهما واحد؛ افتراض الملائكية في الإنسان، وأنه لا يُخطئ ولا يجدر به ذلك؛ رغم أن جوهر التكليف هو سرعة التوبة بعد الخطأ الذي غُرست إمكانية اجتراحه عميقا في نفس الإنسان. والتصالُح مع الأخطاء ليس المقصود منه الرضا عنها، والاستسلام لها؛ فهذا فعل دنيء يجب أن يتنزَّه عنه الإنسان المُكرَّم المكلَّف، وإنما التصالُح المقصود هاهُنا هو تسليم المرء بحتميَّة وقوعه في الخطأ وارتكابه الإثم، مع إيمانه بمقدرته على تصحيحه. هذا التصالُح لا يُمكن تحقُّقه أصلا إن كان الإنسان لا يستطيع أن يتصور وقوعه -هو أو من يحب!- في الخطأ. وبدهي أن من لا يُدرك كون الإنسان مجبول على الخطأ والإثم، ومفطور على الرجوع والتوبة؛ لا يستطيع التصالُح مع أخطائه، ودع عنك أن يتعلَّم منها. فهذا من "البراءة" أو السذاجة الممقوتة التي اصطبغت بها أجيال كثيرة للأسف.
أما أسوأ ما يترتب عليه هذا العجز، عن التعلُّم من الأخطاء ثم تصحيحها وأخيرا التصالُح معها؛ فهو أن تتحول مكابدة الإنسان الحياتيَّة الضروريَّة واللازمة إلى "مُعاناة سلبيَّة"؛ آلام نفسيَّة "مجهولة السبب" ولا يُمكن التعاطي معها -في روع صاحبها فحسب!- تستثير الشكوى ولا تستثير التفكُّر، وتُسبب الإحباط والاكتئاب بدل أن تكون درسا للتعلُّم. وبدهي أن الإشكاليَّة حينها لن تكمُن في التجربة ذاتها، وإنما في مُستقبِلها وكيف استقبلها. فهذا الطفل الشكاء البكاء الذي لا يُخطئ، يتوهَّم -ببراءته الممقوتة!- أنه يستحق أكثر مما نال، وأن الزمن جار عليه، وأن البشر ظلموه، وأن على الأقدار الترفُّق به دون سبب أو مسوغ معقول، حاشا ما ترسَّخ في نفسه من أوهام نشأته. أما إن كان ممن لا يُسمح له بالخطأ؛ فهو يخشى العواقب ويتربص من مقدرته على تحمل تبعة أفعاله، ويحسب ألن يقدر على تحمل الخطأ، ودع عنك التعلم منه. وهؤلاء وأولئك قد ينهارون تماما إذا وقعوا في أزمات كبرى؛ فلم يجدوا من يمد لهم يد العون، ويحمل عنهم أوزارهم. فإنما ظنوا الحياة نُزهة طوباوية وفردوسا أرضيّا هم ملائكتُه، وهذا خلل إيماني ضخم؛ يخلف معضلات نفسيَّة واجتماعيَّة صارت اليوم مما عمت به البلوى.
إن من ابتُلي بشيء من هذا الاختلال لن يُقلَب ميزان حياته بمقال ولا كتاب، ولن يخرج من عنق زجاجة أوهامه بأي عون بشري يتوقعه من خارج نفسه التي بين جنبيه. وإنما أول طريقه هو الخروج عن مألوفاته، وكسر سيئ عاداته، واكتساب خبرات حياتيَّة حقيقية ينتفع بها في مسيرة حياة جديدة يتخيَّرها.
ألا فاعلم أيها المسكين -ضحية نفسه وأهله!- أنك لن تخرج من بؤس نفسك إلا بالخبرة والمكابدة، والمعاناة والألم، إنما يلزمك الكثير والكثير من حُرقة المكابدة حتى تصير إنسانا.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry