قلت في مقالي السابق أن الوعي الديني يعد أولوية في بنية الحضارات، وهذا يعني بالضرورة أن غياب هذا الوعي أو تزييفه يدل على غياب الحضارة أو يكون نذيرًا بأفولها. وربما يبدو هذا القول عند البعض حكمًا تعميميًّا، وسيجادل آخرون قائلين إن الحضارة المعاصرة قامت على العلم وحده، وهي حضارة قد نشأت وتنامت حينما تحررت من سلطة الدين على العلم والفن وسائر أشكال الفاعليات الإنسانية.
القول هنا بأن الحضارة الغربية المعاصرة قامت على العلم وحده من دون الدين، بل قامت على التحرر من سلطة الدين، هو قول مردود عليه؛ لأن التحرر من سلطة الدين لا يعني التحرر من الدين نفسه؛ ببساطة لأن الدين في جوهره ليس سلطة أو لا ينبغي أن يتحول إلى سلطة وإلا فقد روحه وماهيته. ولذلك فإن الدين في العوالم المعاصرة المتخلفة يظل في علاقة مع السلطة: فهو إما دين يسعى إلى السلطة أو دين تستخدمه السلطة. وهذا حال كثير من البلدان العربية خلال القرن المنصرم، إذ تنامت تلك الحالة المتوترة في العلاقة بين السلطة أو الدولة من جهة والدين أو الجماعات الدينية من جهة أخرى ( كالإخوان المسلمين، والجماعات السلفية والجهادية، وداعش مؤخرًا). هذه العلاقة المتوترة بين السلطة والدين هي نقطة الضعف الأساسية التي وجدت فيها القوى الإمبريالية المعاصرة مجالًا هشًّا من الوعي يسمح بالتخلل والاختراق والتلاعب بموازين القوى الهشة! هشاشة الوعي الديني أو زيفه هو آفة أو نقطة ضعف أساسية في وجود المجتمعات وإمكان تطورها الحضاري.
الدين إذن ليس سلطة، ولا ينبغي أن يتأسس على علاقته بالسلطة. ولكن شواهد هذه العلاقة المريضة من التوتر بين السلطة والدين قد تبدت بوضوح في ثورات الربيع العربي حتى يومنا هذا. ولا شك في أن الدين يمكن قبوله كسلطة، ولكن سلطته ينبغي أن تظل سلطة روحية فحسب، بمعنى أن من يسمون برجال الدين من الفقهاء والرموز الدينية لا ينبغي أن يكون لهم شأن بالسلطة الزمنية (أي سلطة الحكم)؛ إذ لا سلطان لهم على حياة الناس، فهم يستمدون سلطتهم من استقلاليتهم وورعهم وتفقههم في صحيح الدين، وهذا مصدر قدرتهم على التأثير في نفوس الناس والحفاظ على وعيهم الديني. وفي هذا الصدد أرى من الواجب أن أشيد بنموذجين مضيئين من رجال الدين هما فضيلة شيخ الأزهر وسماحة مفتي سلطنة عُمان، فكلاهما يعبران عن سلطة الدين بالمعنى الروحي الذي أتحدث عنه هنا، وغيرهم قلة قليلة ممن يتصدون لتزييف الوعي الديني ويحفظون على الناس دينهم. ولكننا للأسف نجد أن كثيرًا ممن يسمون برجالات الدين يساهمون في تزييف هذا الوعي عن عمد أو عن جهالة. وفي هذا الصدد يمكن أن نرصد ظواهر عديدة من أشكال الوعي الديني الزائف الذي يسهم فيه هؤلاء:
هناك المتشددون باسم الأصولية ممن يكفرون المجتمع (من الجماعات السلفية الجهادية). وهناك السلفيون الذين ينكرون التأويل، ويقدمون للناس نصوصا دينية وأحاديث ضعيفة من دون تأويل لها أو إعمال للعقل فيها (فتراهم يروجون لأحاديث عن "الثعبان الأقرع الشجاع" في عذاب القبر، وعن طول أجنحة سيدنا جبريل،إلخ)، ويحولون الدين إلى شعارات دينية وأدعية، وكأن رفع هذه الشعارات وترديد هذه الأدعية يكون كافيًا وحده لبلوغ الجنة؛ وبذلك فإنهم يجردون الدين من روحه ومن معقوليته، ويجعلونه في النهاية منفصلًا عن الحياة الدنيا: أعني عن روح الدين باعتباره قوة روحية وأخلاقية داعمة للحياة. ويحضرني في هذا الصدد موقفًا لعله يكون دالًا هنا على ما أود قوله: سألني مؤخرًا مذيع معروف في برنامج شهير عن تنامي ظاهرة الإلحاد بين الشباب، فقلت: عندما يعتلي بعض الشيوخ المنابر ويقولون للناس أن سيدنا جبريل الذي رافق سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) في معراجه، له ستة أجنحة طول كل منها كالمسافة بين السماء والأرض؛ وعندما يقولون في نفس السياق أن سيدنا جبريل هو من دخل على الرسول في غار حِراء؛ فلا بد أن الشباب الغض ممن لم يستقر الإيمان في نفوسهم ووجدوا أنفسهم فريسة لهؤلاء الدعاة الجدد، لا بد أن يتساءلوا: وكيف دخل سيدنا جبريل غار حراء على النبي إذا كانت أجنحته بهذا الطول؟! إذا كان هذا هو الدين، فمن الطبيعي أن ينصرف عنه الشباب الذين يُعملون عقولهم. فالداعية هنا لا يفهم الدين، ولا يفهم أن سيدنا جبريل ينبغي تأويله باعتباره روحًا من عند الله. وقل مثل هذا في أمور أخرى لا حصر لها من أشكال تزييف الوعي الديني.
وإذا كانت مشكلة الدين في عالمنا الإسلامي- خاصة عالمنا العربي المعاصر- تكمن أحيانًا في تزييف دور الدين وروحه؛ فإن المشكلة في العالم الغربي المعاصر تكمن في تنامي نزعة التحرر من الدين نفسه؛ وفي كلتا الحالتين تصبح الروح نفسها (بالمعنى الهيجلي).. تصبح مريضة، وتُفضي إلى حالة من الإفلاس، وتفقد قواها الفاعلة والمحركة للحياة والحافظة لها. وليس ما حدث في الأولمبياد الأخيرة التي انعقدت في فرنسا ببعيد؛ إذ إن السخرية الفجة والصفيقة غير المبررة في تصوير السيد المسيح والحواريين في حفل الافتتاح، هي تعبير عن الروح الإلحادية الساخرة من الدين التي بدأت تنخر في الحضارة الغربية ذاتها. يذكرني هذا بالصورة الفوتوغرافية لسيرانوٍ Serrano بعنوان "بول المسيح" التي أثارت سخرية واستهزاء نقاد الفن، وهو ما يستدعي عندي مقولة هيجل عن "موت الفن"، بمعنى أن الفن لم يعد قادرًا على تمثل الديني والمقدس وعالم الروح عمومًا. فهل كان هيجل يتنبأ بشيء من مصير الغرب قبل إشبنجلر؟!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الوعی الدینی سیدنا جبریل التحرر من ینبغی أن فی هذا
إقرأ أيضاً:
مآخذ على المبعوث الأممي «العمامرة»..!
مآخذ على المبعوث الأممي «العمامرة»..!
د. مرتضى الغالي
“رمطان العمامرة” المبعوث الأممي للشرق الأوسط و”المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في السودان” إذا كان يظن إنه سيسهم في حل أزمة السودان بامتداحه سلطة بورتسودان الانقلابية وتقريظه لها وتبنيه لأطروحاتها التي تتجاهل حماية المدنيين ومستقبل التسوية.. إذا كان يظن ذلك فإنه لن يكون (وسيطاً مقبولاً) بل لن يكون حتى (محضَر خير).. إنما سيصبح (حجر عثرة وشنكلة) في طريق حل أزمة السودان.. ومن الأفضل له وللسودان أن يكف عن السودان مساعيه ووساطته ورحلاته.. وكان الله يحب المحسنين..!
لقد اجمع كثير من المراقبين على انتقاد الترحيب المتعجّل لهذا الرجل بخطة عرجاء قدمها “إبراهيم جابر” رجل الانقلاب ومندوب الكيزان في الجيش.. ووصفها بـ(خارطة طريق) لسلطة بورتسودان الانقلابية..!
كما انتقد هذه الخارطة وموقف العمامرة منها العديد من القوى السياسية والمدنية في السودان، حيث اعتبرت ترحيب العمامرة العشوائي بهذه (الخارطة العشوائية القاصرة) انحيازاً صريحاً لحكومة الانقلاب..!! بل لقد جاء الانتقاد لهذه الخارطة ولترحيب العمامرة بها أيضاً من دوائر إقليمية وعالمية..!
هذه (الخارطة المفخّخة) التي قدمتها سلطة بورتسودان غير الشرعية هي خارطة جانحة وفاشلة (حتى من الناحية الفنية البحتة) حيث أنها تتجاهل أطراف ومكوّنات متداخلة في النزاع المسلح.. كما إنها تتجاهل عن عمد و(بخبث أفعواني) القوى المدنية في السودان..!
وبهذا يضع العمامرة نفسه في (مركب مثقوبة) ويقف في عداء مع مكوّنات وأطراف سودانية عديدة ويظهر انحيازه لطرف واحد من إطراف الحرب هو سلطة الانقلاب والكيزان.. وهذا ليس من التقاليد المرعيّة للوسطاء الدوليين والأميين..!
فما هي يا ترى دوافع العمامرة لاتخاذ مثل هذا الموقف بكل ما فيه من عجلة تفتقر للرويّة والحياد وتمثل انحيازاً مكشوفاً لطرف دون أطراف أخرى؛ ولسلطة غير شرعية حتى في نظر الاتحاد الأفريقي ودوائر إقليمية وعالمية عديدة.. دعك من الشعب السوداني وقواه المدنية..!
هذه (الخارطة العرجاء) تمثل قولاً وفعلاً موقف تحالف السلطة الانقلابية مع جهة سياسية معلومة للجميع.. أما الشعب بنازحيه ومشرديه فهو آخر ما يمكن أن يهتم به أصحاب هذا التحالف..! لقد تجاهلت (خارطة إبراهيم جابر الكفيفة) أوضاع وحياة ومصائر 14 مليون لاجئ ونازح، كما تجاهلت حالة المجاعة التي يرزح تحت وطأتها 24 مليون سوداني حسب مصادر المنظمات الأممية والعالمية المتخصّصة.. فأين ذلك من ترحيب العمامرة وابتساماته لقادة الانقلاب..؟!
هل أصبحت منظمة الأمم المتحدة تجيز الانقلابات العسكرية على الحكومات المدنية..؟! أم أن ذلك من تخريجات العمامرة وحده… أم تراه تناسى أنه أدخل رأسه في (البُرمة السودانية) باعتباره ممثلاً لمنظمة الأمم المتحدة ولأمينها العام..؟!
هذا الرجل سبق له أن أسند تفاؤله بحل أزمة السودان على (مداميك خاطئة) ومآلات معكوسة.. مثل حكاية المرأة التي اشتكت لصديقتها عن تأخر عودة زوجها للبيت، وتوجّسها من أن يكون تزوج بإمرأة أخرى.. فقالت لها صديقتها: (تفاءلي خيراً يا زولة.. إمكن صدمتو عربية)..!
لقد كشف تصريح سابق للسيد العمامرة أنه لم يكن صريحاً أو على اقل تقدير أنه لم يكن مُطلعاً بقدر كافٍ على الأوضاع السودانية.. عندما قال إن الوضع الإنساني يسجل تحسناً نسبياً في بعض المناطق (بفضل التعاون بين المسؤولين والمنظمات الإنسانية)..! وحقيقة الأمر هو أن مسؤولي سلطة بورتسودان يعرقلون جهود المنظمات الإنسانية ويشنون عليها حرباً بغير هوادة.. بل يسرقون الإغاثة ويعرضونها للبيع في الأسواق..!
لقد تم توجيه انتقادات للعمامرة أيضاً بسبب تبنيه لفكرة العودة إلى مرجعيات ما قبل الحرب؛ حيث أن ما قبل الحرب.. هو القبول بالانقلاب العسكري على السلطة المدنية..!
كما أخذ عليه أنه رغم طول الحوار المطوّل الذي أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط لم يتحدث مرّة واحدة عن المكوّن المدني، واقتصر حديثه على سلطة الانقلاب وجيش البرهان والدعم السريع..!
نرجو من العمامرة كمبعوث أممي ألا يتعامل مع أزمة السودانية بمنطق الدول التي تناصر البرهان وانقلابه..!
ويجب ألا يفوت على الأطراف الخارجية والأممية أن سلطة البرهان (سلطة انقلابية غير شرعية) لا تحُظى حتى باعتراف الاتحاد الأفريقي..! ومع ذلك يتحدث المبعوث الأممي عن البرهان ويسميه (رئيس مجلس السيادة) في حين كان ينبغي اعتباره قائداً للجيش “بحكم الواقع المؤسف”.. حتى لو أغفلنا أن قيادة الجيش جميعها (قيادة كيزانية).. وهذه من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى تيلسكوب أو إلى (مشكاة فيها مصباح.. المصباح في زجاجة)…! الله لا كسّب الإنقاذ والانقلابيين وأنصار الحرب.. حيثما كانوا..!
[email protected]
الوسومالأمم المتحدة الإنقاذ البرهان السودان الشرق الأوسط د. مرتضى الغالي رمطان لعمامرة سلطة بورتسودان الانقلابية مجلس السيادة