عبد الخالق محجوب: جريرة الجزيرة وثأر البحيرات
عبد الله علي إبراهيم
(كلمة عن الرجل في ذكرى ميلاده السابع والتسعين بقلم واحد من عارفي فضله).
اكتنف موت أستاذنا المرحوم عبدالخالق محجوب ملابسات سياسية تكتيكية من العنف الانقلابي المضاد، والانكسار السياسي والاجتماعي، جعلت أكثر الاهتمام به يتجه إلى أسئلة تريد فض ألغاز وخفايا تلك الملابسات.

وهي أسئلة مشروعة وواجبة. فلا سبيل إلى العلم بتاريخ الرجل أو بتاريخنا بغير معرفة مدى تورط عبدالخالق والحزب الشيوعي في انقلاب 19 يوليو 1971 ذي العواقب الوخيمة. ولن يهدأ خاطر حسنيِّ النية من كل فج بغير بيان مقنع حول سلامة عقيدة عبدالخالق في المنهج الانقلابي الذي زكى لنا معارضته أول قيام البكباشي جعفر محمد نميري بانقلابه في مايو 1969. وقد بدا للناس أن أستاذنا لا يعارض الانقلاب إذا قام به شيوعيون "صرف" من مثل انقلاب 19 يوليو.
وهذه أسئلة يراها الناس طاعنة في مبدئية الرجل ومصداقيته. وقد فاقم من حرج هذه الأسئلة أن أكثر تاريخ الرجل بعد موته مما كتبه خصومه الذين استولوا على الميكرفون في عبارة مناسبة اشتكى فيها الرئيس كلينتون من جور الجمهوريين الذين خلفوه في الحكم، وراحوا يُذيعون عنه ما أرادوا. ومما زاد الطين بلة أن حزب عبدالخالق الشيوعي نفسه قد اختلط عليه الأمر بشأن تلك الملابسات التي أدت إلى قتل صاحبهم وحار في الأمر حيرة عامة الناس وخاصتهم. وضرباً للمثل: فلم يفتح الله على الحزب ببيان للناس عن ملابسات انقلاب 19 يوليو إلا في عام 1995، بعد نحو عقدين من وقوع الانقلاب. وهي فترة كافية لتستشري المعرفة المغرضة بالمرحوم عبر ميكرفونات خصومه الذين تعاقبوا على الحكم.
لن تصلح سيرة هذا الرجل المجاهد بمجرد دفع الافتراءات عنه. والخطة المثلى لاسترداد بهاء الرجل هو أن نخرج به من نفق وأضابير خاتمة حياته التراجيدية، وكيد خصومه، وتضاؤل أنصاره. والسبيل إلى ذلك هو توسيع نظرنا إليه كقائد لحركة تغيير اجتماعي ناهضة ذكية نحو العدالة الاجتماعية. وقد وقعت حركته في سياق قرن الجماهير، القرن العشرين، وهبَّاته الثورية الكثيفة. وقد أصاب تلك الهبَّات ما أصابنا. ومنها من لم يرتكب انقلاباً أو انقلاباً مضاداً: وتعددت أسباب اغتيال حركات العدالة الاجتماعية والموت واحد. ويحاول علم الحركات الاجتماعية على أيامنا هذه استنفاذ هذه الحركات، التي قصدت التغيير الاجتماعي، من أن تدفن نهائياً في ركام أخطائها المختلفة صغيرها وكبيرها. فإن تم إسدال الستار على مغازي وأهمية تلك الحركات على النحو اللئيم الذي نراه فستنحرم تيارات الاحتجاج الاجتماعي المعاصرة من عِبر حركات مثل التي قادها عبدالخالق وغيره واعتبارها.
من نافلة القول أن "كَسرة" (والمصطلح من أدب الثورة المهدية التي يقال لعام هزيمتها على يد الإنجليز في 1898 أنه "سنة الكَسرة") حركات التغيير الاجتماعي أمر دارج ومعلوم في التاريخ. ويقول منظرو علم الحركات الاجتماعية إن هذه الحركات تفشل بالطبع لعاهة في نظرها وفعلها. غير أنهم يسارعون بالقول إن أكثر فشلها يأتي من فرط قسوة العادات الاجتماعية والسياسية المحافظة لمجتمعاتها والشروط التاريخية المخصوصة التي حفَّت بنشاطها. ولن تغتني معرفة الناس بالوجود المغاير الذي يريدونه لأنفسهم بالمرابطة عند الأسئلة المثارة عن عاهة هذه الحركات وكيف جنت على نفسها مثل براقش، أو كيف سار قادتها إلى حتفهم بظلفهم.
الذي سيمكث ويفيد من فعل عبدالخالق في عصره أن ننفذ إلى الرؤى والأحلام التي غذت سيرته وحركته في أول أمره إذا أردنا لشباب أيامنا هذه أن يعتنق أحلامه السوية بالوجود المغاير ويلتزم بها. والمعلوم أن طاقة هؤلاء الشباب للحلم الاجتماعي فارغة. والفارغة لا يملأها إلا شيطان السوق والاستهلاك وشهوة التملك. فمهما قلنا عن جناية حركات التغيير الاجتماعي على نفسها فإننا لا ننكر أنها قد أبقت في عاقبتها بين الناس أثراً من رؤيتها. وفي هذا الأثر شفرة ما كان يرجوه الجيل لوطنه وشعبه ولسواد الناس منهم. وقال أحد منظري علم الحركات الاجتماعية إنك إذا نضوت عن هذه الحركات ثيابها حتى بلغت نواتها، ونفذت إلى الرغائب الجمعية التي استترت في جوهرها، فستجد أن الحرية والحب هما أصل المسألة. وقال نفس الكاتب إنه قد يجرؤ على القول إن التواثق الروحي، العروة الوثقي، التي جمعت مناضلي تلك الحركات الاجتماعية، المستمد من شاغل الحرية والحب، هو باب لم نبدأ دراسته بعد في علم الحركات الاجتماعية.
فلربما مات عبد الخالق في طيات ملابسات استعجل فيها أو أخطأ. وهذا موت واحد من سبل الموت العديدة التي تلقى راكب الصعب مثله. فجريمة المرحوم الشماء الحقة، في قول المفكر الإيراني على شريعتي عن صوفي شهيد، هي الوعي والحساسية وتقحم أمهات الأمور بالفكر والفكر بالمسائل. وقد كان عبد الخالق يعرف خطره جيداً. ألم يقل لقاتله يوم سألوه بماذا خدمت البلد، فقال "بعض الوعي". وهو "بعض" كثير قد يغنينا عن التركيز المرهق على موته لنتفحص دفتر مأثرته بفطانة.
قال شريعتي أيضاً إن علو الهمة وحذاقة الفؤاد لا تغتفر في مجتمع الجاهلين. وكما قال بوذا فمجتمع البحيرات يظل يرشق الجزيرة بالماء حتى تغرق.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: هذه الحرکات عبد الخالق

إقرأ أيضاً:

المرأة العُمانية.. ذاكرة الوطن وصانعة الغد

 

 

 

نور المعشنية

 

في السابع عشر من أكتوبر من كل عام، تحتفل عُمان بيومٍ وطنيّ مُميّز خُصِّص لتكريم المرأة العُمانية والاحتفاء بإنجازاتها، في مبادرة حكيمة أكدت عمق النظرة الرشيدة لقيادتنا تجاه دور المرأة في المجتمع. إنّه يوم المرأة العُمانية؛ اليوم الذي لا يكتفي بالتصفيق لإنجازات النساء، بل يُرسّخ مكانتهن في ذاكرة الوطن ويؤكد أن التنمية الشاملة لا تكتمل إلا بمشاركتهن.

منذ بزوغ فجر النهضة الحديثة، لم تكن المرأة العُمانية غائبة عن المشهد. فقد فتحت المدارس أبوابها لها جنبًا إلى جنب مع أخيها الرجل، لتنهل من العلم وتضع خطواتها الأولى في مسيرة البناء. واليوم، نجدها تقف شامخة في كل موقع؛ وزيرةً ترسم سياسات، وسفيرةً تُمثّل عُمان في المحافل الدولية، وقاضيةً تُنصف المظلوم، وأكاديميةً تصنع الأجيال، وطبيبةً تداوي المرضى، ومهندسةً تشيّد المشاريع، ورياديةً تبتكر فرص العمل وتنافس في سوق الاقتصاد.

غير أنّ إنجازاتها لا تتوقف عند حدود الوظائف الرسمية والمناصب العامة؛ فالمرأة العُمانية في بيتها أمٌّ ومربية، تُغرس القيم في أطفالها وتبني إنسان الغد، وفي مجتمعها متطوّعة تسهم بوقتها وجهدها في المبادرات الخيرية والتنموية، وفي الحقول والمزارع تواصل العمل جنبًا إلى جنب مع الرجل لتبقى الأرض عامرة بالعطاء.

لقد أثبتت المرأة العُمانية قدرتها على موازنة الأدوار بين البيت والعمل، بين الطموح والمسؤولية، بين الحلم والواجب. فبرغم التحديات التي قد تعترض طريقها، استطاعت أن تتحول إلى أيقونة للصبر والإصرار والنجاح، وأن ترسم صورة مشرقة لعُمان في وجدان من يلتقيها داخل البلاد وخارجها.

ويوم المرأة العُمانية ليس مجرد مناسبة رمزية؛ بل هو اعتراف رسمي ومجتمعي بأن المرأة شريك أصيل في صناعة التنمية. إنه يوم لتجديد الالتزام بتمكينها، وتوفير البيئة التي تتيح لها الإبداع، ومساندتها لتواصل مسيرتها بثقة. إن تمكين المرأة العُمانية يعني تمكين الأسرة كلها، ويعني بناء مجتمع أكثر تماسكًا وقدرة على مواجهة المستقبل.

وإذا تأملنا في تاريخ عُمان، سنجد أن المرأة لم تكن يومًا على الهامش. فقد حملت مسؤوليات جسامًا في غياب الرجل في البحر أو في ساحات التجارة، وأدارت شؤون البيت والأرض بحكمة واقتدار. واليوم، وهي تكتب فصلًا جديدًا في قصة النهضة، فإنها لا تُضيف فقط إلى صفحات الحاضر؛ بل تواصل إرثًا عريقًا من الكفاح والعطاء.

إنَّ الاحتفاء بالمرأة العُمانية هو احتفاء بالقيم التي تحملها: العطاء بلا حدود، التضحية من أجل الأسرة والمجتمع، الطموح الذي لا يعرف سقفًا، والإيمان بأن المستقبل يمكن أن يكون أجمل متى ما تضافرت الجهود. وهو أيضًا رسالة لكل فتاة عُمانية بأن أبواب النجاح مشرعة أمامها، وأن وطنها يثق بقدراتها ويمنحها المساحة لتبدع وتتميز.

فلنرفع في هذا اليوم صوت الشكر والامتنان لكل امرأة عُمانية، ولنجعل من يوم المرأة العُمانية مناسبة للتأمل في ما تحقق، والانطلاق نحو آفاق أوسع من التمكين والإبداع. فالمرأة العُمانية لم تكن يومًا متفرجة على صناعة التاريخ؛ بل كانت وما زالت ركيزة النهضة، وذاكرة الوطن، وصانعة الغد.

مقالات مشابهة

  • طرق استخراج شهادة ميلاد مميكنة
  • عجز الميزانية الأمريكية يتراجع بفعل قفزة تاريخية في عائدات الرسوم الجمركية
  • قمة الترامب.. !!
  • الغماري.. من هو الرجل الثاني بعد الحوثي؟
  • هيدي كرم تنتقد الموروثات الاجتماعية وتوجّه رسالة جريئة للنساء
  • أستاذ بالأزهر يوضح سبب الاضطراب الوجداني ثنائي القطب وتأثيره على حياة المريض
  • مصطفى بكري: المستشار محمد عيد محجوب مفاجأة القائمة الوطنية لانتخابات النواب
  • المرأة العُمانية.. ذاكرة الوطن وصانعة الغد
  • يتصدرها محمد عيد محجوب.. ننشر قائمة القاهرة لخوض انتخابات النواب
  • مصطفى بكري: «المستشار محمد عيد محجوب سيكون المفاجأة المنتظرة»