أنتمي إلى جيل كان يحلم بوطن عربي موحد حول قضيته المركزية (فلسطين)، نحن جيل عاصر الهزائم العسكرية والانتكاسات السياسية، رغم ما وهب الله أوطاننا من ثروات طبيعية وإمكانات بشرية هائلة، ورغم ذلك فقد لاحقتنا الهزائم على كل المستويات، بعد أن اكتفى حكامنا وساستنا وإعلامنا بأحاديث وتصريحات راح يتناولها الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، بينما لم يلتفت إليها العالم، ونحن نشاهد صباح مساء شعبا يُباد وبيوتا تُهدم على ساكنيها، وعشرات الآلاف من الشهداء، وأضعافهم من العجزة والمشوهين وسط عجز مُذلَّ، وصمت دولي ينبئ عن تآمر معظم الدول الكبرى ذات التأثير في السياسات الدولية، بينما راح حكامنا وساستنا يتحدثون إلى العالم بخطابين متناقضين، أحدهما يلعب بمشاعر الجماهير الغاضبة، والآخر خلف الغرف المغلقة يخاطبون فيه الدول ذات التأثير في السياسة الدولية بلغة تساوي بين القاتل والمقتول، حينما يتحدثون عن تعاطفهم مع الأسرى الإسرائيليين مقابل وقف إطلاق النار، بينما تواصل إسرائيل إبادة شعب بأكمله بهدف القضاء عليه، والدفع بما بقي منه لكي ينزح من أرضه، يحدث كل هذا بينما ساستنا وحكامنا وأصحاب القرار منا يعيشون حياتهم الطبيعية في قصورهم ويصطافون في منتجعاتهم، لعلهم يعتقدون أن النيران بعيدة عنهم.
لم يلتفت حكامنا إلى المشروع الصهيوني الكبير (إسرائيل الكبرى) الذي استمد فيه المنظرون الإسرائيليون فكرته من كتبهم التي يعتقدون أنها مقدسة، وأن الله قد وعدهم بدولتهم الكبرى من النيل إلى الفرات، كنت أعتقد قبل المذابح الأخيرة على غزة أن ما يقال في أدبياتهم الدينية والتاريخية مجرد أوهام لا يتصورها العقلاء إلا أنني تابعت طوال الأشهر الماضية ما يدلي به المتطرفون الإسرائيليون وهم يرددون الحديث عن دولة إسرائيل الكبرى، وأن المجتمع الإسرائيلي في معظمه يعيش منتظرا لحظة الانتصار الأخير، بينما نحن في عالمنا العربي المهزوم والمنكسر نتسول مجرد اتفاق لوقف إطلاق النار ولا نملك مشروعا عن اليوم التالي لوقف الحرب، ولم ننتبه إلى مشروع إسرائيل الكبرى، التي قد يكون من الصعب عليها احتلال كل أقطارنا العربية، لكن بات واضحا أن ما لم تستطع ضمه إليها بالقوة فسوف تجتاحه بالسياسة والاقتصاد في ظل هيمنة كاملة على كل أقطارنا العربية، يحدث كل ذلك ونحن ما زلنا نتقاتل ونفتعل الخصومات والضغائن بين بعضنا البعض.
أتساءل كل يوم كيف ينام حكامنا، ويأكلون ويشربون ويتسامرون وهم يرون رأي العين جزءا غاليا من أهلنا وهم يقصفون بالطائرات والصواريخ الذكية، ويستشهد كل يوم مئات الأطفال والنساء تحت الأنقاض؟ إذا كنا قد عجزنا عن حماية أهلنا في غزة عسكريا، أليس في استطاعتنا أن نوظف أموالنا ونفطنا وعلاقاتنا الدولية في الدفاع عن قضية عادلة اهتز لها ضمير العالم الحر؟ ألا يوجد من بين حكامنا بعلاقاتهم ومصالحهم الاقتصادية من يستطيع أن يسجل موقفا تاريخيا مع الولايات المتحدة الأمريكية التي يتبارى مرشحوها في الانتخابات القادمة في المزايدة دفاعا عن إسرائيل وتزويدها بما تحتاجه من أسلحة فتاكة تودي بحياة شعب لا حول له ولا قوة، ونتباهى بجامعتنا العربية وأن لدينا منظمة المؤتمر الإسلامي وبعلاقتنا الثنائية مع كل دول العالم، وقبل ذلك كله المنظمات الدولية التي لم نستطع التأثير فيها بمجرد قرار وقف الحرب، الذي اعترضت عليه الولايات المتحدة ذات الهيمنة الكبرى على معظم دول العالم؟
الأزمات الصعبة في حاجة إلى قرارات صعبة تتناسب وحجم الدمار الذي يتعرض له الشعب العربي في فلسطين، وأنا على ثقة بأن إسرائيل قد نجحت في اختبار ضعفنا وهواننا وانتكاساتنا وقلة حيلتنا، ولن ينج قطر عربي واحد، وستدفع شعوبنا أثمانا باهظة سوف يسجلها التاريخ الذي لا يرحم، وإذا ما بقينا على هذه الحال فسوف تجتاح إسرائيل أوطاننا ولن ترحم شعوبنا، التي لو كان القرار بيدها لكانت النتائج مختلفة، والغريب فيما يحدث أن بعض إعلامنا والبعض من ساستنا يلقي باللائمة صباح مساء على من يدافعون عن أرضهم، ولم يخجل بعضهم من الاستقواء بأمريكا وإسرائيل والتشفي في أهلنا في غزة، وهم يستشهدون تحت الإنقاض وعلى قارعة الطريق.
إذا كان حكامنا قد فشلوا في الدفاع عن أهلنا في فلسطين فماذا عن موقفهم مما يحدث في السودان؟ إنهم لم يكتفوا بترك السودانيين يقتل بعضهم بعضا، بل راح البعض منا يزيد النار اشتعالا، حينما يدعمون فريقا ضد الفريق الآخر، السودان هذا البلد الكبير بإمكاناته الطبيعية وشعبه الطيب الكريم، هل بذلنا من الجهد والمال ما يكفي لحماية السودان الذي يحترق، وقد تشرد الكثيرون من شعبه داخليا أو إلى دول الجوار، أليس من بين حكامنا من يستطيع وقف هذه المأساة التي أدخلت السودان إلى أتون حرب أهلية راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف سوداني وأضعافهم من المشردين والمهجرين وعابري الحدود إلى دول الجوار؟ أليس من بين حكامنا من لديه القدرة على حل المشكلة الليبية التي قسمت الوطن إلى وطنيين وربما أكثر؟ بم يشعر حكامنا وهم يشاهدون كل الوطن العربي وقد اشتعلت النيران في كثير من أقطاره؟ الخطر قادم لا محالة، ماذا نقول لأبنائنا وقد عشنا كل هذه المآسي؟ هل نقول لهم: إننا فعلنا قدر استطاعتنا ولم ننجح؟ هل نقول لهم: إننا استطعنا حل ولو مشكلة واحدة من مشاكلنا المتراكمة؟ هل نقول لهم: لقد اكتفينا بغلق أبوابنا علينا لأننا في عصر لا نملك إرادتنا ولا ثرواتنا ولا قراراتنا؟ ويبقى السؤال الأهم: ماذا أنتم فاعلون يا حكامنا والخطر يداهمنا غدا أو بعد غد؟
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هذا كل ما تغير في موقف العالم من حرب إسرائيل
لماذا الآن؟ هذا هو السؤال. لماذا الآن؟ لماذا بدأ المد يتحول فيما يتعلق بغزة بعد تسعة عشر شهرا من الهجوم المتواصل الذي كان واضحا للعيان أمام الجميع، والذي أعلنت عنه السلطات الإسرائيلية نفسها؟
يختلف التغير المشهود خلال الأسبوع الحالي في نبرة حديث قادة المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي اختلافا واضحا عن هراء الإعراب عن «الخوف»، والتأكيد لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. فالخطاب الآن يقول: إن أفعال إسرائيل «غير مبررة أخلاقيا»، و«غير متناسبة بالمرة»، وإن تهديدات قادتها «بغيضة». وبعض من هذا سوف يستمر في المستقبل. فقد ارتقت الحرب إلى مستوى الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وهذا ما لا يمكن إنكاره، ولا يمكن الدفاع عنه، ولا يمكن التلاعب فيه. كان بوسع البعض أن يجادلوا في الأمر على مدى عام ونصف العام، لكن الآن لا يمكن لأحد الوقوف إلى منبر أو الجلوس إلى مائدة عشاء والقول بحجة تسوغ قتل مائة شخص كل يوم مثلما حدث في الأسبوع الماضي، أو أن لإسرائيل أي خطة عدا ما يعلنه قادتها المرة تلو المرة إذ يتكلمون عن التهجير والاستيطان. فقد ولَّى زمان التذرع بحجة أن هذا كله يرمي إلى إزالة حماس، وتركت إسرائيل حلفاءها، مثلما قال حلفاء لها في وسائل الإعلام البريطانية، وظهرهم للجدار.
ولكن بين الإدانة والغضب فجوة، فضلا عما يحدث على الأرض؛ فعندما يتعلق الأمر بإسرائيل تكون أدوات اللوم الدولي مكسورة. على مدار الحرب باتت المنظمات الدولية، والبعثات الإنسانية، ومحاكم العدل تعد عديمة الحيلة؛ بسبب عجزها عن تحويل ما تتوصل له من نتائج إلى أفعال. والكلام وحده لا معنى له؛ فغاية أمره أنه يرتد عن القبة الحديدية التي تتمترس بها إسرائيل من العقاب. وفي كل يوم يستيقظ العالم ليواجه قيادة إسرائيلية تنتهك كل قانون من قوانين الأخلاق أو المنطق؛ فالضحايا هم المعتدون، وعمال الإغاثة الإنسانية هم المنحازون، والجيش الذي يقتل عمالا غير مسلحين في المجال الطبي هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، والأعلى هو الأسفل.
ومع أن التغير في لغة حلفاء إسرائيل الدوليين لافت للنظر؛ فسوف يكون من الخطر أن نغالي في تقدير أهمية ذلك. إذ لا يقتصر الأمر على عدم اكتراث السلطات الإسرائيلية، ولكنها تستمد قوة من الإدانة التي تثبت أن إسرائيل واقفة وحدها، ولا بد لها من الصمود؛ لأنها كالعادة تتعرض لسوء الفهم والتمييز، ولأنها محاطة بالأعداء. ثم إن هذا التغير لا يبدو فتحا عظيما إلا عند مقارنته بما سبقه. فلوقت طويل للغاية كان وصف ما يجري في غزة المستحق أمرا يستجلب تشويه السمعة بل التجريم؛ فثمة أشخاص موجودون الآن رهن الاحتجاز متهمون بوصف الواقع. وغاية القول هو أن العام ونصف العام الماضيين قد شهدا سلسلة من الفتوح التي لم تفض إلى شيء: من مظاهرات تاريخية، وتغير هائل في الرأي العام العالمي، وصراع في قلب المؤسسات السياسية والقانونية والأكاديمية في الغرب حول حق الاحتجاج على الإبادة الجماعية الجارية. حتى أصبحت فلسطين ـ وهي القضية التي كانت في حين من الدهر قضية هامشية ـ من قضايا المتن التي تكمن في القلب من السياسات والخطاب في الغرب. ومع ذلك؛ في ظل تقاعس الحكومات ذات النفوذ على إسرائيل عن العمل لم ينقذ شيء من ذلك روحا ولم يُنجِ نفسا.
غير أنه لا يزال في هذه اللحظة ما يمكن التوسع فيه ليصبح أمرا ذا معنى. فالسياسة تنزع إلى الثبات، من قبيل الحفاظ على التحالفات والوضع القائم. وتغيير ذلك يستوجب أزمة حقيقية، غير أن إسرائيل تمكنت من تصعيد حملتها على غزة إلى مستوى تجاوز حتى ذلك الحاجز العالي. وباكتفاء الحكومات بالمشاهدة بينما يتضور شعب جوعا، وتزهق أرواح أمام أعين الجميع، وتبرز ضلوع في صدور أطفال هامدين وتغور عيونهم في محاجرها؛ فإن هذه الحكومات تتعرض لوصمة التواطؤ. ولا علاقة لحرمان شعب من الطعام، وفرض هذه القوة عليه، بحملة عسكرية ذات أهداف استراتيجية لها أضرار جانبية مؤسفة، وإنما يتعلق بإنشاء جيتو عقاب جماعي. فنحن الآن شهود على كتابة فصل حاسم من فصول التاريخ. والذين يرعون هذا العمل معروفون بوضوح، وداعمون ومتعاطفون، ولكنهم يبدون الآن منزعجين من الوضع الذي يجدون أنفسهم فيه. وللزمن أيضا دوره؛ فقد طال الأمر كثيرا، وبات واضحا أنه يستحيل فرضه من خلال الاعتياد على القتل الجماعي. ولكن قد يكون هذا أيضا هو سمة الطور الراهن من أطوار حملة إسرائيل، وهو بوضوح شديد أشد همجية وسفورا في نواياه من الأطوار السابقة.
لو أن الموقف الجديد الذي يتبناه القادة الغربيون يرمي إلى اتقاء المحاسبة فهو قليل للغاية ومتأخر كثيرا؛ فقد اكتملت السجلات توثيقا بالفعل. ولو أنه يرمي إلى ردع إسرائيل عن مواصلة خططها لتقويض الحياة، وإرغام الشعب على الرحيل، وتجويع من يبقون منه وقتلهم؛ فإن هؤلاء القادة يواجهون قوة ضاربة مستعملين في مواجهتها ما لا يتجاوز البيانات الصحفية. ولا تزال الفجوة بين أفعال إسرائيل وردود أفعال العالم شديدة الاتساع تفتقر إلى التناسب. ولقد وجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالفعل إهانات لفرنسا، والمملكة المتحدة، وكندا متهما حكومتها بالوقوف في صف حماس لا لشيء عدا إقرارها بما هو واضح: وهو أن إسرائيل يجب أن تتوقف عن قتل الناس وتجويعهم. ففي أي عالم يعلن عضو في حكومة أن حكومته تعتزم محو البقية الباقية من منطقة وتهدف «بعون الرب» إلى إزالة سكانها؛ فلا يكون الرد على ذلك إلا محض تهديدات مبهمة بـ«عمل ملموس»؟ وأي رادع هو اللازم؛ لكي لا يحث مرة أخرى أن تذهب طبيبة إلى العمل ثم ترجع إلى رفات تسعة من أطفالها العشرة، وقد هلكوا بضربة واحدة؟
سوف يقتضي الأمر أكثر من مراجعة محادثات التبادل التجاري المستقبلية بين إسرائيل والمملكة المتحدة وتعليقها. فهذه الآليات وإشارات الاستنكار والاستياء الرامية إلى تحفيز الخارجين على القانون للرجوع إلى الصفوف قد حولتها إسرائيل إلى حطام واستفادت من بعدها عنها، فلا بد للإجراء اللازم أن يبدل المخاوف والافتراضات القديمة تبديلا. وأول ما يجب تبديله هو الاعتقاد السخيف بأن إسرائيل حليف يمثل عنصر استقرار في منطقة معادية، وأنها بلد يشترك مع الغرب في قيم حضارية ومن ثم يجب دعمه. والثاني هو الخوف من أن الانفصال عن إسرائيل سوف يخرب ترتيبات أمنية وتآزر تاريخي؛ فإسرائيل في نهاية المطاف قد فعلت ذلك بنفسها إذ أجهزت على ثوابت سياسية وأخلاقية عالميا وإقليميا، ولم يجارها حلفاؤها في ذلك بعد. وفور القبول بهذه الحقائق؛ فالأدوات التي يسهل استعمالها لمعاقبة البلاد جاهزة للحشد. وتبقى الولايات المتحدة هي الطرف ذو النفوذ الأكبر، لكنها ليست الفاعل الوحيد. فبلاد الاتحاد الأوروبي تمثل ثلث إجمالي التجارة العالمية لإسرائيل؛ لذا ينبغي السعي لفرض حظر. ولا بد من فرض عقوبات، لا على المستوطنين فقط وإنما على الساسة أيضا في الحكومة ممن أعانوا أولئك المستوطنين. ولا بد من احترام أحكام المحكمة الجنائية الدولية الصادرة بحق القيادة الإسرائيلية. ولا بد من تفعيل حصار يرسخ عمليا وضع الدولة المنبوذة الذي اكتسبته الحكومة الإسرائيلية منذ أمد بعيد من حيث المبدأ.
وحتى في هذه الحالة لا يجب أن يكون هذا كله إلا البداية، البداية المتأخرة إلى درجة مأساوية. وبوسع المرء أن يفسر لماذا لم يحدث شيء من ذلك حتى الآن؛ فذلك بسبب الآمال في أن يبقي دعم إسرائيل على بعض النفوذ، وبسبب المخاوف من أن يكون في اتخاذ إجراءات قوية تجزئة لإيران، وبسبب الولاء لفكرة الدَيْن التاريخي، والخوف من عالم مضطرب قد ينجم عن القطيعة مع إسرائيل. ولكن هذا العالم بات قائما بالفعل، ولم يعجّل قدومه إلا الجبن بدلا من أن يمنع قدومه.
والفلسطينيون من غزة إلى الضفة الغربية هم الذين يدفعون الثمن غاليا لهذا التقاعس، ولكن بقية العالم أصيبت أيضا بجرح غائر. ولو لم يحدث شيء فإن تفاقم هذا الجرح معنويا وسياسيا سوف يحيق بالعالم كله.