لم تكن مفاجأة إصدار رواية غير منشورة بشكل كامل للكاتب الكولومبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز (1927 – 2014)، لأن الكاتب سبق أن أعلن عن عمل روائي جديد في عام 1999، ثم نشر فصلاً منه في صحيفة "الباييس" الإسبانية في مايو/أيار عام 2003.

وقد ترجمه وقتذاك الكاتب العراقي نجم والي للعربية ونشره في صحيفة الحياة اللندنية، وبدا الأمر إعلانا رسميا للقرّاء، من كافة اللغات، بأن صاحب "الحب في زمن الكوليرا" (1985) يعمل على المراحل الأخيرة من رواية جديدة، وبالتالي لن تكون روايته "ذاكرة غانياتي الحزينات" هي العمل الروائي الأخير له.

ولكن وفاة ماركيز في عام 2014 بمرض الالتهاب الرئوي، ومضي أكثر من 10 سنوات على نشر فصلين فقط من مخطوطة الرواية تلك، جعل تصريح وكلائه بأن ماركيز أنهى "المسودة الخامسة والأخيرة من عمله الجديد"، مخيّبا لآمال محبيه الذين كانوا ينتظرون ذلك العمل بشغف كبير.

الأديب الحائز على جائزة نوبل غابرييل غارسيا ماركيز خلال حفل توزيع جوائز الصحافة الجديدة عام 2007 (رويترز) الورثة يتصارعون

ما زاد في خيبة أمل القراء، وجعلهم يتيقنون من أن العمل الجديد لماركيز لن يرى النور، هو صراع الورثة المستمر مع دور النشر ووكلائه، ففي أكثر من مناسبة نُشرت تصريحات بأن الورثة لن يسمحوا بنشر المخطوطة التي تركها ماركيز خلفه.

وما صدم القرّاء في أحد تصريحات الورثة، بأن سبب عدم نشر "موعدنا في شهر آب"، هو "لمصلحة غارسيا ماركيز نفسه، لأن العمل غير كامل وغير ناضج، وقد يُسيء لسمعة ماركيز وإرثه الأدبي!".

ربّما هذا التصريح، وتكرار مسألة عدم اكتمال وعدم نضج المخطوطة حتى يتم نشرها، قد جعل هناك استعدادا سلبيا بعد نشر الرواية للعديد من النقّاد الذين صاروا يبحثون خلال قراءة صفحات الرواية القصيرة، أقل من 100 صفحة، بعد صدورها في أكثر من 30 لغة في عام 2024، عن الهنّات التي قد تدلّ على "خرف ماركيز الأدبي" أو تدخّلات ورثته ومحرري كتبه.

وعند العودة إلى تصريحات كريستوبال بيرا، مُحرّر هذه الرواية ومذكراته "عشتُ لأروي" (2002)، الذي تواصل معه ورثة ماركيز، ورأوا "ضرورة نشر رواية "موعدنا في شهر آب" في الذكرى العاشرة لرحيل صاحب الرواية العظيمة "مائة عام من العزلة" (1967)، نجد أن ماركيز ربّما تسرّع أصلاً في نشر روايته السابقة "ذاكرة غانياتي الحزينات".

وقد كتب كريستوبال أن مونيكا ألونسو (سكرتيرة ماركيز الخاصة) عثرت أثناء تفقدها لأدراج المكتب على ملف يحوي مخطوطتين: الأولى تحمل عنوان "هي" والثانية عنوانها "موعدنا في شهر آب".

ومنذ أغسطس/آب من عام 2002 وحتى يوليو/تموز من عام 2003 انكب ماركيز على العمل بكثافة في مخطوطة "هي"، التي تغير عنوانها، وقت نشرها في عام 2004، وأصبح "ذاكرة غانياتي الحزينات". وهذا العمل كان آخر عمل إبداعي ينشره ماركيز وهو على قيد الحياة.

ربما كتب ماركيز رواية في جزأين، أولاهما بعنوان "هو" والتي تتحدث عن الحب والمغامرات في حياة رجل كبير في السن، وصدرت بعنوان "ذاكرة غانياتي الحزينات، وثانيها بعنوان "هي" تتحدث عن امرأة في خريف عمرها تقع في غراميات غير مُخطّط لها، وصدرت الآن بعنوان "موعدنا في شهر آب"

رواية واحدة أم اثنتان؟

ربما كتب ماركيز رواية في جزأين، أولاهما بعنوان "هو" والتي تتحدث عن الحب والمغامرات في حياة رجل كبير في السن، وصدرت بعنوان "ذاكرة غانياتي الحزينات، وثانيها بعنوان "هي" تتحدث عن امرأة في خريف عمرها تقع في غراميات غير مُخطّط لها، وصدرت الآن بعنوان "موعدنا في شهر آب".

ليس ما يجمع بين هذه العملين هو فقط ذلك "الموضوع" الذي يتحدّث عن الحب والغراميات في خريف العمر، رغم اتساع الفارق بين عمر الرجل (90 عاما) في الرواية الأولى، وعمر المرأة (46 عاما)، في الرواية الثانية، بل ما يجمعهما هو لغة ماركيز المميزة، كعلامة فارقة تدلّ عليه، وسرده المتدفّق.

فلو أننا وضعنا الروايتين في كتاب واحد، وذلك ما لن يوافق عليه ماركيز أبدا، سيبدو الأمر مثل تشريح سرديّ للغرام والمغامرات الجسديّة والحسّية في خريف العمر لكلا الجنسين.

وهذا ما سيجعل الأمر برمّته مثل كتاب تحليليّ، وحتى مدرسيّ، أكثر منه كتابا سرديا، لموضوع تم تناوله في روايات كثيرة سابقة، وإن ليس بهذا التحديد، وربما هذا ما منع غارسيا ماركيز من نشر الروايتين في رواية واحدة.

الأديب الكولومبي الراحل غابرييل غارسيا ماركيزخلال ندوة عام 2008 (رويترز)

وقارئ هذه الرواية "موعدنا في شهر آب" سيقع في نفس الصدمة التي صادفته عند قراءته لـ "ذاكرة غانياتي الحزينات"، التي صنفها العديد من النقّاد بأنها "أخفّ" أعمال ماركيز خلال حياته الأدبية.

وأولئك النقاد يتذكّرون جيدا بأنه لا يوجد طريقة واحدة كتب بها حامل جائزة نوبل للأدب في عام 1982 جميع أعماله السابقة. فهو كتب بطريقة بوليسية تشويقيّة، مثل "وقائع موت معلن" (1981)، وبطريقة واقعيّة، مثل "ليس للكولونيل من يكاتبه (1961) و"في ساعة نحس" (1962) و"جنازة الأم العظيمة (1962).

ما يجمع كل أعمال ماركيز هي لغة ماركيز، وجملته المليئة بالصور والعبارات التي تجعل القارئ يغرق في أعماله،

وقد جعلته هذه اللغة أحد أكبر روّاد الواقعية السحرية أو الغرائبية في العالم

وكتب بطريقة الملحميّة الشعريّة النثريّة، مثل "الجنرال في متاهته" (1989)، وبطريقة الواقعيّة السحرية، مثل "مائة عام من العزلة" و"الحب في زمن الكوليرا"… ولكن ما يجمع كل أعمال ماركيز هي لغة ماركيز، وجملته المليئة بالصور والعبارات التي تجعل القارئ يغرق في أعماله.

وقد جعلته هذه اللغة أحد أكبر روّاد الواقعية السحرية أو الغرائبية في العالم، رغم أن الكاتب المكسيكي خوان رولفو (1917 – 1986) صاحب الرواية العظيمة واليتيمة "بيدرو بارامو" يُعتبر -بها- أبا للواقعية السحرية التي وسمت، فيما بعد، كتابات كُتاب عديدين من أميركا اللاتينيّة، وثبّتتها كأحد أساليب الكتابة السرديّة.

في كل الأحوال يُعتبر صدور أو نشر أي شيء من كتابات غارسيا ماركيز، سواء أكان ذلك قصة أو رواية أو مقالة أو مقابلة غير منشورة، حدثا أدبيا في كل أنحاء العالم تقريبا، وسرعان ما يُرحب القرّاء والكتّاب ودور النشر حال صدوره، ويحتل مكانته في سلم أعلى الكتب مبيعا وقراءة

موعدنا في شهر آب

في كل الأحوال يُعتبر صدور أو نشر أي شيء من كتابات غارسيا ماركيز، سواء أكان ذلك قصة أو رواية أو مقالة أو مقابلة غير منشورة، حدثا أدبيا في كل أنحاء العالم تقريبا، وسرعان ما يُرحب القرّاء والكتّاب ودور النشر حال صدوره، ويحتل مكانته في سلم أعلى الكتب مبيعا وقراءة.

ويأتي إصدار روايته الأخيرة هذه، التي ترجمها إلى العربية المترجم السوري وضّاح محمود وصدرت عن دار التنوير، واختيار الذكرى العاشرة لرحيله كمناسبة حدثا احتفلت به تقريبا كل لغات العالم.

والرواية تتحدث عن "آنا مجدلين باخ" التي، ومنذ دفن جدتها في جزيرة بعيدة عن مكان سكنها وسكن جدتها، كانت تذهب في كل عام لزيارة قبر جدتها، ووضع باقة من الأزهار على قبرها، وتقع في علاقة غراميّة في كل مرة تذهب إلى هناك، وتكتشف في النهاية، أو تُخمّن، سبب طلب جدتها أن تُدفن في تلك الجزيرة البعيدة بالذات.

غرافيتي للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أثناء جولة في أحد أحياء العاصمة بوغوتا (الفرنسية)

كانت آنا مجدلين باخ "تقوم بتلك الرحلة في الـ16 من شهر آب من كل عام، في الساعة نفسها، مستقلّة سيارة التاكسي نفسها، مارّة ببائعة الأزهار نفسها، وصولاً إلى المقبرة البائسة نفسها تحت الشمس الحارقة، وذلك لتضع باقة من الزنابق الطرية على قبر أمها. وبعد أن تُنهي مهمّتها لا يعود لديها ما تفعله حتى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي، موعد انطلاق العبّارة الأولى في رحلة الرجوع".

الرواية تتناول 5 زيارات لقبر والدتها، وفي الزيارة الثالثة تقضي ليلة غرامية مع رجل لا تعرفه، بل ولا تعرف اسمه أو مكان إقامته، وفوق ذلك يترك لها، داخل رواية كانت جلبتها معها، ورقة 20 دولارا، فتشعر بإهانة بالغة.

وفي الزيارة الرابعة تقرّر، بعد إنهاء طقوس زيارة المقبرة، البحث عن ذلك الرجل، ربّما لترد عليه إهانته. وعندما لا تجده تجد شخصا آخر فتقضي ليلة غرامية معه. ولكن ستتعرف على الرجل من شاشات التلفزيون، لأنه قاتل خطير ومطلوب للعدالة.

خلال تلك الزيارات المتكررة في كل آب تتحطّم علاقتها مع زوجها، وهما اللذان عاشا 27 عاما من تجربة الحب والزواج الناجحة. فالرواية، رغم قصرها، تتحدث عن زوجها الموسيقيّ الشهير، وولديهما، ووالديها، وعن آنا وصديقاتها والجزيرة.

في الزيارة الأخيرة يحدث لها نفس الأمر، ولكنها تقرّر أن تعود برفات والدتها معها إلى البيت، لتدفنها في مقبرة قريبة من البيت، وبعيدة عن تلك الجزيرة، التي عاشت أمها فيها غراميّاتها السرية مع رجل آخر غير زوج.

ربما أخرجت، من القبر الذي في الجزيرة، ما تبقى من والدتها، لكي لا تعيش هي تجارب غيّرت ليس فقط حياتها الزوجية، بل غيّرت شخصيتها نفسها، ولكي تعود لبيتها وولديها وزوجها الذين لم يعلموا أيّ شيء عن غراميّاتها المرتجلة في تلك الجزيرة في كل عام تذهب فيه إلى ذلك المكان.

بعملها هذا، وهو نقل رفات والدتها وعدم وجود قبر لها في تلك الجزيرة، تقوم الابنة بتحطيم عنوان الرواية "موعدنا في شهر آب" والاستغناء نهائيا عن أداء دور أفرزته حياة وسيرة والدتها، ولم يكن بقرار شخصيّ منها، وبعد تلك الزيارة ما عاد هناك موعد في كل آب من كل عام.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات تلک الجزیرة ة السحریة تتحدث عن فی خریف أکثر من فی عام کل عام

إقرأ أيضاً:

قصة رواية بلغت العشرين

فيما كنت منشغلا بكتابة روايتيّ الرابعة والخامسة، تحولت غرفة مكتبي من حولي على نحو غامض إلى دغل منزلي صغير. فأينما نظرت إذا بي أمام جبال متربة من الصفحات المكتوبة، وأبراج متداعية من الملفات.

غير أنني، في ربيع عام 2001، بدأت العمل على روايتي الجديدة بطاقة متجددة، وقد أعدت تجديد الغرفة بالكامل وفقا لمواصفاتي الدقيقة. فباتت لدي أرفف حسنة الترتيب، بالغة حتى السقف، وبات لديّ ما أردته لسنين، أعني مسطحين للكتابة يلتقيان في زاوية قائمة. بدا مكتبي أصغر مما كان عليه من قبل (وطالما راقت لي الكتابة في الغرف الصغيرة، موليا ظهري للإطلالة)، لكنني سررت به سرورا طاغيا. وقد أقول لمن يبالي بالسؤال إن الأمر أشبه بمن يأوي إلى مقصورة في قطار نوم فاخر من قطارات الماضي البعيد، فلم يكن عليَّ من جهد إلا أن أدير مقعدي لأجد بين يديّ ما أحتاج إليه.

وكان من الأشياء الواقعة في نطاق يدي بسهولة صندوق ملفات على الرف الواقع إلى يساري مكتوب عليه «رواية الطلبة»، وفيه ملاحظات مكتوبة بخط اليد، ومخططات عنكبوتية، وبعض الصفحات المطبوعة من محاولتين سابقتين - إحداهما في عام 1990 والأخرى في عام 1995 - لكتابة الرواية التي ستصبح في ما بعد «لا تدعني أرحل أبدا». وفي كلتا المرتين هجرت المشروع ومضيت لأكتب رواية لا علاقة لها ألبتة.

لا أقول إنني كنت كثيرا ما أرغب في إنزال الملف، فقد كنت أعرف ما فيه. ولم يكن لـ«طلبة» روايتي جامعة تقع على مقربة منهم في أي جهة، ولا كانوا يشبهون الشخصيات التي قد نصادفها في «التاريخ السري» مثلا أو «الروايات الجامعية» لمالكوم برادبيري وديفيد لودج. والأهم أنني كنت أعرف أنهم سوف يشتركون في مصير غريب من شأنه أن يقصف أعمارهم، ولكنه سوف يجعلهم أيضا يشعرون أنهم شديدو التميز، بل أنهم أرقى ممن عداهم.

ولكن أي مصير هو هذا «المصير الغريب»، وأي بُعد ذلك القادر على أن يمنح روايتي طابعها الفريد؟

ظلت الإجابة تراوغني طوال العقد السابق. خايلتني أفكار تتعلق بفيروس، أو بالتعرض لمواد نووية. بل إنني حلمت بواقعة سريالية لشاب يسافر متطفلا، في آخر الليل، على طريق سريع غارق في الضباب، يرفضه رتل مركبات ثم يجد نفسه في مقطورة تحمل صواريخ نووية في الريف الإنجليزي.

وبرغم هذه الزخارف، ظللت غير راض. وظلت كل حيلة أتوصل إليها تبدو أشد «مأساوية» مما ينبغي أو أشد ميلودرامية، أو تبدو ببساطة فكرة سخيفة. لم يتفتق ذهني عن شيء يضاهي ما تحتاج إليه الرواية التي شعرت أني أكاد أراها أمام عيني في ضباب خيالي.

لكنني، في عام 2001، رجعت إلى المشروع، وقد بت أشعر أن شيئا مهما تغير، ولم يكن ذلك الشيء غرفة مكتبي وحسب.

**

نشأت، قارئا وكاتبا، تحت تأثير برامج الأدب الجامعية في سبعينيات القرن العشرين والمشهد الروائي في لندن الثمانينيات. كانت فترة مثيرة لطموح أدبي كبير، سمتها الانفتاح على التيارات العالمية وما بعد الكولونيالية. لكنها أيضا كانت معادية، وفي أفضل الحالات متعالية على الأعمال التي يبدو فيها مظهر لاستلهامها من الأدب النوعي «الشعبي». بدا الخيال العلمي بصفة خاصة ملطخا بوصمة غامضة، فاقتصرت ممارسته إبداعا أو نشرا على عالمه الثقافي المغلق. وبناء على هذا، وشأن أندادي، كنت أنأى بنفسي دائما عن الخيال العلمي، موقنا أنه يفتقر إلى أي طرح يمكن أن يكون ذا صلة بطموحاتي الفنية.

ثم لاحظت في التسعينيات، متأخرا، أنني لم أعد «كاتبا شابا»، وأن جيلا جديدا، مثيرا للاهتمام ومتميزا، يظهر في بريطانيا، وهم في العادة يصغرونني بنحو خمسة عشر عاما. قرأت لبعض أولئك الكتاب فأعجبوني على بعد. وبعضهم صاروا أصدقاء.

على سبيل المثال، ألكس جارلاند (الذي كان آنذاك قد نشر حديثا رواية «الشاطئ») فبدأت وإياه نمطا -لا يزال مستمرا إلى اليوم- يقوم على اللقاء للتسكع وتناول غداء غير رسمي في مقاهي شمال لندن، وسرعان ما لاحظت أنه يستشهد دونما وعي أو تكلف بكتَّاب من أمثال جيه جي بالارد وأورسولا كيه لوجوين وجون ويندم. وكان ألكس هو الذي وضع لي قائمة بأهم الروايات المصورة التي ينبغي أن أقرأها، فعرّفني بأعمال شخصيات مهمة من أمثال آلان مور وجرانت موريسن. وكان ألكس يكتب آنذاك سيناريو فيلم سيصبح في 2002 من كلاسيكيات أفلام دستوبيا الزومبي وهو «بعد ثمانية وعشرين يوما». أطلعني على نسخة مبكرة منه وأصغيت في افتتان إليه وهو يناقش إيجابيات وسلبيات مسارات التقدم المختلفة.

وفي خريف عام 2000، خلال جولة ترويج كتب في الولايات المتحدة من المحيط إلى المحيط، تقاطع مسار رحلتي ثلاث مرات مع مسار رحلة كاتب إنجليزي شاب كان يروج روايته الأولى، وعنوان الرواية هو «بقلم كاتب شبح» والكاتب كان دفييد ميتشل، وكلاهما في ذلك الوقت كان مجهولا لدي. كنا نجد نفسينا جالسين في آخر الليل في أبهاء فنادق في منطقة الغرب الأوسط الأمريكية، شاعرين بالبرد القارس بعد فعالياتنا، متنافسين في اختيار الألحان ليعزفها لنا عازفو البيانو.

وبجانب الثرثرة عن ديكنز ودوستويفسكي، لاحظت أنه يذكر أورسولا كيه لوجوين وروزماري ساتكليف، وفيلم ماتريكس الحديث، وإتش بي لافكرافت، وقصص الأشباح القديمة المبتذلة، والأدب الفنتازي. ولما رجعت إلى الوطن قرأت «بقلم كاتب شبح» وأدركت أنني كنت أتواصل مع موهبة وحشية (وذلك تقدير شاع تماما حينما نشر «أطلس السحابة» بعد ثلاث سنوات).

زادت معرفتي بأولئك الزملاء الشبان فأثارتني وحررتني. فتحوا لي نوافذ لم أفكر في فتحها من قبل. لم يعلموني فقط ثقافة أوسع وأشد حيوية، بل لقد منحوا خيالي آفاقا جديدة.

ربما كانت عوامل آخرى من حولي آنذاك: النعجة دولي، وهي أول حيوان ثديي مستنسخ في التاريخ، وقد تصدرت الصحف في عام 1997، وتأليف روايتي السابقتين «من لا عزاء لهم» و«حين كنا يتامى» الذي لعله جعلني أرسخ قدما إذ أنحرف عن «الواقع» اليومي. وعلى أي حال، جاءت محاولتي الثالثة لـ«رواية الطلبة» مختلفة عن السابقتين.

بل إني مررت بلحظة «إلهام» كلحظة أرشميدس برغم أنني كنت تحت الدوش لا في الحوض. شعرت فجأة أني أرى أمام عيني القصة كاملة. مرقت بعقلي صور، ومشاهد مكثفة. والغريب أنني لم أشعر بالزهو أو حتى بإثارة خاصة. فكل ما أتذكره اليوم لا يعدو إحساسا بالارتياح إلى أن قطعة ناقصة قد استقرت أخيرا في موضعها، مصحوبا بشعور بالغم، مخلوطا مع ما يشبه الغثيان.

شرعت في الأمر بتجربة ثلاثة أصوات مختلفة للراوي، جاعلا كلا منهما يسرد الحدث نفسه في بضع صفحات. ولما أطلعت لورنا، زوجتي، على الأمثلة الثلاثة اختارت أحدها بلا تردد، وتوافق اختيارها مع اختياري.

عملت بعد ذلك بسرعة كبيرة، وفقا لمعاييري، في غرفة مكتبي المجددة، فانتهيت من المسوّدة الأولى (وإن في نثر أهوج شنيع) في غضون ثلاثة أشهر. ثم عملت على الرواية لسنتين تاليتين، متخليا عن قرابة ثمانين صفحة في نهايتها، ومعيدا بعض المقطاع مرارا وتكرارا.

**

في السنين العشرين المنصرمة منذ نشرها سنة 2005، أصبحت رواية «لا تدعني أرحل أبدا» أكثر أعمالي قراءة. (ومن حيث المبيعات الصرفة تجاوزت بسرعة رواية «بقايا اليوم» برغم أسبقية هذه عليها بستة عشر عاما، وفوزها بالبوكر، وفيلم جيمس أيفوري الشهير). لقيت الرواية دراسات واسعة في المدارس والجامعات، وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة. وتحولت إلى فيلم (من بطولة كاري موليجان، وكيرا نايتلي، وأندرو جارفيلد في أدوار كاثي وروث وتومي، وسيناريو رائع، طبعا، لألكس جارلاند)، وعرض مسرحي في اليابان من إخراج العظيم يوكيو نيناجاوا، ومسلسل تليفزيوني ياباني من عشر حلقات من بطولة هاروكا أياسي، وتحولت حديثا جدا إلى عرض مسرحي بريطاني كتبته سوزانا هيثكوت.

يعني هذا أن قوبلت على مدار السنين بأسئلة عن الرواية، لا في نطاق القراء وحسب، وإنما من كتّاب ومخرجين وممثلين يكافحون مع مهمة تحويل هذه القصة إلى وسيط جديد. واليوم إذ أتأمل هذه الأسئلة، يخطر لي أن غالبية هذه الأسئلة يمكن إدراجها في فئتين عريضتين اثنتين.

فد توجز الأولى في هذا السؤال: في ضوء المصير الرهيب المخيم على أولئك الشباب، لماذا لم يهربوا، أو يظهروا على الأقل بعض بوادر التمرد؟

أما المجموعة الثانية من الأسئلة الأكثر طرحا فيصعب تحديدها بعض الشيء، لكنها تصفو جوهريا إلى هذا السؤال: هل هذه رواية مقبضة محزنة، أم رواية إيجابية محفزة؟

لا أعتزم أن أحاول إجابة أي من السؤالين، من ناحية لأنني لا أريد أن أحرق الرواية في المقدمة، وايضا لأنني أشعر بالرضا، بل وبالفخر، إذ تثير هذه الرواية مثل هذه الأسئلة في عقول قرائها. غير أني أقدم التأمل التالي، فقد يكون أوضح معنى بعد إنهائكم قراءة الرواية.

يبدو لي أن هذه الأسئلة الأكثر طرحا عن «لا تدعني أرحل أبدا» تنشأ بسبب التوترات المتعلقة بهويتها الاستعارية. فهل هذه الرواية هي بمنزلة استعارة لأنظمة بشرية الصنع شريرة موجودة اليوم بالفعل -أو هي موشكة على الوجود- نتيجة ابتكارات جامحة في العلم والتكنولوجيا؟ أم هل تطرح الرواية بدلا من ذلك استعارة للظرف البشري الإنساني، والحدود اللازمة لعمرنا الطبيعي، وحتمية الشيخوخة، والمرض، والموت، والاستراتيجيات العديدة التي نتبناها لنضفي على حياتنا معنى ولنملأ بالسعادة الوقت الممنوح لنا؟

قد يكون من قوة هذه الرواية وضعفها في الآن نفسه أنها راغبة غالبا في أن تكون كلا الشيئين المطروحين عاليه في الوقت نفسه، بما يضع بعض عناصر القصة في صراع.

*

أخيرا، دعوني أكتب كلمات عن عنوان الرواية، أي «لا تدعني أرحل أبدا» وهو عنوان أغنية شاعت في الخمسينيات لـ(نات كينج كول)، وهي من تأليف راي إيفانز. ولم أكن أعرفها عند كتابة الرواية. وتصادف أن رأيت العنوان مكتوبا على غلاف شريط جاز ـ هو شريط (وحيدا) لعازف البيانو بيل إيفانز، فانجذبت إليه على الفور.

بعيدا عن بلاغته البسيطة، كان ما أذهلني في هذا العنوان هو استحالة المطلوب أصلا. فالأقرب منه للمنطق هو «من فضلك عانقني طويلا». ولكن من يناشد قائلا: «لا تدعني أرحل أبدا»، لا يطلب المستحيل وحسب، فهو يعلم ولا بد، حتى وهو يطلب، أنه يطلب شيئا يفوق قدرة أي شخص على العطاء. ولهذا وجدت تلك الكلمات شديدة التأثير، وأردت أن أدمج حزنها في صميم روايتي. لأنه يحدث لنا نحن البشر في بعض الأحيان أن نرغب، من أعماق أرواحنا، في شيء نعلم علم اليقين أنه بعيد المنال على أي شخص.

على مدار السنين، بت أدرك أن هذه الأرض، هذه الأرض المشاع القائمة بين ما نتوق إليه أشد التوق وبين ما نعلم أنه حدود المحال، هي الأرض الأحب إليّ بوصفي كاتبا.

• هذه هي مقدمة طبعة الذكرى العشرين لصدور الرواية، وقد نشرت هذه المقدمة في يونيو 2025 بموقع (ليت هب)

• ولد الكاتب كازو إيشيجورو في نجازاكي باليابان سنة 1954 وانتقل إلى بريطانيا طفلا في الخامسة من العمر. حصل على جوائز عديدة منها نوبل في الأدب.

مقالات مشابهة

  • غارسيا مفاجأة ريال مدريد السارة في كأس العالم للأندية
  • أرقام خوان غارسيا مقارنة بحراس برشلونة الثلاثة بالموسم الماضي
  • قصة رواية بلغت العشرين
  • لماذا النزوح العربي إلى الرواية التاريخية؟
  • دراجات نارية.. تتويج مارك ماركيز بلقب سباق جائزة إيطاليا الكبرى
  • ‏يافا ترتعد – السلسلة الثانية – الليلة العاشرة
  • صمتُ الذكرى في زمن الحرب.. حين ينسى الحاضر رواد الأمس
  • بمناسبة الذكرى الـ 30 لرحيله.. عرض فيلم وثائقي عن عاطف الطيب قريبا
  • بالتزامن مع الذكرى الثلاثين لرحيله.. عاطف الطيب على الوثائقية قريبًا
  • التشادي روزي جدي: الروایة العربية طریقة للاحتجاج ضد استعمار أفريقيا