شهادة الكاتب والقيادي في حركة «فتح» نبيل عمرو التي حملت عنوان «لقاء وافتراق قمتَي الثقافة والسياسة»، ونشرت في «الشرق الأوسط» قبل أيام، عن علاقة ياسر عرفات بمحمود درويش، بمناسبة مرور 15 سنة على وفاة الأخير، تفتح الشهية لمعرفة المزيد، عن هذا الجانب الخفي من حياة أحد أنبغ شعراء العرب في العصر الحديث. حياة الأديب تدرس بكليّتها وشموليتها، وقصائده تعاد قراءتها على ضوء المعلومات المستجدّة التي غالباً ما يلقى عليها الضوء بعد مرور سنوات على الغياب.
تستّر درويش على حياته السياسية وكأنها عورة تضرّ بالشعر وجماليته، وتجرح قرّاءه، من المفترض أن تسقط بمرور الزمن، ومن حقّ القارئ على زملاء الشاعر ورفاقه في منظمة التحرير، وعايشوا تفاصيل تلك التجربة التاريخية المفصلية في الحياة العربية، أن يبوحوا بما لديهم.
بعض السُتر أشيحت، لكن ما نعرفه لا يفي بتوضيح الصورة. الوقت يمرّ سريعاً، والذاكرة يأكلها النسيان. ترك المساحات البيضاء يملأها محبو التصيد والتسلي بحياة محمود درويش العاطفية وعلاقته بالنساء وادعاء أبوته لأطفال والقرب المزيف منه، تسيء للشاعر، وصمت أصدقائه الخلّص، يُبقي علاقة القراء به منقوصة، وصورته مجتزأة في الوجدان. حذّر الباحث شكري ماضي قبل سنوات طويلة من مغبّة تحويل محمود درويش إلى أسطورة واختزاله وتحنيطه، بحيث يمنع المسّ به، كان ذلك في كتابه «شعر محمود درويش... آيديولوجيا السياسة وآيديولوجيا الشعر».
فكل أديب أو نجم، يحلو له أن يرسم لنفسه هالة خلال حياته، يتمنى لها ألا تخترق، لكن وظيفة النقاد أن يمزقوا الحجب، وواجب النائمين على الأسرار أن يقربونا من الحقيقة، ويدلوا بما لديهم، حتى وإن كان درويش قد رأى في حياته عكس ذلك، بخاصة في مرحلة ما بعد ثمانينات القرن الماضي وخروجه من بيروت، ودخوله مرحلة الكتابة الرمزية، والبعد عن المباشرة.
درويش يملك من العبقرية الشعرية الفذة، ما كان يسمح له أن يكتب عن أوسلو وعرفات وشارون بغنائية شعرية لا تصدّق، لكنه لم يرَ مصلحة فنية في ذلك، وربما أنه كما يقول عنه صقر أبو فخر «هو شجاع لكن يرتجف». فقد كتب شعراً قصص طفولته الأكثر حميمية. كتب عن حادث الباص الذي تعرض له، عن أخته التي ماتت، عن نجاته مراراً من الهلاك، عن تعرضه للغرق في البحر بسبب جهله التعامل مع الماء. نقرأ هذا في ديوانه الأخير «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، وكنا نتمنى حقاً لو أنها لم تنتهِ، وصف مدهش لطفولة وشباب عاديين. يمكنك حقاً أن تصف ما كتبه على أنه اختزال وتقطير ولغوي نادرين حين يحدثك عن أنواع الأمراض التي تعاني منها عائلته، عن الخلل في الشرايين، إلى ضغط الدم، والإنفلونزا، والخجل المزمن وصولاً إلى الفشل في الغناء.
تفتح عينيك واسعتين حين يصل لوصف تفاصيل جسده في قصيدة «لاعب النرد» ويخبرك: «لم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً!» ليست هذه القصيدة الوداعية التي ألقاها على جمهوره من ديوانه الأخير استثنائية. لمحمود درويش نبوغ لغوي خارق في قدرته على إيهامك بالنثر وهو يكتب شعراً، ويجعلك تلهو بالإيقاع، بينما هو يحكي لك عن تفاصيل يومياته في الكثير من الدواوين. هذا وافر في «ذاكرة للنسيان» و«أثر الفراشة» و«في حضرة الغياب». دواوين في غالبيتها أتوبيوغرافيا درويشية مذهلة، والترميزات السياسية فيها، حتماً تحتاج إلى من يعرف مكامنها وخلفياتها، ومقاصدها. وهذا لن نصل إليه من دون مساعدة رفاق درويش الأقرب.
في المقالة التي كتبها نبيل عمرو، وهو ذكر المزيد في كتابه «محمود درويش حكايات شخصية» واضح أن الشاعر كان مثقفاً حراً ومستقلاً، رغم علاقته الوثيقة بعرفات، وتقاضيه راتباً من منظمة التحرير. فهو أحد الأدباء العرب الندرة الذين تفرغوا للكتابة وتمتعوا بترف التمويل، ومع ذلك لم يشعر بأنه يُشترى أو يُستأجر، وأن عليه أن يرضخ، أو يبيع مبادئه. عارض الكثير من مواقف عرفات وسياساته، وحين استوجب الأمر أن يستقيل من اللجنة التنفيذية لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، فعل وعاند. وثمة من يروي أن تحويلاته المالية من منظمة التحرير شحّت، في تلك الفترة، بسبب معارضته اتفاق أوسلو وغضب عرفات منه، وأنه عاش في ضائقة في باريس، ومع ذلك لم يخفض السقف، ولم يتنازل عما اعتقده صواباً. تفاصيل كثيرة، وخبايا هي جزء من تاريخنا، وأساسية لقراءة نتاج محمود درويش الغني. فكل تفصيل في حياته الشخصية كان يتموضع على مفصل سياسي حاسم. والروايات المتعددة حين تتقاطع، هي وحدها قادرة على أن تشكل التراكم المعرفي المساند للبحث العلمي الحق.
حين سئل درويش في مقابلة تلفزيونية عام 2001: في ما يتعلق بصورتك، هل تستطيع أن تفصل بين الشعر والسياسة؟ أجاب «لا مش قادر أفصل».
ونحن كقراء وعشاق لقامة شعرية بتنا على ثقة بأنها لن تتكرر «مش قادرين نفصل»، حتى ولو أراد صاحب الشأن أن يقنعنا طوال حياته، بغير ذلك.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي ثريدز وتويتر محاكمة ترامب أحداث السودان مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة محمود درويش منظمة التحریر محمود درویش
إقرأ أيضاً:
الحرب والحياد.. وجهة نظر الرّحالة حسين حيدر درويش
حسين حيدر درويش العماني مواليد 1920م من أوائل من التحق بالمدرسة السّعيديّة في مسقط القديمة، ومنذ فترة مبكرة من حياته قرّر الحياة متنقلا بين بغداد وباكستان ودول الخليج وبعض الدّول العربيّة، وفي عام 1951م أراد أن يقرأ أوروبا عن قرب بعد 6 سنوات من الحرب العالميّة الثّانية (1939-1945م)، فارتحل إليها متأمّلا كاتبا، ابتداء من إنجلترا، ثمّ بلجيكا وألمانيا والدّنمارك والنّرويج والسّويد وفرنسا وسويسرا، فنشر تجربته ورؤيته المرتبطة بنقد الذّات مع انفتاح رؤيته إنسانيّا في مجلّة صوت البحرين، ابتداء من السّنة الثّالثة، عدد (1) و(2)، في محرّم وصفر 1327هـ/ 1952م، وحتّى السّنة الرّابعة، عدد (1)، في محرّم 1373هـ/ 1953م، بيد أنّه قدّم رؤيته الخلاصيّة المنفتحة والنّاقدة لواقعنا العربيّ مقارنة بما سمّاه «عوامل تقدّم الشّعوب الأوروبيّة» حينها في السّنة الثّانية، عدد (12)، من محرّم 1371هـ/ 1951م، وقد لخص الأستاذ حسن مدن من البحرين رحلاته هذه في كتابه «كتّاب عمانيون في مجلّة صوت البحرين»، ونشره النّادي الثّقافيّ 2023م.
وبالرّجوع إلى رحلاته ذاتها، وخصوصا في مفردة (الحرب)، نجده يسهب الحديث حولها كما في رحلته إلى ألمانيا، وقد نشر رحلته إلى ألمانيا في ذات المجلّة في السّنة الثّالثة، عدد (6)، من جمادى الآخرة 1327هـ/ 1953م، قائلا: «بدأت السّيارة تشقّ طريقها عبر الأراضي الألمانيّة حتّى وصلت إلى أول مدينة بعد اجتياز الحدود، وهي تسمّى -مونستر- Minstre، لقد أذهلني كثيرا ما شاهدته في تلك المدينة، وفي ما مررت به من القرى الألمانيّة الأخرى من الخراب والدّمار، واستولى عليّ شعور غريب وأنا أجول ببصري بين تلك الأنقاض والخرائب الّتي خلّفتها الحرب، لقد خيّل لي كأنّ ذلك حلم، إذ لم أستطع أن أتصوّر من قبل بأنّ كلمات الدّمار والخراب تحمل هذا المعنى المخيف، كنت أدخل المدينة بعد الأخرى فيبدو لي وكأنّ الحرب قد انتهت منذ يومين فحسب، وكأنّه لم ينقض عليها الآن ستّة أعوام طوال».
ويصوّر الحالة في منستر وأوسنابروك وبريمن وهمبرج من مدن شمال ألمانيا واصفا ما تركته الحرب فيها من آثار: «هذه منستر أراها رأي العين لم يبق فيها منزل واحد لم يتهشم بعض أجزائه، وهذه مدينة أوسنابروك -أسنبرُك- أصبحت مساكنها خاوية وكأنّها من آثار الغابرين كأن لم تك بالأمس منازل عامرة، وديارا زاهرة، وقصورا شامخة، وهذه بريمن المدينة الصّناعيّة الشّهيرة أصبحت أنقاضا وتلالا، ولولا تلك الأخشاب المتناثرة، والأسقف المتداعية، وهياكل الجدران القائمة؛ لغدا من المتعذّر على المرء أن يصدّق أنّه كانت تقوم في ذلك المكان مدينة صناعيّة مهمّة، وهذه همبرج -هامبورج- الّتي كانت تعتبر أعظم ميناء ألمانيّ بالأمس، وأعظم مدينة بعد العاصمة الألمانيّة، إذ كان يبلغ عدد سكّانها قبل الحرب مليونين، أمّا اليوم فقد أصبحت مدينة خاوية، أحرقت القنابل ثلاثة أرباعها، فأحالتها إلى أرض بلقع يجلّلها السّواد، وهناك شارع ممتد قرب الميناء، تأخذ السّيارة في اجتيازه نصف ساعة دون أن يرى المرء منزلا واحدا قائما فيه، لقد قيل إنّ ذلك المكان بالذّات كان مزدحما بمساكن الميكانيكيين والعمّال الذين كانوا ينتجون أسطول ألمانيا، فدمّر الإنجليز جميع تلك المساكن بغاراتهم الجويّة عام ١٩٤٣م، الّتي ذهب ضحيّتها في يوم واحد أكثر من ثمانين ألف شخص، وما زالت جثث معظمهم حتّى الآن مطمورة تحت تلك الأنقاض».
ويواصل درويش تصوير ما رآه من آثار الحرب حيث «يطوف المرء في شوارع تلك المدن أو غيرها من المدن والقرى الألمانيّة فلا يرى إلّا منازل متهدّمة، وتلالا من التّراب مكومة، وقطعا من الأخشاب مبعثرة، وأعمدة من الحديد متناثرة، وبالرّغم من أنّ بعض المنازل لم يبق منها إلّا جدران قائمة؛ غير أنّ السّكان اتّخذوا منها مأوى للسّكنى، مخاطرين بحياتهم في دخول تلك الخرائب الّتي قد تقع فتدفنهم مع أولئك الملايين الّذين سبقوهم، ما أبشع منظر تلك الخرائب المحاطة بتلال من التّراب، وفوقها عشرات من الأطفال يلعبون ويقفزون دون أن يعلموا أنّ تلك التّلال تضمّ تحتها جثث آبائهم وأمّهاتهم وإخوانهم وأخواتهم».
ويرى أنّ آثار الحرب ليست آثارا ماديّة، بل هناك آثار معنويّة ونفسيّة، فالأول يمكن أن يعمر في سنوات قلال، ولكن الثّاني يمتدّ أثره لأجيال وأجيال، «فخسارة ألمانيا -لا تنحصر- في جيشها فحسب؛ بل إنّها فقدت ثرواتها، وقسّمت أراضيها، وانحطّ مستوى معيشة سكّانها، فعبث الجنود الأمريكيون بأعراض نسائها، وارتكبوا أفظع الجرائم الخلقيّة، مخلّفين وراءهم مئات الألوف من الأطفال الّذين ليس لهم آباء ينتمون إليهم، إنّ آثار المآسي تبدو جليّة على وجوه النّساء والرّجال، بل وحتّى على وجوه الأولاد والبنات الصّغار، فالكلّ يشعر بالذّل والخذلان».
لهذا يخلص من مشاهداته هذه «إنّ كلمة الحرب لا يمكن أن يتصوّر عقباها ونتائجها، إلّا أولئك الّذين يشاهدون ويلاتها وكوارثها، ولكن هل اعتبرت الحكومات المتحاربة بتلك الكوارث والفظائع البشريّة؟ كلا، بل ما كادت الحرب تضع أوزارها حتّى بدأت فكرة الاستعداد لحرب أخرى تخامر أذهان ساسة بعض الدّول، فاستأنفوا إنتاج آلات الدّمار والخراب، ولم يعودوا يكتفون بمقدرة القنبلة الذّريّة الّتي استطاعوا أن يبيدوا بها مائة ألف نسمة من سكّان هيروشيما؛ بل إنّهم ركّزوا تفكيرهم، وحصروا أوقاتهم في اختراع أفتك الأسلحة وأخطرها وأسرعها في إبادة أكثر عدد ممكن من البشر».
والنّاس في الحروب إمّا مهيّج لهذا الفريق أو ذاك، وقلّ من يتعقّل فيها، ويدرك أنّ أضرارها تعمّ الكلّ، ومن يسعى إلى الصّلح وإعمال العقل، معتقدا أنّ الدّم واحد، وحرمة الإنسان واحدة، وهنا في تجربته التّنقليّة هذه يضرب حسين حيدر درويش بالسّويد وسويسرا، والأولى وقفت على الحياد، ولم تك طرفا في إثارة الحروب أو تشجيعها، ونتائج هذا كما يرى من خلال رحلته إلى السّويد ذاتها يتمثل في «أنّ موقف السّويد الحيادي في الحربين العالميتين ساعدها كثيرا على بناء اقتصاديّاتها، وتكريس ثروتها في فنّ البناء والتّعمير، وإنقاذها من ويلات الحرب، وما تجلبه من التّخريب والتّدمير، كما أنّه أكسب شعبها سمعة حسنة لحبّه للسّلام، وقد حقّ له أن يدعو نفسه شعبا مسالما، وفي الوقت الذي كانت فيه الدول الأوروبيّة تتخبط في أزمات اقتصاديّة خلال الحرب العالميّة الثّانية؛ نجد اقتصاديّات السّويد تخطو خطوات واسعة إلى الأمام دون أن تتأثر بحرارة النّار المشتعلة حولها، أو فرقعة القنابل المتفجرة قربها».
وأمّا سويسرا، فسعت إلى تحقيق السّلام «والشّعب السّويسريّ محبّ جدّا للسّلام، ولا يكره شيئا بقدر ما يكره الحرب، وقد استطاع أن يتجنبها زهاء 300 عام، ولا يزال متشبثا براية السّلام، ومن واجب كلّ معتد أن يكفّ عن الاعتداء على السّويسري، إذا لم يكن حبّا للسّلام، فعلى الأقل تقديرا لجمالها، فللجمال حرمة يجب أن تراعى، وللجمال حقّ التّقديس والخشوع والإعجاب».
واليوم ونحن بعد أكثر من 7 عقود من الحرب العالميّة الثّانية، وما تبعها من حروب؛ ما زال العقل البشريّ يستصغر الحروب وآثارها، ويسعى إلى إشعالها لا إطفائها، وقلّ من ينظر إلى آثارها بعقلانيّة، مع قرب العالم من بعضه، إلّا أنّ الصّراع الحيوانيّ في الحروب كثيرا ما يغلب على التّعقّل والحياد وحبّ السّلام، ولكن التّشبث بالتّعقل والحياد والسّلام يرجع أثره الإيجابيّ على الذّات والآخر، كما هو الحال في السّويد وسويسرا، والعكس صحيح كما في ألمانيا، وإن وقف غالب العالم حينها، إمّا مشجّعا لدول المحور أو دول التّحالف، بيد أنّ الحرب لا ترحم أحدا، ولا تفرّق بين أحد، حبّا لهذا الفريق، أو بغضا لذاك.