لم تكن لغة الخطاب النبويّ فى خصائصها الخاصّة إلا المثال الذى يُحاكى لغة القرآن الكريم. وقد سبقت الإشارة إلى أنها لغة حق فى حق من حق، صادقة على الدوام، لا تقبل الخطأ الذى يترائى من لغو اللغة العادية، لأن اتصال الخطاب النبوى دوماً بالحقيقة، يعجز اللغة ويمنعها قصراً عن الانحراف.
وبما أن سمة الخطاب النبويّ أن ألفاظه «ألفاظ حقائق»، وأنه صلوات الله عليه، أعطى «جوامع الكلم» فاختصر له الكلام اختصاراً، صار أخص خصائص خطابه ليس مجرد لغة تتردد على الألسنة والسلام، بل ينفذ بين شغاف القلوب فيحولها من حال فى الحياة إلى حال.
ولم تكن «اللغة اللاغية» من جنس ما يتوخّاه اللسان المؤمن تحقيقاً، ناهيك عن القلب وعن الضمير؛ لأن استخدامها فى الخطاب الدينى يقدح فى وعى المؤمن وطواياه قدحاً نهى عنه القرآن الكريم منذ البداية.
ولنا أن نتأمل قوله تعالى :»وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فيه لعلكم تغلبون»؛ فماذا تجد؟ تجد «اللغة» هنا إتيان بالباطل من القول، واللغو الصاخب فى أثناء القراءة صرفاً للناس عنه وطلباً للغلبة، ومثاله فى القرآن كثير : أعنى مثال «اللغو» الذى ذكرت فيه «اللغة اللاغية» بسخيف الأقوال بُله الأفعال، نماذجه فى أكثر من عشرة مواضع فى الكتاب الكريم. ونحن نأتى على خمسة منها هنا فقط، وبقيتها توضيح يفرضه سياق الآية فى مناسباتها الواردة فيها.
ففى «القصص» آية (55) قوله تعالى : «وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين»؛ فاللغة هنا لغو يلحق السّماع؛ فبمجرّد سماعه يستحق أن يُلغى من فوره بالإعراض عنه والاكتفاء بالعمل خالصاً حين يشهده الله من المخلصين، ثم إبداء السلام على شرعة الإعراض أيضاً، طلباً للسلامة وتحقيقاً للإخلاص، لكنه هنا إعراض عن العبث وسخف القول وهما بُغية الجاهليين.
وفى «المؤمنون» آية (3) قوله تعالى : «قد أفلح المؤمنون. الذين هم فى صلاتهم خاشعون. والذين هم عن اللغو معرضون»؛ فاللغة هنا لغو أيضاً ليس فيه فائدة لا من قول ولا من عمل، فليس اللغو هنا مقصوراً على اللفظ وكفى، ولكنه أيضاً يتضمّن العمل. ولن يفلح مؤمن وهو فى صلاته ليس بخاشع، وهو عن اللغو ليس بمعرض.
وفى «البقرة» آية (225) قوله تعالى :»لا يؤاخذكم الله باللّغو فى أيمانكم». اللغة فيه سبق اللسان لغواً ممَّا لم يقصد به جزم اليمين؛ فسبق اللسان باللغو بالحلفان لغة صادرة عن اعتقاد الصدق وهى تتضمّن البطلان !
وفى «الفرقان» آية (72) قوله تعالى :»والذين لا يشهدون الزور وإذا مَرُّوا باللغو مَرُّوا كراماً « : مرُّوا كراماً على ما ينبغى أن يُطرح بعيداً من قول أو فعل، مرُّوا كراماً لأنهم ارتفعوا عن اللغة التى تصيبهم بالدُّون ممَّا ينبغى أن يُلغى من الأفعال والأقوال، مرُّوا كراماً فما ينالهم إلا ما ينال الكريم من العزوف والإعراض، مرُّوا كراماً والكريم إذا مَرَّ باللغو لم يبال بصاحبه ولا بما يلغو فيه، مرُّوا كراماً فكرمتْ لديهم أنفسهم، وهانَ عندهم اللغو، وسقطت لديهم لغة المحجوبين.
وفي «الطور» آية (23) قوله تعالى: «يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ». نعم! يتنازعون فى الجنة و يتجاذبون فيها الكؤوس تنازع محبة وأنس لا تنازع شقاق وخلاف، كلٌّ منهم يجذب الكأس من يد صاحبه تلذُّذاً وتأنُّساً، فليس المقام مقام لغو ولا تأثيم، ولا هو بمقام لغة فاحشة ولا كلام قبيح، كما تفعل كؤوس الدنيا بذويها، فتمنع ألسنتهم عن الصواب بعد أن تعقل عقولهم عن الصحة والسلامة بل: (لا تسمع فيها لاغية) من باطل ولا لاهية من لغو.
وعليه يتبيّن؛ أن ألفاظ اللغة ليست فى كل حال صادقة؛ بل من اللغة ما هو باطل وقبيح، وفيها ما هو شاذ وساقط، ومنها ما يشتمل على سخيف القول وفضول الكلام.
وقد صَوَّر هذا المعنى شيخ المعرة، إذ قال :
ومن النَّاس مَنْ لفْظُهُ لؤُلؤٌ يُبَادُرُه للَّقْطِ إذْ يُلفَظُ
وبَعْضُـهُم قـوله كالحصَـا يُقَال فَيُلْغَى ولا يُحفَظُ
كما أنّ ألفاظ اللغة تلك ليست فى كل حال صادقة على الواقع التاريخى الذى يشهد الحالة كما يشهد الواقعة تجربة وحدثاً فى مجراه العميق الطويل.
لكن رسول الله، صلوات ربى عليه، الذى اختاره الله لرسالته، واصطفاه لدعوته، وأرسله إلى الناس كافة مبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم : لم تكن دعوته مجرَّد لغة، ولم تكن ألفاظه كلمات كسائر الكلمات، ولكنها كانت «حقيقة» لا مجرد «لفظ»؛ كما كانت دعوته واقعاً تجرى فيه حقائق الحياة والكون وتشهدها وقائع التاريخ وتجاربه الحيَّة، ممارسة وفعلاً وحياة؛ الأمر الذى يتبيّن لنا فيه، مع معايشة أحواله ومباشرة أقواله والترقى الروحى فى معارج ذكره الباقي، ومدارج حقيقته الروحية، أن أحاديثه الشريفة ومناقبه الكريمة لا تحتاج مع ترقية الأحوال الباطنة إلى بيان الحديث الصحيح من الضعيف.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: خصائص الخطاب النبوى 3 د مجدى إبراهيم الخطاب النبوي قوله تعالى الذى ی لم تکن
إقرأ أيضاً:
فضل العبادة في أوقات الغفلة وانتشار المعاصي.. الأزهر يوضح
كشف مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية عن فضل عبادة الله فى أوقات الغفلة والفتن وانتشار المعاصي.
وقال الأزهر للفتوى عبر صفحته الرسمية على فيس بوك: إن سيدنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ». [صحيح مسلم].
وأوضح الأزهر أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبينُ في هذا الحديث فضلَ العبادة في أوقات الغفلةِ والفتنِ وانتشارِ المعاصي، التي يغلبُ فيها الانشغالُ بالدنيا، والبحثُ عن المتعة والسعادة بعيدًا عن منهج الله سبحانه.
وتابع: حيث جعل المُلتجِئ إلى الله عز وجل، والمُستعصِم بحبله حين انصرافِ كثيرٍ من الناس إلى الشهوات والشبهات، بمثابة المهاجر من ظلمة الفتن إلى النور الذي جاء به سيدنا رسول الله ﷺ.
واختتم منشوره بالدعاء قائلا: نسألُ الله أنْ يَقِيَنا من كل فتنة مُدْلَهِمَّة، ويُنَجِّيَنا من كل ظُلمةٍ وغُمَّة، آمين.
أيسر العبادات وأفضلها
ذِكْرُ الله تعالى من أيسر العبادات، وأفضلها، وأسماها، وبه تطمئن القلوب، ويرضى علام الغيوب؛ قال سيدنا رسول الله ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا لِدَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا رِقَابَهُمْ وَيَضْرِبُونَ رِقَابَكُمْ؟ ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». [ أخرجه أحمد]
فلا يفترنّ لسانك عن ذكره سبحانه، وهو السميع القريب المُجيب.
ذكر الله - تعالى- عظيمة وجلية لمن يداوم على هذه العبادة التي تعد من أفضل الأعمال الصالحة وأجلها، ولا يقتصر ذكر الله - تعالى- على التسبيح والتهليل والتكبير والحمد، بل التفكر في خلق الله وفي نِعمه ذكر أيضًا، وقراءة القرآن، ودعاء الله - سبحانه- ومناجاته، والاستغفار، والصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحضور مجالس العلم، إلى غير ذلك مما يؤدي إلى معرفة الله -تعالى -والتقرب منه؛ فهو نوع من أنواع الذكر، وكلما ازداد العبد إيمانًا وتعلقه بخالقه - جل وعلا - كثُر ذكره له وثناؤه عليه.
ولذكر الله 7 مزايا ذهبية
1) زيادة الثقة بالنفس ومزيد من السعادة
2) الأذكار تضاعف أجور الأعمال الصالحة
3) المساعدة على النوم لمن يعاني من اضطرابات النوم
4) التخلص من الخوف والقلق والتوتر
5) تنشيط خلايا الجسم
6) التخلص من هموم الحياة والغم والحزن
7) الفرح برحمة الله تعالى والتفاؤل والاستبشار
نصائح للمداومة على ذكر الله
قال الدكتور علي جمعة، مفتي الجمهورية السابق، إنه "في بعض الأحيان يكثر الانشغال بالدنيا ومشكلات الحياة، فينشغل الناس عن الذكر، فماذا نفعل؟".
ونصح المفتي السابق بفعل شيئين للمداومة على الأذكار، الأول: أن نذكر ولو قليلا، ولكن بديمومة" أحب الأعمال إلي الله أدومها وإن قل"، ولذلك استغفر مائة مرة (تأخذ حوالي 4 دقائق أو 5 دقائق) أقول (لا إله إلا الله) مائة مرة، أصلي على سيدنا النبي - ﷺ - مائة مرة، أفعل هذا في الصباح وفي المساء فقط لا غير ولكن أداوم عليه، إذًا المشكلة الآن هي الديمومة على الذكر ولو كان قليلا، وهذا يكون بالهمة والمتابعة حتى نجد هذه العبادة تستقر عند الإنسان حتى تتحول إلى جزء من برنامجه اليومي، فإذا تحولت إلي جزء من برنامجه اليومي فلن يتركها، ويظل دائما متشوقا إليها، وذلك مع الديمومة.
وأضاف جمعة، في بيان له: "وثاني ما نفعله، أن نجعل ذكر الله في حياتنا، عندما نأكل أو نشرب نقول: باسم الله. وعندما ننتهي نقول: الحمد لله.
وعندما نخرج في الصباح نقول: باسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، هي أشياء بسيطة، وفي أماكن كثيرة، عندما أدخل المسجد أقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك.
وعندما أخرج أقول: اللهم افتح لنا أبواب فضلك، كلمات بسيطة جدا، عندما أخرج من الحمام أقول: غفرانك، كلمة واحدة فقط, ولكنها تجعل للإنسان صلة مع الله".
وتابع: "إذا فعلنا ذلك لعدة أيام متعاقبة وبانتظام سنتغلب على النسيان واللهو والانشغال".