قبل أربعين سنة، ظهر إعلان في إحدى الصحف بجدة، عن شاب مصاب بضمور في العمود الفقري، يمنعه من القيام، ومرضه يزيد بمرور الوقت، ويحتاج إلى علاج في أمريكا، لكن والد المريض فقير، لا يستطيع توفير نحو مائة ألف دولار، ويرجو من أهل القلوب الرحيمة التكفُّل بنفقات العلاج.
بعد نشر الإعلان، جاء اتصال من مدينة الطائف، يقول لوالد المريض: لست مستعداً لعلاج إبنكم، ولكني سأتكفل بزواجه، فهل عنده القدرة على النكاح؟
فوجئ الأب بهذا الطلب الغريب، وسأل ابنه: ماذا ترى؟ فقال الابن: قل للمتصل على بركة الله.
بعد يومين ظهر إعلان في نفس الصحيفة أنه بناء على الإعلان الأول، فإن متبرعاً تكفل بزواج هذا الشاب، فمن تقبل به زوجاً، فإن الشاب المذكور في الإعلان، قادر على القيام بالواجبات الزوجية، وسوف يضمن المانح الصالح كافة تكاليف العرس من مهر وحفل وما يتبع ذلك، لفتح بيت جديد للعروسين.
وكان في جدة أسرة مستورة الحال( أب وزوجته وبناته السبع)، وقد اطلعت البنت الصغرى على الإعلانين، وأبدت رغبتها في أن تكون العروس، فقد حان وقت زواجها، وبدا لها أن العريس ابن الحلال الذي تنتظره. قالت البنت لأبيها: هذا نصيبي فلا تحرموني منه. حاول الأب أن يقنعها بأن الشاب معوّق، وهو يعمل جالساً، لأنه عاجز عن الوقوف على قدميه، ولكن البنّوتة أصرت على الاقتران به، ثم يقضي الله بعد ذلك ما يشاء.
فقام الأب بإجراء الاتصالات المناسبة، وجاء المانح من الطائف، وسأل والد الفتاة: كم المهر الذي تطلب؟ فقال: خمسين ألفاً. فقال المانح: هيا اعملوا الترتيبات الأخرى، والله يبارك في هذا الزواج، واتصلوا بالمأذون، وجمعوا بين الخاطب والمخطوبة وأهليهما، وتم عقد النكاح. ثم أقيم حفل الزواج.
غاب العريس عن الحلقة أسبوعا أو أسبوعين، ثم عاد للعمل محمولاً في سيارة، وبعد ذلك يجلس على كرسي في الحلقة فهو ماهر في البيع والشراء. ثم يعود محمولاً في سيارة أخ له إلى بيته، قبل المغرب، وقد جمع ما يكفيه للمعيشة وللإيجار.
أما المانح، فقد قام بما تكفّل به في بناء العش بدلاً من إنفاق المال في أمريكا للعلاج، وله ثواب نيته.
لكن الحياة قائمة على المكابدة، فقد اكتشفت الزوجة بعد إنجاب أول طفل، أن مرض زوجها وراثي، ومع ذلك صبرت واحتملت، بل واستمرت في الانجاب فقد يفتح الله باباً من حيث لا تحتسب كما قضى الاختيار والنصيب.
أما الأب، سلّم الأمر لله، ورضي بعد أن اطمأن على أن ابنته في بيت رجل رشيد مسؤول، وإذا لم يكن ما تريد، فأرد ما يكون، سيجعل الله بعد عسر يسرا.
المصدر: صحيفة البلاد
إقرأ أيضاً:
الخواجي يهدينا أفلام السينما في علبة هدايا رائعة!
يحذِّر الكاتب السعودي طارق الخواجي قرَّاء كتابه "عيون محدقة باتساع" من أنه قد يتضمَّن تلخيصات لقصص الأفلام، رغم أنه حاول بقدر الإمكان، ألا يحرق الأحداث. وينصحهم حلاً لتلك المشكلة أن يشاهدوا الأفلام قبل قراءة الكتاب، لكني لم أشعر بتلك المشكلة التي يحذر منها، رغم أنني لم أشاهد كثيراً من الأفلام التي يوردها، والسبب أن الخواجي لا يهتم بحكي التفاصيل، بل إنه لا يتحدث عن أي فيلم إلا في سياق يجمعه بعدة أفلام أخرى، أي أنه يختار زاوية للنظر، مثل تعامل السينما مع الدين، أو الوجود والعدم، أو الحياة والموت، أو الحب، أو العائلة، أو الأحلام والكوابيس، أو السجن. كما أنه يُخضِع تلك الأفلام العديدة لوجهة نظره أو للفلسفة التي ينطلق منها، ويجمعها ببراعة في عُقد الفكرة، فلا تخرج من البناء الصارم، في كل فصول الكتاب تقريباً. وهذا البناء لا يشير إلى جمود الكاتب، بقدر ما يؤكد موسوعيته، وهضمه لتلك الأفلام، بحيث تتحول في يديه إلى عجينة يشكلها كيفما يشاء أو يأخذ منها بمقادير خاصة جداً، ويمنحها مذاقها القوي.
إن نظرت إلى الفيلموغرافيا المصاحبة ستذهل من عدد الأفلام التي وردت في الكتاب، 216 فيلماً، رتبها الكاتب وصنَّفها حسب سنة الإنتاج، وهي من كل الاتجاهات تقريباً، ولا تقتصر على نوع واحد، أو منشأ واحد، وإنما تشكِّل تباينات السينما العالمية، من أفلام البدايات، بكل دعائيتها، وافتقارها لتعقيدات الفن السابع، مروراً بالتطورات التقنية للسينما وما تبعها من تغيرات فنية بالضرورة، وتباين مستواها وجمالياتها بحسب مخرجيها أو السياق العام لصناعتها.
ورغم أن الكاتب يتعامل مع تلك الأفلام بحذر، خوفاً من حرق أحداثها، كما أسلفت، إلا أن طريقته في النظر، وفي البحث، وفي إيراد المعلومات الأساسية عنها، وعن مخرجها تجعل هذا الكتاب أشبه بموسوعة حقيقية لمحبي السينما، تدفعك دفعاً إلى البحث عن أيقونات الأفلام العالمية، وهو ما جرى معي، فخلال قراءتي له، تلهفت لرؤية بعض الأفلام. كنت أتوقف أحياناً عن القراءة لمشاهدة فيلم، أو على الأقل للقفز بين مشاهده لمعاينة الجو العام له ووجوه الأبطال والأماكن وأتذوق قليلاً من الحوار، على أمل أن أعود إليه بعد أن أفرغ من القراءة. هذه النوعية المحرِّضة من الكتب، تشبه مفاتيح الخريطة، إذ تقود القارئ بوعي شديد إلى منطقة شديدة التميز من السينما، وهذا يعني أن طارق الخواجي يختصر عليه الوقت والجهد، ويرشح له نوعاً من الأعمال مضمونة الجودة، غالباً، فلا يصح أبداً أن يكون محباً للسينما بدون أن يعبر على هؤلاء المخرجين وهذه الأعمال. الكتاب أيضاً وبشكل غير مباشر لا يروج لنوع محدد من السينما، أقصد السينما الأمريكية التي تقف خلفها آلة دعاية ضخمة، وقدرة هائلة على التوزيع واحتكار أكبر شاشات العرض في كل مدن العالم تقريباً، بما فيها أوروبا، لكنه لا يقع كذلك في فخ العداء لها، فهناك مخرجون قدموا أعمالاً شديدة التميز فيها، لكن الخواجي يفتش عن الجواهر المضيئة في كل مكان، ويجمعها في موسوعته الصغيرة، وهو مطمئن إلى أنه أوجد السياق الصحيح لها، ووضعها في علبة هدايا رائعة تليق بها.
في فصل الدين والأيديولوجيات يقول الخواجي إن العلاقة بين الكاميرا والدين بدأت بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ويأتي اسم سيسل بي في المقدمة، فعلى يديه تأسست السينما الملحمية معتمداً على مرويَّات الكتاب المقدس في هندسة قصصه ضمن سياق درامي جذاب. يلفت الكاتب انتباهنا إلى أن فلسفة سيسل اعتمدت على اقتباس المضمون بشكل مباشر من الكتاب المقدس، والأفلام الملحمية ذات الطابع الإنجيلي كانت تتشارك مع الأفلام الملحمية الأخرى مثل "ذهب مع الريح" و"سبارتكوس" و"لورانس العرب" بعض العناصر مثل ظهور المجاميع في الحروب، وقصص الحب والغيرة والحسد، ثم تطورت تلك العلاقة، بحسب الخواجي، وظهرت أفلام ذات طابع عقلاني وتأملي أو نقدي، ففي "كتاب إيلي" للأخوين هيوز، يأتي الفيلم، محملاً بثيمات الدستوبيا المرتبطة بنهاية العالم، والمعضلة الكبرى تتشكل من حاجتين، إحداهما لعامة الناس، وهي الحاجة الماسة للماء، الذي يسيطر عليه السيد كارنيجي، أحد لوردات الحرب في الوسط الأمريكي المدمَّر، وهناك الحاجة التي يبحث عنها هو نفسه بكل هوس ممكن، الكتاب الذي التقطته عيناه وهو بين يدي إيلي "دنزل واشنطن" وعندما يطلب كانريجي من رجاله الاستعداد لتقفي أثر إيلي يصرخ أحد رجاله: من أجل كتاب؟ يرد كارنيجي مستفزاً: إنه ليس مجرد كتاب، إنه سلاح، سلاح موجَّه مباشرة إلى قلوب وعقول الضعفاء واليائسين، سيمنحنا السسيطرة عليهم إذا أردنا أن نحكم أكثر من بلدة صغيرة فلا بد أن نمتلكه.
يخلص الخواجي إلى أن الفيلم وإن كان يحمل صيغة تبشيرية واضحة لكنه كذلك يمارس انتقاداً عنيفاً لحالة مرتبطة بالكتاب المقدس. يتناول بعد ذلك أفلاماً مثل "الصمت" للأمريكي مارتين سكورسيزي. الذي يتتبع قصة راهبين من الجزويت اليسوعيين للتبشير في اليابان، "وأرض المعركة" الذي تدور أحداثه حول مخلوقات فضائية تحكم الأرض منذ ألف عام، وتمارس الاستعباد على البشر الهمجيين، لكن أحدهم يقرر الخروج عن نير العبودية ليحمل الخلاص لشعبه ويؤكد قدرة الإنسان على اختيار قدره. ينبِّهنا الخواجي إلى أن هذا الفيلم مثَّل خسارة فادحة للمنتجين، وكذلك ألحق ضرراً كبيراً بسمعة كوري ماندال فقد عُرف بأنه معلم محترف في كتابة السيناريو، وكذلك شكل ضربة قاصمة لممثله الرئيسي جون ترافولتا، ثم يصل الخواجي إلى فيلم "الرسالة" لمصطفى العقاد، والمشكلة التي وقع فيها وهي عدم إمكانية ظهور النبي صلى الله عليه وسلم أو أي أحد من العشرة المبشرين بالجنة بصورهم أو أصواتهم أو حتى ظلالهم، مما جعل العقاد يختار حمزة بن عبدالمطلب كشخصية رئيسية للفيلم، ثم يتتبع المشكلات التي جرت للعمل وعلى رأسها الاحتجاجات التي صاحبت عرضه في أمريكا، حتى عرضته مصر على القناة الأولى لتلفزيونها الرسمي عام 2017، وسمحت السعودية بعرضه بعدها بعام في الذكرى الأربعين لإنتاجه.
يطارد الخواجي بعد ذلك الوجود والعدم في السينما من خلال أفلام عدد من المخرجين بادئاً بالمجري بيلا تار وفيلمه "حصان تورين" حيث تبدأ الحكاية بعرض طويل للحوذي وهو يقتاد الحصان نحو منزله في الريف البعيد عن المدينة، ومن هناك يتحرك الفيلم لعرض حبكته الكبرى. تدور الأحداث كما يبدو في سهل المجر العظيم في القرن التاسع عشر حيث يعيش سائق العربة مع ابنته والحصان. يتحرك الفيلم في ستة أيام تتعثر فيها حياة الأب وابنته ويزداد فيها عصيان الحصان بشكل واضح رافضاً الأكل والشرب ومغادرة الإسطبل، مع عاصفة تهب بشكل متصل وعنيف في المساء يزور الأب جاره برنهارد لشراء البراندي ويخبره بأن المدينة تدمرت وأن النهاية قريبة وأن الإنسان هو سبب كل المصائب التي تحل. في اليوم الثاني تشتد العاصفة ويتناوب الأب وابنته الجلوس عند النافذة ويأكلان البطاطس المسلوقة في صمت. في اليوم الثالث تصل مجموعة من الغجر الرومانيين ويشربون من بئر العائلة دون أخذ الإذن من الأب أو ابنته فيطردهم الأب، لكن وقبل مغادرتهم يحذرانهما بأنهما سيعودان للشرب من البئر مرة أخرى. تتطور الأحداث ويسيطر شعور بالنهاية يطال الحصان في البداية ثم يتسرَّب للابنة ثم الأب وفي النهاية تأتي الخاتمة بشعور هائل، كستارة تُقفَل على مسرحية. العدم يأتي ليسيطر على الشاشة وكأنه يقول: هذه هي الحياة بكل بساطة، النهاية قريبة جداً سواء كنت ممدَّداً على سرير لا تعي شيئاً أو جالساً عند نافذة تتأمل الوجود وهو يذوي. لقد جاء العالم في ستة أيام ويبدو أن زواله بحسب رواية الفيلم سيكون في ستة أيام! وفي فصل "السجن والحرية" يقول الخواجي: لو تأملنا السينما من علو سنجد أننا ننظر إلى قطاع عريض من الأفلام التي تطرح فكرة الأخ الأكبر من خلال إلقاء الضوء على حكومات حديثة معاصرة في أفلام عن أجهزة المخابرات، مثل فيلم توني سكوت "عدو الدولة" وسلسلة أفلام "بورن" أو حكومات دستيوبية مثل سلسلة "ألعاب الجوع". يؤسس الخواجي لهذا الفصل بفيلم "برازيل" للبريطاني تيري غيليام الذي يقتبس بشكل حر من رواية أورويل مما يجعل هذا الفيلم استثنائياً خارج الفكرة التي يعرفها معظم القراء الذين قرأوا رواية "1984" واختبروا أجواءها. إن غيليام، كما يذهب الخواجي، يضيف بطريقته الخاصة جواً أشد قتامة وأكثر صرامة من خلال التركيز على شخصية سام لاوري "جوناثان برايث" الموظف البسيط في الحكومة المتغولة.
هذه اقتباسات بسيطة جداً من ذلك الكتاب الشيِّق الذي عشت معه ساعات من المتعة، وأظن أنني سأعود إليه كثيراً لأبحث عن اسم فيلم أو مخرج أو عام صناعة هذا العمل أو ذاك.