المطران إلياس عودة: التكبر الناتج عن الغنى أو المركز أو النفوذ يأخذ صاحبه إلى الهلاك
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أشار متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، في عظته خلال قداس الأحد اليوم الى انه "يحذرنا الرب، عبر مثل الغني الجاهل الذي تلي على مسامعنا اليوم، من خطر الطمع بالماديات والإبتعاد عن الله الذي تجسد ليخلص الإنسان من براثن الخطيئة ويمنحه الحياة الأبدية.
وأضاف أنا نتعلم من الرسول بطرس أن ثمنا باهظا دفع من أجل خلاص نفوسنا، إذ يقول: «عالمين أنكم افتديتم، لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط1: 18-19) لقد إرتضى المسيح أن يموت على الصليب ليخلص البشرية بأسرها و في المقابل، نقرأ في مثل اليوم كيف خسر الغني نفسه، وهذا يمكن أن يحصل معنا فيخسر كل منا نفسه إلى الأبد بسبب سلوكه غير المرضي لله".
وذكر ان "ثلاثة أسباب أدت بالغني إلى خسارة نفسه فالسبب الأول أن هذا الإنسان ضمر خططا أنانية إذ انشغل طوال حياته بالسعي وراء رفاهية الحياة الأرضية، ولم يسع وراء الله. «أخصبت أرضه» فاستغنى بما له وبنفسه عن الله. أراد بناء مخازن أكبر ليجمع فيها غلاته وخيراته عوض اقتسامها مع من هم في الحاجة. لكن الله شاء له أمرا مغايرا.
ولقد خطط فقط للحياة الوقتية الفانية بدلا مما هو للحياة الأبدية، ولم يكن الله محور حياته فيما يريدنا الرب أن ننظر إلى الأمور من المنظار الصحيح بقوله: «أنظروا وتحفظوا من الطمع، فإنه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله» (لو 12: 15). علمنا ألا نهتم في حياتنا لما هو أرضي، بل أن نطلب أولا ملكوت الله وبره (مت 6: 33). قد يخسر الإنسان نفسه إن بنى ذاته بعيدا عن الله، إذ من منا إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحدة (لو 12: 25)؟"
وتابع: "السبب الثاني الذي جعل الغني يخسر نفسه يكمن في نواياه الخاطئة. فقد كان ممتلئا بالعجب والإعتماد على الذات، وهاتان خطيئتان يخسر الإنسان نفسه بسببهما ينبه الرسول بولس تلميذه تيموثاوس قائلا: «أوص أغنياء الدهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يتكلوا على الغنى غير الثابت، بل على الله الحي الذي يؤتينا كل شيء بكثرة لنتمتع به» (1تي 6: 17-19). نقطة الفصل ليست في ما يملك الإنسان، غنيا كان أم فقيرا، بل في موقع اهتمامه، إذ لا نقدر أن نعبد الله والمال (مت 6: 24). ليس مهما كم حصل الإنسان، بل كم أنفق على المحتاجين يوصي الرسول بولس العبرانيين قائلا: «لا تنسوا الإحسان والمؤاساة فإن الله يرتضي مثل هذه الذبائح» (13: 16). الغني لم يفكر لحظة في مشاركة المحتاجين ما فاض عنه من نعم الله، ولا رد مجدا لله أو فكر بأن الله سمح أن يغتني لكي يقتني بالمقابل فضيلة العطاء لو كان هذا الغني حكيما لأحسن استثمار أمواله في اقتناء الفضائل أي المحبة والرحمة والعطاء. إن الغنى عطية من الله علينا أن نحسن استعمالها".
وقال: "أما السبب الثالث فهو أن الغني وضع لنفسه أهدافا وحسابات خاطئة ظن أنه يستطيع التمتع بغلاته وخيراته التي جمعها، غير عالم أن ليلته كانت الأخيرة على الأرض. يقول الرسول يعقوب: «هلم الآن أيها القائلون: نذهب اليوم أو غدا إلى هذه المدينة أو تلك، وهناك نصرف سنة واحدة ونتاجر ونربح. أنتم الذين لا تعرفون أمر الغد! لأنه ما هي حياتكم؟ إنها بخار يظهر قليلا ثم يضمحل» (يع 4: 13-17). هكذا، لا يدرك معظمنا، كالغني الجاهل، أننا على بعد نفس واحد أو نبضة قلب واحدة، أو حادث واحد من الموت الجسدي. فلا نكن مثله غير مستعدين لتلك اللحظة، بل فلنتصالح مع الله، الآن وليس غدا".
وسأل عودة :"كم من الناس في أيامنا يستمدون معنى حياتهم وقيمة وجودهم من ثراء لا قيمة له في ذاته لأنه زائل، ويدخرونه لغد غير مضمون، قد يرحلون ويتركونه لأن حياتهم ليست في يدهم بل في يد من خلقهم. «يا جاهل، في هذه الليلة تطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟».
واستكمل: " هكذا خاطب الله المهتم بثروته، الذي نسي أن مانح الخيرات هو الله وحده لقد سماه المسيح جاهلا فيما هو في نظر البشر ناجح وذو دراية وتخطيط. إن مقاييس الله تختلف عن مقاييس البشر. فما ظنه الغني ملكا هو في الحقيقة عطية من الله منحه إياها ليشتري بها نفسه، فماذا فعل؟ أمضى عمره أسير ماله فيما أعطاه الله حرية الإختيار بين الإستعباد للمال أو اقتسامه مع إخوته بغية اقتناء ملكوت الله وبره. يقول القديس باسيليوس الكبير: «الخبز الذي تخبئه عندك هو ملك للجائع، واللباس الموجود في خزانتك هو ملك للعريان المال الذي تقتنيه على الأرض هو للذي بحاجة إليه فأنت إذا تظلم كل من تستطيع مساعدتهم".
وتابع: "يشدد الآباء القديسون على أهمية اقتناء الفضائل وأولها التواضع لأن التكبر الناتج عن الغنى أو المركز أو النفوذ وما شابه يأخذ صاحبه إلى الهلاك. فمن اغتنى أي استقوى بماله أو مركزه أو حزبه أو طائفته وأشاح بوجهه عن إخوته لن تكون آخرته أفضل من آخرة غني إنجيل اليوم الذي حصر تفكيره واهتمامه بنفسه وما تملك. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم «إن المجد الذي يأتي عن طريق الغنى والسلطة والعنف لا يلبث أن يضيع، أما المجد المرتكز على الأعمال الصالحة فهو ثابت لا يتزعزع ولا يزول.» كلنا مائتون. يوما ما سيتوقف كل شيء فجأة، وإذ نمثل أمام الديان العادل يكون علينا أن نجيب عما فعلناه في حياتنا. هل سنكون مستعدين لتقديم حساب عن طريقة عيشنا أو تربية عائلاتنا أو معاملة أترابنا وما فعلناه بمواهبنا وقدراتنا؟ أو نكتفي باعتزازنا بالنفس الذي يؤدي إلى سقوطنا وهلاكنا؟ كيف سنجيب عما فعلناه بالوزنات التي منحنا إياها الله؟"
واختم: " علينا إذا أن نستعد لتلك الساعة الرهيبة كي لا نخسر نفوسنا، بل لتكون ثمرة نضرة للحياة الأبدية".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الحياة الأبدية قداس الاحد
إقرأ أيضاً:
خيبة أمل المرتزقة
منذ منتصف مارس 2025م وحتى السابع من مايو 2025م، مضت شهران إلا نيف واليمن تواجه أكبر قوة عسكرية وفق فقه العالم المعاصر، تضافرت معها قوتان هما بريطانيا وإسرائيل واليمن كبلد فقير محاصر برا وجوا وبحرا وكان يخوض حربا ضروسا مع تحالف عربي ظل مشتعل الأوار على مدى تسعة أعوام، هذا التحالف كانت تقف من ورائه أمريكا وبريطانيا وإسرائيل وفي كلا الحالتين يخرج اليمن أكثر إصرارا وصمودا وأقوى شكيمة، لم تستطع أسلحة العالم المعاصر أن تخضعه لغاياتها وأهدافها.
ليس في الأمر ما يمكن استغرابه، فاليمن ظل على مدى تاريخه الممتد إلى الماضي السحيق، عصيا على إرادات الاستعمار منذ أكلت رمال صحراء صيهد حوافر خيل الرومان إلى الزمن الذي نعيش الذي شاهدنا أفتك أسلحة العالم المعاصر تقف عاجزة أمام صلابة الموقف والإرادة اليمنية في فرض ثنائية الخضوع والهيمنة على اليمن الذي شهدت سهوله ووهاده وهضابه وجباله حركة التاريخ الثقافي والحضاري في القديم وما يزال يقف كطود شامخ أمام كل حركة تاريخية تريد أن تثنيه عن مساره الحضاري والتاريخي.
وحين جاءت الرسالة السماوية إلى النبي العربي الأمي كان اليمن هو حامل رايتها وبشر بها العالم فاتحا وهاديا وما يزال وفيا لهذه الراية حين خذلها العرب من حوله وفرشوا جفونهم لجيوش الغزو من الشرق ومن الغرب وخضعوا وذلوا بعد أن كانت عزتهم في الإسلام.
مثل هذه الحقائق قد يجهلها ساسة الغرب من أولئك الذين يخوضون حربهم لتحقيق مصالح اقتصادية أو لإحداث توازن في حركة المصالح الدولية، لكن من المعيب أن يجهلها أهل اليمن من الذين غرهم في الله الغرور فأصبحوا عبارة عن دمى تحركها الدول الإقليمية والدولية فوقفوا على قارعة الطريق ينتظرون سقوط صنعاء بعد أن أعلنت أمريكا الحرب على بلدهم فباركوا الخطوات واعتبروها تطورا مهما قد يعجل بعودتهم إلى صنعاء، والثابت في قانون التاريخ اليمني أن من تقذفه صنعاء إلى خارج أسوارها لا يعود اليها أبدا ومن عاد يجد نفسه ذميما مدحورا فما يلبث إلا قليلا حتى يغادر صنعاء، ولعل أقرب مثال ما حدث في عقد السبعينيات من القرن العشرين لو أمعنوا النظر في الذين وضعوا أيديهم في يد المستعمر البريطاني الذي أغدق عليهم بجنيهات الذهب عن طريق واجهته في المنطقة والخليج العربي وهي السعودية، لقد تفرقت بهم السبل ولم يلبثوا في صنعاء إلا قليلا حتى كانوا خارج أسوارها الكريمة، وفي التاريخ عبر شتى ودروس لكن الذين امتهنوا الغرور لا يفقهون من القول إلا قليلا .
حين أعلنت أمريكا وقف عدوانها على اليمن بكى أولئك الناس بكاء شديدا وطفح بهم الكيل حتى لم يستطيعوا كتمانه فرأينا لهم تغريدات ومنشورات وفيديوهات على شبكات التواصل الاجتماعي تندب حظهم وتعبر عن خيبة أملهم التي كانوا يتوقعونها، فقد حلموا أن تحملهم قنابل أمريكا الارتجاجية على أجنحة اليمام حتى تهبط بهم في أزقة صنعاء وحواريها، وكاد بعضهم أن يرسم السيناريوهات ويسقط ما حدث في سوريا من سحل وقتل وتدمير ومن إبعاد وتشهير وتفاخر على صنعاء وعلى أهلها، لكن الله كان لهم بالمرصاد إذ خيب آمالهم وجعلهم ضحايا حسرتهم ومشاعرهم السلبية، كيف لا وقد كانوا فرحين مستبشرين وهم يشاهدون مقدرات اليمن تحرقها القنابل والصواريخ وكانوا يرون أشلاء الضحايا من المدنيين العزل تتناثر على أرصفة الشوارع وهم يرون أن الأمريكان والصهاينة بذلك يحسنون صنعاً، ما عدا قلة قليلة أنكروا على أمريكا ذلك القتل والدمار في اليمن ممن ما تزال ضمائرهم تنبض بالحياة وتفرق بين الحق والباطل .
الاختلاف طبيعة بشرية والتعدد في الرأي حق لا ننكره على أي أحد لكن في إطار دفع المفاسد والاحتكام إلى الحق، أما في جلب المفاسد وتعطيل حياة البشر، وإزهاق الأرواح التي حرمها الله إلا بالحق، وفي تدمير مقدرات الأمة فذلك باطل لا تقره الشرائع السماوية ولا النظريات الأخلاقية ولا أي آيديولوجيا سياسية مرت في تاريخ البشر منذ آدم إلى اليوم، ومن يضع نفسه في موضع الباطل الذي تجرمه الشرائع والنظريات والآيديولوجيات والقوانين البشرية فقد تجرد من كل خصائص البشر وتجرد من الإنسانية ووضع نفسه في مراتب الكائنات الحيوانية التي تدفعها غرائز البقاء على تدمير حياة المماثل لها فتقتله أو تأكله، وقد يستغرب المرء كيف لإنسان وضعه الله في مقام السؤال والمسؤولية أن يفرح بما يحدث لبلاده وأهله من دمار وقتل ومن فناء وحرق وحصار وجوع، وهو يرى ذلك عقابا مستحقا لا لشيء إلا لكونه لم يحقق له غاياته وأهدافه في السلطة والثروة والمجد والسؤدد، ومن وجد نفسه في هذا المقام فليراجع نفسه فقد لا يدرك أنه في مقام الباطل من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم .
لقد قلت في يوميات الأسبوع المنصرم – في هذه المساحة نفسها والتي بعنوان ” أمريكا وحركة تغيير الموازين العالمية “- أن أمريكا تعمل لمصالحها ولا تدعم خيارات السلام في أي بلد ولن تحمل المرتزقة إلى صنعاء، ولا خيار للمرتزقة سوى الحوار وترتيب البيت اليمني بعيدا عن أجندات الخارج وسياساته، ومثل هذا التوجه قابل للتحقق إذا صلحت النوايا وأخلص الناس للقضايا الوطنية والقومية وعادوا إلى الحق وابتعدوا عن الباطل الذي يورد المهالك.
فاليوم تلوح أمامنا فرصة تاريخية للتصالح وتغليب مصالح اليمن على المصالح الذاتية والحزبية .. فهل تملك القوى الوطنية التي تتنازع الجرأة على إعلان تاريخي يحفظ لليمن حريته وكرامته وسيادته على كامل أراضيه وحقه في تقرير مصيره؟ نأمل أن يستشعر الكل مسؤوليته التاريخية أمام اليمن ووحدته وحريته وكرامته وسيادته .. وكفى ما قد مضى من الغي والخذلان.