وهو ما سيرسم تحولًا استراتيجيًّا غيرَ مسبوق في معادلات الاشتباك مع العدوّ، سواء على مستوى معركة إسناد الشعب الفلسطيني والضغط لإنهاء الإبادة الجماعية في غزة، أَو على مستوى مستقبل الصراع بأكمله باتّجاه تثبيت معطيات حتمية زوال الاحتلال وإنهاء الهيمنة الصهيو أمريكية في المنطقة.
عملية الاغتيال الإجرامية التي طالت القائد إسماعيل هنية أثناء تواجده في إيران لحضور مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، جاءت بعد يوم من عدوان صهيوني على لبنان أسفر عن استشهاد القائد العسكري الكبير في حزب الله، فؤاد شكر، واستهداف مواقعَ للحشد الشعبي في العراق، وبعد قرابة أسبوعين من العدوان "الإسرائيلي" على محافظة الحديدة؛ الأمر الذي عكس خُطَّةً أمريكيةً صهيونيةً معدةً مسبقًا للتصعيد ضد محور المقاومة ومحاولة فرض معادلة "ردع" لقمع جبهات الإسناد وصناعة إنجاز وهمي لتعويض الانتصار الذي عجز الصهاينة والأمريكيون عن تحقيقِه في غزة على مدى عشرة أشهر.
وقد جاءت ردودُ فعل المحور بمستوى التصعيد، حَيثُ أكّـد قائدُ الثورة الإسلامية في إيران، السيدُ علي خامنئي، أنَّ العدوَّ الصهيوني فتح على نفسه بابَ "عقابٍ قاسٍ" وأعلن أن إيرانَ سترد بقوة على جريمة اغتيال القائد هنية في أراضيها؛ وهو ما أكّـده الحرس الثوري أَيْـضاً، فيما أعلن سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله أن "كل جبهات الإسناد دخلت مرحلة جديدة" وأن الردَّ "حتمي ولا نقاشَ فيه" فيما اعتبرت كتائبُ القسام أن التصعيدَ الصهيونيَّ "ينقلُ المعركةَ إلى أبعاد جديدة وستكونُ له تداعياتٌ كبيرةٌ على المنطقة بأسرها".
وأكّـد قائدُ الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي أن الردَّ على التصعيد الصهيوني "لا بد له" من جانب محور المقاومة، وأعلن أن اليمن "لن يألوَ جهدًا في الانتقام للشهداء بالتعاون مع المحور" معتبرًا أن العدوّ "نقل المعركة إلى مستوى أوسع وأبعاد أكبرَ تكون عواقبها عليه وخيمة".
التأكيداتُ الحازمةُ لقادة المحور تنطوي على عدة حقائقَ أَسَاسية مهمة، أبرزها أن الصراعَ مع العدوّ الصهيوني قد أصبح بالفعل معركةً إقليميةً بمقتضى ضرورة التصدّي للعربدة "الإسرائيلية" في المنطقة، إلى جانب واجبِ إسنادِ الشعب الفلسطيني في معركة (طوفان الأقصى)؛ وهو ما يعني أن تحولات كبيرة وغير مسبوقة قادمة في مسار المعركة الحالية والصراع بأكمله؛ لأَنَّ هذا المستوى من الاشتباك الإقليمي ينطوي على معادلاتٍ تؤثر بشكل مباشر على كُـلّ الموازين الجيوسياسية في المنطقة، بما في ذلك موازينُ الهيمنة والردع وما يرتبط بها من مصالح، حَيثُ يبدو بوضوح أن قادةَ المحور عازمون على فرض واقعِ ردعٍ يحشر الكيان الصهيوني بين خيارَينِ: فإما الحرب الواسعة المُستمرّة المتحرّرة من ضوابط عمليات "الإسناد"، أَو التسليم –على ضوء نتائج الرد- بحقيقة أنه لا يمكنُه كسبُ هذه الجولة، وبالتالي إنهاء الحرب في غزة لتهدئة الوضع، وهما خياران يقودانِ إلى نتيجة واحدة بالنسبة للعدوِّ وهي استحالة بقائه بأمان في المنطقة.
وعلى ضوءِ تأكيدات قادة المحور فَــإنَّ الاشتباك الإقليمي الذي أصبح معطىً ثابتًا في الصراع مع العدوّ الصهيوني منذ الآن، لا يعني فقط تثبيتَ حضور الجبهات الإقليمية، بل تدشين مسار التنسيق العملياتي والسياسي الكامل فيما بينها لتحقيق أهداف موحَّدة على أرض المعركة وفي المستقبل؛ وهو ما يعني نهايةَ المخطّط الذي عملت عليه الولاياتُ المتحدةُ منذ بدء (طوفان الأقصى)، والذي يهدفُ لفصل جبهات المحور عن بعضها ولو على مستويات معينةٍ؛ ليسهل الاستفراد بها؛ الأمر الذي يمثل بالفعل تحولًا حقيقيًّا في موازين القوى بالمنطقة وبداية مستقبل جيوسياسي جديد تنهارُ أمامه كُـلُّ حسابات الأعداء في تأمين وجود وبقاء الكيان الصهيوني؛ إذ لم يسبق أن واجَهَ الكيانُ الصهيوني أَو رعاتُه الأمريكيون جبهةً إقليميةً فاعلة بهذا المستوى.
أما بشأن الرد، فيبدو من خلال تأكيداتِ مختلف أطراف المحور أنه سيكون استثنائيًّا ويركِّزُ في المقام الأول على الإضرار الكبير بالعدوّ الصهيوني وردعه عمليًّا وبعثرة حساباته السياسية والعملياتية، حَيثُ أكّـد سماحةُ السيد حسن نصر الله أنه يجري التحضيرُ "لردٍّ حقيقي ومدروس جِـدًّا وليس شكليا" فيما أكّـدت بعثةُ إيران في الأمم المتحدة أن الرد سيكون عبر "عمليات خَاصَّة مركَّزة تؤلم العدو" وهو أَيْـضاً ما عبَّر عنه قائدُ الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي بالتأكيد على أن الرد "سيكونُ كبيرًا" وحديثه عن "الانتقام" للشهداء.
رد مدروس بعناية
وفي هذا السياق أكّـد عضوُ الوفد الوطني المفاوض عبدُالملك العجري، أن "الردَّ آتٍ، وقد نشهد عمليات مشتركة والأهم -كما قال سماحة السيد حسن نصر الله - أنه رد مدروس جدًّا"، موضحًا أن "الردَّ ليس لمُجَـرّد إرضاء رغبة الشعوب الغاضبة (ومن حقها أن تغضب) والتي تستعجل الرد، ولكنه يأخُذُ في الاعتبار أن العدوَّ ومَن خلفه من عجم وعرب في أعلى حالات التأهب وَالاستنفار لإحباط أية عملية غير مدروسة، والمعركة مُستمرّة ومتصاعدة وَفرص الانتقام لن تتأخر كَثيراً وَالتنسيق بين أطراف محور المقاومة على أشده وقد نشهد -بتأييد الجبار- عمليات مشتركة تؤلم الكيان وتشفي صدور المقاومين".
وقد تحدثت العديد من التقارير عن تنسيق جارٍ وعالي المستوى بين أطراف محور المقاومة بشأن الرد على العدوّ الصهيوني.
وتشير هذه التأكيداتُ بوضوح إلى أن المحورَ يعدُّ لعمليات نوعية بتكتيكات مفاجئة تتضمن اختراق الدروع الدفاعية الدولية والإقليمية التي يحشدها العدوّ حول نفسه، حَيثُ بدأت الأنظمةُ العربية العميلة بالحديث عن عدم السماح باستخدام أجوائها للعمليات العسكرية (بعد أن فتحت تلك الأجواءُ للطائرات الأمريكية والإسرائيلية) وزار وفدٌ أمريكي رفيعُ المستوى السعوديّة خصيصًا لبحث التصعيد بين اليمن وكيان العدوِّ، بحسب ما كشف موقع "أكسيوس" الأمريكي قبل يومَينِ، ومن نافلة القول أن القواتِ الأمريكيةَ والبريطانيةَ والأُورُوبيةَ قد دفعت بكل إمْكَاناتها أَيْـضاً للتصدِّي لردِّ محور المقاومة.
ووَفْــقًا لذلكَ؛ فَــإنَّ رَدَّ محور المقاومة قد يتضمَّنُ إدخَالَ أسلحة نوعية جديدة، بالإضافة إلى تكتيكات اختراق الحواجز الدفاعية؛ الأمر الذي سيضاعفُ وَقْعِ الرد وتأثيره على العدوّ حاضرًا ومستقبلًا ويبعثِرُ الكثيرَ من حساباته وتقديراته بشأن محور المقاومة.
بعبارة أُخرى، يمكن القولُ إن محور المقاومة قد أخذ على عاتقه تنفيذَ ضربة (أو عدة ضربات) يكونُ من مفاعيلها المباشرة عدمُ قدرة العدوّ على إخفاءِ تأثيرها الكبير وما تمثّله من تحوُّلٍ استراتيجي في مسارِ الصراع.
المسيرة
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
إقرأ أيضاً:
دلالات الرد الإيراني والانهيار الصهيوني
أثبتت إيران، مرة أخرى، أنها قوة إقليمية ينبغي أن يحسب لها الجميع ألف حساب، ليس فقط على الصعيد العسكري إنما أيضا على الصعيد السياسي والإستراتيجي.
ما كان الصهاينة يتصوّرون أنه بعد الضربة الأولى التي قاموا بها ضدها والنتائج الأولية التي حققوها، أن القيادة الإيرانية ستتكيّف بهذه السرعة وترد بهذه الكيفية كما لو أن القيادات العسكرية والأمنية لم تمسّ بأذى.
لم تكن الضربة الصهيونية موجّهة ضد مقر سفارة كما حدث في دمشق، ولا اغتيال زعيم فلسطيني في طهران كما كان الحال مع الشهيد إسماعيل هنية، بل مسّت، وبطريقة مباشرة، أكبر القيادات العسكرية في إيران وفي جميع القوات.
كان الصهاينة ينتظرون انقلابا عسكريّا يطيح بالسلطة الحاكمة أو هكذا خططوا، أو ينتظرون انفلاتا للأوضاع الأمنية أو هكذا تمنّوا، أو زعزعة لأركان الدولة تكون بمثابة البداية لسقوط النظام أو هكذا أرادوا، فإذا بكل هذه الأهداف لا تتحقق، وبدل أن تنقسم القيادة الإيرانية على نفسها أو تتشتّت، استعادت القدرة على السيطرة والتحكّم خلال ساعات وباشرت بردٍّ غير مسبوق تجاه أهداف حسّاسة وإستراتيجية داخل الكيان الصهيوني وفي قلب تل أبيب، مازال يتكتّم عليها الإعلام الصهيوني ويكتفي بالإشارة إلى إصابة هدف كبير أو تحطيم موقع إستراتيجي أو إحداث خسائر غير مسبوقة! الأمر الذي يعني أن إيران حققت الأهداف التي تريد:
– أولا: أسكتت النتن ياهو الذي صوّر نفسه البطل القادر على الضرب حيث يريد، ومعه وضعت إيران حدا لفكرة الذراع الصهيونية الطويلة وبيّنت إمكانية قطعها بالوسائل المناسبة، فلا خوف اليوم من الضربة القاضية “الإسرائيلية” التي تستطيع تحقيق النصر في ساعات أو أيام، ذلك أنه بالإمكان الرد عليها بعد الاعتداء وبالقوة ذاتها أو أكثر والوقوف ضد كل ترسانتها العسكرية المدعومة من قبل الأمريكيين أو غيرهم.
– ثانيا: بيّنت أن الانهيار الداخلي للدول المطبّعة مع الصهاينة، إنما مردّه الدعاية الصهيونية بالتفوّق المطلق والقدرات الخارقة على الإطاحة بالأنظمة القائمة، وليس إلى قدرات هذه الدول، إذا ما جرى الاستثمار فيها، مهما كانت محدودة، بدليل أن اليمن بصاروخ واحد بين الحين والآخر استطاع الصمود كل هذه الفترة، فما بالك بدول لها ترسانة عسكرية ضخمة، وتفرض على نفسها وعلى شعوبها منطق الذل والاستعباد والاستجداء والخنوع والخضوع…
– ثالثا: بيّنت أن التطبيع ليس قدرا محتوما على المنطقة، وأن استعادة الحقوق المشروعة والسيادة الكاملة للدول ليست مسألة مستحيلة إذا ما توفرت الإرادة والاستعداد اللازمين بما تملك دول المنطقة من إمكانات، والعكس هو الصحيح؛ كل استكانة وضعف واستجداء واستعطاف والظهور بمظهر الضعيف، إنما تؤدي إلى تغوّل الطرفين الصهيوني والأمريكي وإلى إمعان في الإذلال واستنزاف غير محدود للثروات وإضعاف للموقف وانتزاع للكرامة.
– رابعا: بيّنت أن “طوفان الأقصى” كان على حق، ولولاه، لتعرّضت القضية الفلسطينية لتصفية أبدية، وقد أكد هذا الاتجاه صمود الشعب الفلسطيني غير المسبوق في التاريخ واستمراره في المقاومة إلى حد الآن رغم استخدام كافة الوسائل لهزيمته من دون جدوى، بل العكس هو الذي يحدث اليوم، الفرحة تعم الشعب الفلسطيني وخاصة سكان غزة أكثر وتعمّنا جميعا، بل تصل إلى كل مناصر للحق في العالم أجمع، باعتبار أن الظالم وجد من يواجهه، وبيّن له أن الدمار قد حلّ به في عمق تل أبيب كما كان ينشره في كل مكان في غزة.
-خامسا: بيّنت أن مساعي التفريق بين المكونات المذهبية الطبيعية في الأمة الإسلامية، إنما مآلها الفشل عندما تحين ساعة الجد، إذ اتّحد الجميع اليوم عندما اكتشفوا أن المعركة حقيقية ضد العدو الصهيوني الظالم المغتصب للأرض قاتل الأطفال بالقنابل والتجويع ومنع حتى الماء… وها هي الشعوب والحكومات الإسلامية، تكاد جميعها تقف مع إيران في ردها الاعتداء، وتتمنى لو أنها امتلكت السلاح النووي مثلها مثل الهند وباكستان، اليوم قبل الغد حتى يتوقف هؤلاء الصهاينة عن تهديدها بالتحطيم إن هي لم ترضخ ولم تستسلم.
وعشرات الأهداف الأخرى التي تحققت أو ستتحقق، نتركها للأيام المقبلة، بإذن الله، ونحن واثقون أن مساحة الأمل باتت اليوم أوسع من أي وقت مضى، اللهم انصر المستضعفين.
الشروق الجزائرية