عربي21:
2025-06-27@07:46:03 GMT

روسيا وتاريخ النبوءات حول مستقبلها

تاريخ النشر: 12th, August 2023 GMT

روت المؤرخة الراحلة هيلين كارير دونكوص أنها سألت ميخائيل غورباتشوف: لماذا لم تطلب تعهدا كتابيا؟ لقد وافقت على إعادة توحيد ألمانيا واشترطت موافقتك بعدم توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) أبعد من حدود ألمانيا الشرقية، وحصلت على تعهد الأمريكيين بذلك، إذن لماذا لم تطلب تسجيل هذا التعهد كتابيا؟ فأجابها غورباتشوف: كنت أظن يا سيدتي أني أتعامل مع أشخاص حسني التربية حافظين للعهود!

هذا هو السياق الذي تنزّل فيه هيلين كارير دونكوص، أشهر الباحثين الفرنسيين المختصين في التاريخ الروسي، تطورات موقف بوتين من الدول الغربية بدء من الرغبة في التعاون والصداقة، مرورا بغزو جورجيا (موطن آبائها) فضم شبه جزيرة القرم ثم غزو أوكرانيا.

ومن طرائف تعليقاتها، كلّما وقع التعريض بعقلية بوتين التسلّطية وأساليبه الإجرامية (مثل الاغتيال والتسميم) ونشأته في عوالم الاستخبارات والتجسس، أن تقول إن جهاز الأف. اس. بي (وريث الكي. جي. بي) إنما هو مدرسة تخريج النخب السياسية في روسيا، فهو الذي رعى صعود أندروبوف وغورباتشوف وبوتين، أي أنه يعادل المدرسة القومية للإدارة في فرنسا!

كانت هيلين كارير دونكوص، التي رحلت عن هذه الدنيا السبت الماضي مناهزة الرابعة والتسعين من العمر، سليلة أسرة أرستقراطية جورجية هربت من حكم البلاشفة واستقرت في فرنسا منذ عام 1921. وقد صارت معروفة لدى الجمهور الفرنكوفوني الواسع منذ السبعينيات بفضل إطلالاتها الكثيرة في البرامج التلفزية الجادة. والملاحظ أن من الآثار الجانبية التي خلفها الغزو الروسي لأوكرانيا أنه أعاد لمهنة المؤرخ والباحث المختص في الشأن الروسي ألقا إعلاميا كان الظن أنه قد مضى بلا رجعة. إذ المعروف أن هذه المهنة، التي شاعت تسميتها بالسوفييتولوجيا أو الكرملينولوجيا، قد كانت مطلوبة إعلاميا في الغرب طيلة عقود الحرب الباردة وأن انهيار الاتحاد السوفييتي تركها فريسة أزمة وجودية سرعان ما أعقبها الاندثار. إلا أن تقلبات الزمن السياسي هذه لم تنل من هيلين كارير دونكوص، فظلت متألقة إعلاميا على مر الأزمان. كما أن من حسن الموافقات أن اختيارها لعضوية الأكاديمية الفرنسية قد وقع عام 1990، تزامنا مع بداية نهاية الحقبة السوفييتية. وبعدها بعقد واحد، صارت هي أول امرأة تنتخب لمنصب الأمين الدائم للأكاديمية.

التاريخ السوفييتي مأساة لا بالنسبة للمواطنين الذين كابدوا عذاباته فحسب، بل وحتى للغربيين الذين عجزوا عن قراءته وفهمه! ولا تزال هذه الصعوبة مستمرة إلى اليوم كانت هيلين كارير دونكوص اسما مألوفا لنا لمّا كنا تلاميذ في الثانوية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. إذ قبل أن يتاح لدارسي التاريخ منا اكتشاف ريتشارد بايبس، وستروب تالبوت، وآن أبلبوم وغيرهم من كبار الباحثين الأمريكيين المختصين في التاريخ الروسي، لم نكن نعرف إلا اسما واحدا: هيلين كارير دونكوص. فقد ذاع صيتها بعد رواج كتابها المرجعي «الإمبراطورية المتشظّية» الذي كان أشد ما يدهش فيه أنه انطوى على نبوءة (صعبة التصديق آنذاك) بقرب تفكك الاتحاد السوفييتي!

والواقع أن محاولة قراءة روسيا السوفييتية، التي وصفها تشرشل بأنها «معضلة يلفّها لغز مدسوس في باطن أحجية» قد كانت بالغة الصعوبة. ولهذا عدّ المؤرخ الأمريكي مارتن ماليا التاريخ السوفييتي مأساة لا بالنسبة للمواطنين الذين كابدوا عذاباته فحسب، بل وحتى للغربيين الذين عجزوا عن قراءته وفهمه! ولا تزال هذه الصعوبة مستمرة إلى اليوم، بدليل أن الخبراء الغربيين لا يزالون يتلاومون على أنهم أخطأوا تقدير نيّات بوتين فلم يتوقعوا غزوه لأوكرانيا.

وبما أن الأغلبية الساحقة من الباحثين والمؤرخين لم يوفقوا في تنبؤاتهم بشأن مستقبل روسيا السوفييتية، فإن الأوساط الأكاديمية والإعلامية الغربية نشطت طيلة التسعينيات في النقاش حول الباحثين والمؤرخين القلائل الذين أحسنوا القراءة وأصابوا في الحكم، وإن بتفاوت في دقة النبوءة. ويبرز من هؤلاء أربعة: الكاتب العسكري الفرنسي ميشال غاردير الذي تنبأ في كتابه «احتضار النظام في روسيا السوفييتية» (1965) بسقوط النظام عام 1970؛ والمنشق السوفييتي أندري أمالريك صاحب كتاب «هل سيبقى الاتحاد السوفييتي قائما حتى 1984؟»؛ وباحث الديموغرافيا الفرنسي إيمانويل طود صاحب كتاب «السقوط النهائي» (1976) وهيلين كارير دونكوص التي فسرت، في كتابها «الإمبراطورية المتشظية» (1978) قرب السقوط بصعود النزعات القومية في الجمهوريات السوفييتية وبتزايد النمو السكاني بين المسلمين في آسيا الوسطى.

ظلت الفتاة التسعينية تتوقد نشاطا فكريا وترأس جلسات الأكاديمية الفرنسية حتى قبل شهر من وفاتها! ومما ذكره الروائي إمانويل كارير عن أمه الأرثوذكسية أنها كانت مواظبة طيلة عمرها على قراءة فيلسوف عنابة وقرطاج، القديس أغسطينوس.
(القدس العربي)

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بوتين روسيا روسيا موسكو بوتين مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

هل كانت روسيا حليفًا متخاذلًا لإيران في اللحظة المفصلية؟

رغم معاهدة الشراكة التي وقعها الطرفان مطلع العام، فإنها لا تتضمن التزامات عسكرية مباشرة. اعلان

بعد اندلاع المواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، والتي استمرت 12 يومًا، كانت الضربات متبادلة على نحو غير مسبوق. بدأت إسرائيل الحملة الجوية بادعاء تحييد البرنامج النووي الإيراني، لكن استهدافها لقيادات بارزة وعلماء نوويين أوحى بأهداف أعمق، ربما تصل إلى حد تغيير النظام، وهو ما أفصح عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ضمنيا بدعوة الشعب الإيراني للثورة على النظام، وتلويحه بإمكانية اغتيال المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي.

التصعيد بلغ ذروته مع دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة، فشنت فجر 22 حزيران/ يونيو ضربات قوية استهدفت منشآت فوردو ونطنز وأصفهان النووية. إيران ردّت بهجوم على قاعدة العديد الأميركية في قطر، ثم انتهى التصعيد بإعلان وقف إطلاق النار. رغم الخسائر، اعتبرت طهران أنها صمدت وأثبتت قدرتها على الرد، لكن اللافت أن هذه المواجهة كشفت طبيعة تحالفاتها، خصوصًا مع موسكو.

روسيا: شريك صامت في لحظة مفصلية؟

رغم الشراكة الإستراتيجية بين روسيا وإيران، اكتفت موسكو بإدانة شكلية للهجمات الإسرائيلية، من دون تقديم دعم فعلي. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أعرب عن استعداده للوساطة، دون أن يلوّح بأي تدخل. الكرملين حذّر من محاولة اغتيال خامنئي واعتبرها "غير مقبولة"، لكنه لم يوضح كيف سيرد في حال حدوث ذلك.

حتى تهديد ديمتري ميدفيديف بأن دولاً ثالثة قد تزود طهران بأسلحة نووية بدا بلا تأثير أو تبنٍ رسمي. ووفق قناة "دويتش فيله"، فإن روسيا لم تكن تنوي أصلاً دعم إيران عسكريًا رغم تحالفهاما العميق.

مناورة بحرية مشتركة بين البحرية الروسية والبحرية الإيرانية وبحرية الحرس الثوري الإيراني في المحيط الهندي، الأربعاء 17 فبراير 2021. AP Photo

المواقف الروسية الباردة ليست جديدة. خلال الحرب السورية، سمحت موسكو لإسرائيل بضرب الميليشيات الإيرانية دون تفعيل دفاعاتها الجوية. كذلك، رغم إعلان صفقات لبيع طائرات "سوخوي 35" و"مي-28" لطهران، لم تحصل إيران فعليًا إلا على طائرات تدريب.

وعندما دُمرت أنظمة دفاع جوي إيرانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2024، لم تبادر روسيا لتعويضها، ورفض بوتين لاحقًا الإقرار بطلبات دعم جديدة من طهران.

في هذا السياق، تشير صحيفة "وول ستريت جورنال" إلى أن إيران طلبت رسميًا من روسيا تزويدها بأنظمة دفاع ومساعدة في ترميم شبكة الطاقة النووية، دون أي تجاوب يُذكر حتى الآن.

Relatedوزير الدفاع الأميركي: تسريب التقرير الاستخباراتي هدفه التشكيك في نجاح الضربة بإيران والنيل من ترامب مستذكرًا تجربة الاتحاد السوفيتي.. وزير بولندي: هكذا يمكن إسقاط حكم فلاديمير بوتينالموساد يشيد بـ"العملية التاريخية" ضد إيران ويشكر الاستخبارات الأميركية

منطق الحسابات الروسية: أين المصلحة؟

رغم معاهدة الشراكة التي وقعها الطرفان مطلع العام، فإنها لا تتضمن التزامات عسكرية مباشرة. ويبدو أن روسيا وجدت في الحرب فرصة لصرف أنظار الغرب عن أوكرانيا.

فقد استغلت انشغال واشنطن وأوروبا، وشنّت هجومًا واسعًا على كييف أسفر عن عشرات القتلى. بحسب "دويتش فيله"، فإن موسكو ترى في هذه الحرب خدمة مجانية لمصالحها في صراعها الأساسي شرق أوروبا.

علاوة على ذلك، فإن ارتفاع أسعار النفط بنسبة 15% نتيجة الأزمة شكّل مكسبًا قصير الأمد لروسيا، التي تسعى إلى التخفيف من الأعباء الاقتصادية الناجمة عن حربها الطويلة في أوكرانيا.

ووفق تحليل نشرته "ذي أتلانتيك"، فإن موسكو لا تتحمس لفكرة امتلاك إيران لسلاح نووي. إيران بالنسبة لها شريك طموح، وليس تابعًا، وهي تدرك أن تجاوز طهران للعتبة النووية سيجعلها منافسًا إقليميًا لا يمكن تطويعه. كما أن موسكو تحرص على موازنة علاقاتها مع إسرائيل والخليج، ما يجعلها حذرة من دعم عسكري مباشر لطهران قد يستفز هذه الأطراف.

في الوقت نفسه، تراجعت حاجة روسيا إلى طائرات إيران المسيّرة التي اعتمدت عليها في البداية بحربها ضد أوكرانيا، إذ باتت تصنع نماذجها المحلية وتستورد المكونات من مصادر أخرى.

التوازن الصعب

المفارقة أن روسيا تدخلت بقوة لإنقاذ الأسد في سوريا، لكنها لم تُبدِ الرغبة ذاتها تجاه إيران. بوتين عرض اللجوء للأسد بعد سقوطه ولم يتحرك عسكريًا. وسبق أن امتنعت موسكو عن دعم أرمينيا – رغم اتفاق دفاع مشترك – حين تعرضت لهجوم أذري عام 2023، ما دفع يريفان للانفتاح على الغرب.

موسكو ببساطة لا ترى في أي من هذه الساحات اليوم ما يستحق المغامرة. بالنسبة لبوتين، فإن خسارة حليف أقل كلفة من خوض حرب جديدة غير مضمونة، قد تُظهر روسيا بمظهر الضعف بدل أن تعزز نفوذها.

يتّضح أن السياسة الروسية إزاء إيران تقوم على مزيج من البراغماتية والحذر. موسكو لا ترغب بانهيار النظام الإيراني، لكنها لا ترى مصلحة في المغامرة لحمايته، خصوصًا أنه لا يتصرف على أنه تابع بل شريك ندي. في المقابل، فإن توازنات روسيا مع الخليج وإسرائيل وأولوية معركتها في أوكرانيا تجعل دعمها لطهران محدودًا، سياسيًا وعسكريًا.

في نهاية المطاف، لم تكن الحرب اختبارًا للقوة الإيرانية فحسب، بل كانت أيضًا لحظة كاشفة لحدود التضامن الروسي، وأسئلة جوهرية عن قيمة التحالفات.

انتقل إلى اختصارات الوصولشارك هذا المقالمحادثة

مقالات مشابهة

  • دول الاتحاد الأوروبي توافق على تمديد العقوبات على روسيا
  • هل كانت روسيا حليفًا متخاذلًا لإيران في اللحظة المفصلية؟
  • مكتوم بن محمد: عام هجري جديد نستذكر فيه أعظم رحلة في التاريخ
  • محافظ القاهرة يتفقد سكان عقار حدائق القبة الذين فقدوا منازلهم
  • إنفوغراف: قتلى وجرحى الاحتلال الذين سقطوا في غزة خلال يونيو
  • إيران تقيم جنازات لكبار القادة والعلماء الذين قتلوا في الحرب مع إسرائيل
  • إسحق أحمد فضل الله يكتب: الذين سوف يُقتلون قريباً من هم؟
  • علماء: مناخ أفريقيا كان مستقرا قبل 2.5 مليون عام.. وتاريخ تطور الإنسان بحاجة لمراجعة
  • المتحدث باسم وزارة الداخلية: بالتحقيق مع أحد الإرهابيين الذين أُلقي القبض عليهم اعترف بأماكن أوكار الخلية جميعها حيث تمت مداهمتها وإلقاء القبض على جميع أفرادها ومصادرة الأسلحة والمتفجرات
  • روسيا تساند إيران: اسرائيل ارتكبت جرائم الاغتيال السياسي