سودانايل:
2025-07-12@15:58:35 GMT

هل توجد طبقة أرستقراطية راقية في السودان؟!

تاريخ النشر: 27th, September 2024 GMT

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد

قد لا يخلو مجتمع ما من الطبقات، فوجود الطبقات الإجتماعية حالة ملازمة للإجتماع البشري، وتنشأ الطبقات وفقاً لنظام القيم السائد، أو لقوام العمل بما يحتويه من أدوات إنتاج. وتتفاوت المجتمعات في تكويناتها الطبقية وفقاً للعاملين السابقين بوصفهما أكبر محركين للفرز الطبقي، وتتغلغل البنى الطبقية في جذور المجتمع بحيث تصبح عاملاً محدداً للقبول الإجتماعي، أو مدخلاً للرضا النفسي والإجتماعي أو محفزاً للتمرد على بنية المجتمع عبر ما يُعرف بالصراع الطبقي Class struggle ضمن المنظومة الإجتماعية Social stratification.

. فالحراكات الإجتماعية الكبرى كالثورات على سبيل المثال وأنماط الانتاج الإقتصادي في غالب الأحيان هي التي تؤكد على حقيقة وجود الطبقات الإجتماعية وما يستتبعها إما من امتيازات أو حالات حرمان. وهذا ما تؤكده حركة التاريخ السياسي والبنى الاقتصادية وتقوم عليه الشواهد الموضوعية... غير أن هنالك مجتمعات لم تشهد حالات فرز طبقي بالمعنى الصراعي المترسخ كما في أوربا القرون الوسطى وحتى ما بعد الثورة الصناعية أو في روسيا القيصرية قبل الثورة البولشفية، أو في دول كالهند وباكستان ومصر بدرجة أقل. كل هذه المجتمعات شهدت ومازالت تشهد حالة من الفرز الطبقي المتواصل نسبة لطريقة توزع وسائل الإنتاج بداخلها وما استقرت عليه الممارسة الإجتماعية بترسيخ ذلك الواقع في الممارسة السياسية وما تدعمه مجموعة البنى الفوقية.. فطبقة النبلاء سواء في أوربا أو روسيا و"الزميندارية" - ملاك الأراضي - في الهند وباكستان والباشاوات في مصر تقف شواهد على وجود الفرز الطبقي الحاد في تلك المجتمعات.
غير أن الوضع في السودان أكثر إختلافاً، ذلك أن المجتمع السوداني لم يشهد مثل هذه الفروق الطبقية. فبرغم أنه مجتمع زراعي - رعوي، إلا أنه لم يكن يشهد اقطاع كما كان الحال في تلك المجتمعات، وقد حاول الإنجليز إبان استعمارهم للسودان أن يخلقوا طبقة من هذا النوع - اقطاعية- خاصة من الأسر الدينية الكبرى - أسرتي المهدي والميرغني - حيث لم تتوقف محاولاتهم في اقطاعهم الأراضي الزراعية وحسب، بل ذهبت لخلع ألقاب عليهما تتسم بمدلولها الإجتماعي الطبقي مثل لقب (Sir) لكل من عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني كتمييز لهما عن بقية الشعب. غير أن تلك المحاولة قد توقفت عند هذا الحد (اللقب فقط) وإن كان قد إستتبعته بعض الإمتيازات الإقتصادية، إلا أنهما لم يتحولا لا كأفراد ولا كأسر لطبقة مختلفة ذات امتيازات طبقية مميزة.. وقد يكون ذلك بفضل حركة نمو المتعلمين من أبناء المدن الذين شكلوا نواة طبقة برجوازية نازعتهم في القيادة السياسية والزعامة الشعبية، فبرز من أوساط الأهالي - عامة الناس- قيادات سياسية صارت في أحيان أكثر شعبية من هؤلاء السادة.. فطلائع الاتحاديين السياسية تقف أكبر دليل على ذلك، كما أن تولي شخص مثل فضل الله برمة ناصر لرئاسة حزب الأمة عقب رحيل الإمام الصادق المهدي تؤشر على أن الامتيازات الطبقية الأسرية ليست لها ذلك الوزن في التشكلات السياسية وإن كان مازال الأمر رهين بردة فعل أفراد أسرة المهدي فيما بعد الحرب ذلك أن رئاسة فضل الله برمة للحزب تعتبر رئاسة في حكم المؤقتة.
على عموم الأمر، من الواضح أن وجود طبقة أرستقراطية بالمعني الحقيقي غير موجود في السودان، وبالتالي لم تُولد أي ممارسات تدل على وجود طبقة مخملية راقية بالمعنى الأرستقراطي ذات عادات وتقاليد راسخة. بل حتى أن الأغنياء في السودان لا يشكلون طبقة إجتماعية محددة إذ يمكن تصنيفهم كطبقة وسطى عليا Upper middle class بحكم عاداتهم وتقاليدهم التي لم تنفك عن سائر أبناء هذه الطبقة ممن يمكن تسميتهم بالبرجوازية، فالتواشج والتداخل الإجتماعي لم يجعلا الأثرياء معزولين طبقياً عن مجرى الحياة العام في السودان، ويمكن ملاحظة ذلك في طريقة العيش في المدن نسبة للتدامج العميق ولأن معظم حالات الغني إرتبطت بمجهودات إنتاجية عبر سلسلة من الأنشطة التجارية والصناعية عبر تدرج وسط أكثر من جيل في الأسرة الثرية.. فمدينة كأمدرمان يصعب أن تفرز فيها الغني من الفقير، بل حتى فقراء أمدرمان القديمة يشعرون بحالة من الغنى والثراء لمجرد انتمائهم لهذه المدينة، فالإنتماء للمدينة يشكل في حد ذاته نوعا من رأس المال الإجتماعي لسكانها. ومرد ذلك يرجع بشكل أساسي لوجود ما يمكن تسميته ب (شفرة الحياة الأمدرمانية) وهي حاصل جمع مجموعة من التفاعلات كالتواصل القائم على السلوك واللغة (منطوقة ورمزية) والشعور بالانتماء لثقافة تتخصب ذاتياً بدفع من تيار قوي مفعم بالتسامح والتصاهر والإندماج بين مختلف الفئات (أغنياء وفقراء
وأعراق وملل ونحل وعقائد... إلخ). وكذلك الأمر ينطبق على كثير من المدن الكبرى في السودان.. بل إن سكان مدينة أمدرمان عادة ما يسخرون من أغنياء " الغفلة" الذين حازوا على ثروات بفعل الأنشطة الطفيلية التي أفرزت نوعا جديدا من الأثرياء بفعل ما عُرف بسياسة التمكين إبان حكم الإنقاذ 1989- 2019م. ومبعث السخرية أن معظم هؤلاء الأغنياء الجدد ذوي خلفيات قروية جاءوا شبه معدمين للمدينة، ولم تترسخ في سلوكياتهم الثقافة المدينية ولم يفلحوا في فك تلك الشفرة التي تمثل الجهاز الحيوي للبقاء ضمن فضاء مجتمع المدينة، وقد تُلاحَظُ حالة التريّف الكبير الذي طرأ على المدن الكبرى ومع ذلك فإن هؤلاء الأثرياء الجدد يحاولون أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم في الأوساط الإجتماعية بوصفهم (طبقة مخملية راقية) يعتليها حالة من الوهم يصور لها أن الولوج لتلك الطبقة محصورا فقط في العلاقة بمركز السلطة السياسية (الموقع من التنظيم السياسي إبان حكم الإنقاذ)، و ركوب السيارات الفارهة والزواج بالحسان مثنى وثلاثة ورباع و امتلاك القصور والعمارات والمزارع في أطراف المدينه. ويتسابق أبناؤهم في إبراز مفاخر ذات محتوى فارغ بإقامة الأعراس الباذخة. والمناسبات التي تبرز فيها نساؤهم المكنوزات من المصوغات الذهبية وفاخر الثياب دون عادات متأصلة لطبقة راسخة.

د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

تحالف «تأسيس»،،، الوجه الآخر للفوضى السياسية

تحالف «تأسيس»،،، الوجه الآخر للفوضى السياسية

حسب الرسول العوض إبراهيم

مصطلح “تأسيس” يعني في مجمله إنشاء كيان جديد، سواء أكان دولة أو حكومة أو دستورًا وغالبًا ما يرتبط بمسعى لإعادة البناء من العدم، أي تفكيك الواقع القائم لصالح مشروع بديل. لكن هذه المحاولة، حين تأتي في سياق النزاعات والحروب، لا تعني سوى الدخول في صراعات دامية بين القديم والجديد بين الشرعية والتغوّل، وبين مؤسسات الدولة ومحاولات تفتيتها.

في 18 فبراير 2025، أُعلن من نيروبي عن قيام تحالف سياسي جديد حمل اسم “تأسيس” تقوده قوات الدعم السريع وتساندها حركات مسلحة أبرزها جناح عبد العزيز الحلو من الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال وحركات دارفورية بقيادة الهادي إدريس والطاهر حجر وغيرها بالإضافة إلى شخصيات مدنية وسياسية،

لكن المفاجأة الكبرى جاءت بمشاركة فضل الله برمة ناصر الرئيس المكلف لحزب الأمة القومي وهو اكبر واعرق الاحزاب السياسية في السودان، ما أحدث شرخًا داخليًا عميقًا في الحزب. فقد سارعت مؤسسة الرئاسة إلى عزله وعيّنت مولانا محمد عبد الله الدومة بديلًا له، عاد ورفض هذا القرار واعتبره غير دستوري، ونشأت حرب بيانات وبيانات مضادة، وكل منها يفسر خطوته بانها استندت على دستور الحزب، فيما أكدت الأمانة العامة أن مشاركته تمت دون تكليف رسمي، وأن موقفه لا يعبّر عن مؤسسات الحزب. رغم أن مشاركة برمة ناصر لم تضف وزنًا حقيقيًا للتحالف الوليد واعتبرت من قبل البعض محاولة اصطفاف قبلي لا اكثر، إلا أن خصوم حزب الأمة وعلى رأسهم التيار الإسلامي، حاولوا استثمارها لصالح مشروع التخوين الذي تبنوه في مواجهة كل القوى السياسية الرافضة للحرب، فوجدوا في هذه المشاركة فرصة للتشكيك في مواقف حزب الأمة واتهامه ضمنيًا بدعم الدعم السريع وتحميله مسؤولية ما جرى من انتهاكات في ولايات الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، وغيرها من المناطق، وهي نفس التهمة التي روجوا لها في مواجهة جميع القوى السياسية، وهي تهمة لا تستند على أي أسس حقيقية.

والمفارقة أن برمة نفسه كان من أشد الداعين إلى الحل السلمي ووقف الحرب لكن انخراطه في هذا التحالف كشف عن عمق الانقسامات داخل حزب الامة لا سيما مع تباين الرؤى بشأن الموقف من الحرب ومن اطرافها، رغم اتفاق التيارات المختلفة داخل الحزب على رفضها والدعوة لإيقافها فورًا والذهاب الى حل تفاوضي سلمي.

أما بقية الأحزاب والقوى المدنية التي زُجّ بأسمائها في التحالف، فسارعت إلى نفي صلتها به، مؤكدة أن من حضروا لا يمثلونها رسميًا. حزب الاتحادي الديمقراطي مثلاً، أكد أن الميرغني شارك دون تفويض ومثله فعل عدد من ممثلي منظمات المجتمع المدني، ما كشف حجم الارتباك السياسي المصاحب لميلاد التحالف.

لكن الأخطر لم يكن في الأسماء المشاركة بل في مضمون “المنفستو” الذي أعلنه التحالف، والذي تضمن دعوة صريحة إلى تشكيل حكومة موازية بكامل أجهزتها. هذه الدعوة أثارت ردود فعل غاضبة، داخليًا وخارجيًا، إذ عدّها كثيرون بمثابة تمهيد لتقسيم البلاد وخلق سلطة بديلة في مناطق سيطرة الدعم السريع.

الأمم المتحدة حذرت من خطوة تشكيل حكومة موازية، واعتبرتها تهديدًا خطيرًا لوحدة السودان واستقراره واصدرت عدة دول في المحيط الإقليمي بيانات رفض وتحذير من الاقدام عليها، فيما أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية بيانًا شديد اللهجة، رفضت فيه ما وصفته بمحاولة “تقسيم السلطة عبر كيانات عسكرية معتبرة أن هذه الخطوة تهدد سيادة الدول وتغذي النزاعات داخل القارة الأفريقية. وقد حاول أنصار معسكر الحرب أيضا تجيير تلك المواقف لصالحهم واعتبروها بمثابة اعتراف بسلطة الأمر الواقع في بورسودان، وهي لم تكن كذلك بل عبارة عن تخوفات من حدوث حالات مماثلة في الإقليم.

في الداخل تصاعدت حدة الانقسام السياسي حيال هذه الخطوة، إذ تشظى تحالف “تقدم” إلى جناحين أحدهما التحق بـ”تأسيس” والآخر أسس تحالفًا مضادًا حمل اسم “صمود”. أما القوى السياسية المدنية الأخرى، فأصدرت بيانات متتالية ترفض فيها قيام أي حكومة خارج الإطار الوطني محذّرة من خطورة المساس بوحدة البلاد وشرعية الحكم.

وقد أجمعت جميع القوى السياسية والمدنية على رفض خطوة “تأسيس” بتشكيل حكومة موازية، باستثناء تيار الإسلاميين الذي لم يُبدِ اهتمامًا بحجم خطورتها. فلم تصدر عن الحركة الإسلامية أو حزب المؤتمر الوطني أي بيانات رافضة، بل سخر بعض رموزهم منها، وذهب بعضهم أبعد من ذلك متناغمين مع فكرة الانفصال والتقسيم، طالما أنها قد تتيح لهم العودة إلى الحكم مجددًا دون عوائق عسكرية أو سياسية.

وحتى داخل حزب الأمة القومي، الذي مُثّل في مؤتمر التأسيس برئيسه المكلف، صدر بيان موحد من التيارين المختلفين داخل الحزب يرفض إنشاء حكومة موازية، ويؤكد تمسك الحزب بالحل السياسي الشامل. وهو ما أفقد التحالف بريقه، إذ تراجعت حماسة مؤيديه وباتت رمزيته ضعيفة حتى في نظر داعميه.

لكن ما يعمّق خطورة المشهد، هو أن فكرة الحكومة الموازية لا تؤسس لحل بل تكافئ طرفًا عسكريًا متورطًا في انتهاكات مروّعة ضد المدنيين، وتعزز الاصطفاف الجهوي والقبلي، وتهدد ما تبقى من تماسك الدولة. كما تسهم في إضعاف القوى المدنية، وتفتح الباب أمام ولادة نظام عسكري جديد بواجهة مدنية مخادعة.

ولم تخلُ تجربة تحالف “تأسيس” من التوترات الداخلية إذ ظهرت خلافات مبكرة حول تقاسم السلطات وحدود السيطرة الإدارية، ما أدى إلى تأجيل التوقيع على ما سُمّي بـ”الدستور المؤقت”، وهو ما يعكس هشاشة هذا التحالف ويؤكد أنه تحالف تكتيكي هش لا يقوم على أرضية استراتيجية صلبة.

في نهاية المطاف، فإن “تأسيس” يبدو أقرب إلى محاولة لفرض أمر واقع بالسلاح لا إلى مشروع سياسي يعكس الإرادة الوطنية الجامعة. وإذا كان الهدف هو “تأسيس” مستقبل جديد، فإن الطريق لا يمر عبر البنادق بل عبر حوار شامل، يعيد تعريف الدولة على أسس المواطنة والعدالة والمساواة، لا على منطق الغلبة وتقاسم النفوذ. فالسودان لا يحتاج إلى حكومة جديدة بل إلى رؤية جديدة، تعيد إليه وحدته وكرامته وسلامه المنشود.

كاتب ومحلل سياسي

[email protected]

الوسومالحركة الإسلامية الحركة الشعبية الدعم السريع السودان تحالف تأسيس حزب الأمة القومي حسب الرسول العوض ابراهيم فضل الله برمة ناصر

مقالات مشابهة

  • تحالف «تأسيس»،،، الوجه الآخر للفوضى السياسية
  • الضمانات السياسية بعد تسليم السلاح: بين الشراكة والمداورة
  • الزمالك يقترب من الإعلان عن ضم المهدي سليمان لدعم حراسة المرمى
  • الزمالك يؤجل ضم المهدي سليمان لحين حسم مصير محمد صبحي
  • مدحت شلبي: الزمالك يتجه للتراجع عن صفقة المهدي سليمان.. ومحمد علاء المرشح الاقرب
  • الزمالك يتجه للتراجع عن صفقة المهدي سليمان.. ومحمد علاء المرشح الأقرب
  • هل يتراجع المهدي سليمان عن انضمامه إلى الزمالك؟ |تفاصيل
  • إعادة تشغيل جهاز الطبقي المحوري في مشفى حمص الوطني
  • أحمد حسن: توجد مفاوضات مع أحمد كالوشا وأنهينا التدعيمات
  • ترامب: توجد فرصة جيدة للغاية للتسوية بشأن غزة هذا الأسبوع