بقدر ما يعني الأمر العنف المتجدد دوما فـي «الخليج» فقد كانت هناك وفرة وافرة من «المعلِّقين السياسيين»، و«الخبراء الاستراتيجيِّين»، «وخبراء المناطق»، و«أساتذة الدِّراسات»، و«المختصين»، إلخ، قصيري النَّظر ممن يعزون كل «مغامرة فـي العراق»، أو فـيما جاورها، والتي تتجدد فـي كل يوم نشاهد فـيه الأخبار من القنوات الفضائيَّة، إلى «حساب لم يُصفَّ»، ومقصود بذلك، ضمن أشياء أخرى، إن القوى الغربيَّة بالقيادة الأمريكيَّة قد توانت عن احتلال العراق فـي حرب عام 1991.

يخفـي الأمر كله رغبة إمبرياليَّة باعتبارها الباعث الدَّفـين على المغامرات السياسيَّة والعسكريَّة. وفـي الدوائر الأكاديمية الرَّزينة يُرى إلى الحروب الفائتة، والحاليَّة، والقادمة فـي الخليج باعتبارها محض رغبة إمبرياليَّة للتحكم فـي مصادر الطاقة وإعادة رسم خارطة منطقة مشظَّاة أصلا («تشكيلاتٌ مُؤمْبْرَلَة» ([imperialized formations] كما فـي مصطلح إعجاز أحمد( Aijaz Ahmed ) الذي غالبا ما يشار إليه فـي مثل هذا السياق). وعلى صعيد آخر فإن تلك «المغامرات» فـي العراق، أو غيره من بلدان المنطقة، إنما تأتي تجسيدا للاستشراق باعتباره «مؤسسة جمعيَّة مؤلفة من عدة عناصر ومكوِّنات (“corporate institution”) للتَّعامل مع الشَّرق» والتي ظهرت إلى حيِّز الوجود منذ نهاية القرن الثامن عشر حسب محاججة إدوَارد سعيد Edward Said (1).

وعندما يتعلق الأمر بمحاولة الكشف عن تموضع وتعريف الجذور التَّأصيليَّة فإن ميشيل فوكو( Michel Foucault ) يقترح علينا، فـي سياق دراسته للفـيلسوف الألماني فردرِك نيتشه (redrick (Nietzsche، إن «الجينيالوجيا رماديَّة، وشديدة الولع بالتَّفاصيل، وتوثيقيَّة على نحوٍ صبور؛ فهي تعمل فـي حقل من البَرْشُمانات المُحْتَبَلَة والمُشَوَّشة، والوثائق التي شُطِبَ عليها وأعيد نسخها مرَّات عديدة» (2). ولذلك فإنني، فـي نسخة معدَّلة (لكن ليس كثيرا) من فهم فوكو الثَّوري حقَّا للجينيالوجيا، أود العودة إلى عام 1492الذي وقع فـيه حدثان استثنائيان أثَّرا بصورة عميقة فـي قادم الحياة، والتَّاريخ، والثَّقافة على هذا الكوكب وسكَّانه.

كان الحدث الأول أنه مع سقوط غرناطة فـي أيادي الإسبان، فإن المسلمين (وقد كانوا فـي الغالب يُعرفون باسم «الموريين/ المغاربة [Moors]» فـي أوروبا خلال تلك الحقبة)، والذين كانوا مقيمين فـي الأندلس منذ عام 712، قد أُخرجوا بعنف زائد وروح انتقاميَّة متطرِّفة من جنوب إسبانيا. أما الحدث الزِّلزالي الثاني الذي غيَّر التَّاريخ إلى الأبد فقد كان أن كرستِفر كولومبس Christopher Columbus، والذي للمفارقة، كان يقوده فـي رحلاته البحريَّة اسطرلاب من صنع المسلمين فـي الأندلس كان قد أُخترع فـي القرن الثامن، وصل إلى ما اعتمدت له الأدبيَّات الغربيَّة اسم «العالم الجديد» (3).

لقد نجم عن تلك المصادفة التاريخيَّة الجديرة بالذكر -- إذا ما كانت تلك «مصادفة» حقَّا -- أفعالٌ للكتابة (inscription)، والتعريف السِّياسي والثَّقافـي، والوصف، والتَّمحيص، وإعادة الوصف، والاحتواء والإقصاء، والتَّثبيت ونفـيه، وتشريع الذَّات، وتشكيل الموضوع، واقتراف عنف وتدمير لم يسبقهما لهما مثيل فـي كل تاريخ البشريَّة (4).

وقد كان الفعل الآني، الطازج والمباشر، من أفعال التمثيل (representation) الذي تلى مما يمكن وصفه بالصُّدفة الموضوعيَّة العظيمة هو أن الأداء الدرامي (drama performance) الأوروبي الأول فـي أمريكا الشماليَّة، وقد كان ذلك فـي عام 1540، كان مسرحيَّة عنوانها «موريُّون ومسيحيُّون» [Moors and Christians]. وفـي الحقيقة، فإنه لغاية اليوم، لا تزال عدة مدن، وبلدات، وقرى فـي إسبانيا والمكسيك تعرض نسخا مختلفة من ذلك العرض الدرامي الأول الذي حدث فـي أمريكا الشماليَّة فـي مهرجانات سنويَّة تُدَشَّن لأجلها حملات دعاية عالميَّة ضخمة للتَّرويج السِّياحي، والإعلامي، والتِّجاري. وعلى نحوٍ مماثلٍ، فإن عرض تلك المسرحيَّة، إضافة إلى عدة تنويعات عليها، لا يزال تقليدا راسخا فـي كل احتفال تذكيري كبير بفرانسِسكو باثكيث دي كورونادو Francisco Vazquez de Coronado، وهو من قادة الغزو الإسباني الذي ترأس حملة ضخمة بين عام 1540 وعام 1542 انطلاقا من المكسيك وحتى ما يعرف اليوم بولاية كانسَس فـي الولايات المتحدة الأمريكية. هكذا فإن مسرحيَّة «موريِّون ومسيحيُّون» أسهمت بصورة صريحة، ولا يمكن التراجع عنها سياسيَّا وثقافـيَّا، فـي تأسيس ثنائيَّةٍ قُطبيَّةٍ حضاريَّةٍ متجمِّدة ومتجهِّمة لا تزال تسكن -- بكثير من الشُّرور والعواقب الوخيمة -- العلاقة بين الغرب من جهة، وبين العالم العربي/ الإسلامي من جهة أخرى، لغاية اليوم فـي العالمين «القديم» و«الجديد» معا. وحقَّا، فإن «المغامرة» الأمريكية فـي العراق وما جاورها تشكِّل إثباتا مرئيَّا للعيان.

----------------------------------

(1): Edward Said, Orientalism (New York: Vintage, 1979), 3.

(2): Michel Foucault, “Nietzsche, Genealogy, History” in Language, Counter-Memory, Practice: Selected Essays and Interviews by Michel Foucault, ed. with intro., Donald F. Bouchard (Ithaca: Cornell University Press, 1977), 139.

(3): للوقوف على الدور الذي لعبه ذلك الاسطرلاب فـي ملاحة أسفار كولومبس، انظر:

Charles Duff, The Truth about Columbus and the Discovery of America (London: Jarrolds, 1957), 86.

(4): تتوافر اليوم أدلة معتبَرة وإثباتات مقنعة تفـيد بأن الثروات الطائلة التي صودرت من المسلمين واليهود الذين طُردوا من إسبانيا فـي عام 1492 أسهمت فـي تمويل رحلات كولومبُس بصورة كبيرة ومباشرة. ومن تلك الأمثلة أن كولومبُس كتب فـي رسالة موثَّقة إلى العرش الإسباني يصف فـيها الأحداث الجسام التي قادت إلى «اكتشاف» أمريكا هكذا: «لقد أكملتم سموّكم الحرب ضد الموريين [أي المسلمين]... بعد طرد كل اليهود... وبعثتموني إلى تلك المناطق من الهند من أجل هداية النَّاس هناك إلى ديننا المقدَّس». اقتُبِسَ فـي:

Ella Shohat and Robert Stam, Unthinking Eurocentrism: Multiculturalism and the Media (New York: Routledge, 1994), 60.

يربط كولومبُس هنا بطريقة السَّبب والنَّتيجة بين طرد المسلمين واليهود من إسبانيا من ناحية، وبين الوصول إلى أمريكا من ناحية أخرى. لأجل مزيد من الاطلاع على مناقشة لامعة وطيدة الصِّلة بالموضوع، انظر:

Ziaddin Sardar, “Lies, Damned Lies and Columbus,” Third Text, no. 21 (Winter 1992-3).

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

باكستان تتعهد بالوقوف خلف مع إيران وتدعو إلى وحدة المسلمين ضد إسرائيل

تعهدت باكستان السبت "بالوقوف خلف إيران" ودعت إلى وحدة المسلمين ضد الاحتلال الإسرائيلي بعد الهجمات على إيران.

وفي حديثه في الجمعية الوطنية، قال وزير الدفاع الباكستاني خواجة آصف إنه يجب على الدول الإسلامية الآن إطلاق مبادرة لإظهار الوحدة ضد إسرائيل.

وأضاف، "لقد استهدفت إسرائيل إيران واليمن وفلسطين. إذا لم تتحد الدول الإسلامية الآن، فستواجه كل منها نفس المصير".

كما دعا الدول الإسلامية التي تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على قطع العلاقات فورا وقال إن منظمة التعاون الإسلامي يجب أن تجتمع لصياغة استراتيجية مشتركة.

وأشار آصف إلى أن باكستان لديها علاقات عميقة مع إيران وأن إسلام أباد تقف إلى جانب طهران في هذا الوقت الصعب.

وأردف، وزير الدفاع "نحن نقف وراء إيران وسندعمهم في كل منتدى دولي لحماية مصالحهم".

كما وصف نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الباكستاني إسحاق دار يوم الجمعة الهجوم الإسرائيلي على إيران بأنه "انتهاك صارخ لسيادة إيران" وقال: "باكستان تتضامن مع حكومة وشعب إيران".

وفي وقت لاحق، تحدث أيضا مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عبر الهاتف وأكد مجددا دعم باكستان القوي لحكومة وشعب إيران لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.



وواصلت إيران ردها على العدوان الإسرائيلي، مستهدفة مواقع عدة في حيفا وتل أبيب ومناطق أخرى، وسط حالة من الصدمة والذهول من الدمار غير المسبوق الذي لحق في المباني والمنشآت.

وأطلقت إيران دفعات جديدة من الصواريخ باتجاه أهداف إسرائيلية، أسفرت عن مقتل 10 أشخاص، من بينهم 6 قتلى في بات يام المحاذية لتل أبيب وإصابة أكثر من 200 آخرين إضافة إلى 7 مفقودين، و4 قتيلات في مدينة طمرة في الجليل، ليرتفع بذلك عدد القتلى منذ الجمعة، إلى 13 قتيلا وأكثر من 300 إصابة.

وتعد منطقة تل أبيب من أكثر المناطق تضررا، حيث أكد رئيس بلدية بات يام وجود أشخاص في عداد المفقودين تحت أنقاض مبنى تعرّض لإصابة مباشرة. وأضاف أن القصف ألحق أضرارا بـ61 مبنى، من بينها 6 مبان أصبحت غير صالحة للسكن وسيتم هدمها بالكامل. في الوقت نفسه، تواصل فرق الإنقاذ عمليات البحث تحت ظروف معقدة.

في المقابل، شنت دولة الاحتلال هجمات واسعة النطاق على طهران ومناطق أخرى، حيث أعلنت وزارة الدفاع الإيرانية عن تعرض أحد مبانيها الإدارية ومركز أبحاث للقصف، إلى جانب استهداف مستودع وقود رئيسي في العاصمة. 

مقالات مشابهة

  • بلدية بخعون ـ الضنية تسلمت شاحنة مقدمة من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
  • لجنة لدراسة واقع “الأمبيرات” في اللاذقية
  • في ذكرى ميلاده.. حسن حسني "جوكر السينما المصرية" الذي صنع البهجة ورحل في صمت
  • مسؤولون أمريكيون يكشفون عن استعدادات إيرانية لضرب القواعد الأمريكية بالخليج العربي وتلغيم مضيق هرمز
  • حاملة الطائرات الأمريكية نيميتز تتجه إلى الخليج العربي
  • محافظ المنيا يبحث تعظيم الاستفادة من الأصول غير المستغلة وتحقيق عوائد اقتصادية
  • نقل ملكية أراضٍ تابعة لـ”الإخوان المسلمين” لصندوق دعم الجمعيات
  • الأوراق المطلوبة لاسترداد المصرية المتزوجة من أجنبي جنسيتها
  • باكستان تتعهد بالوقوف خلف مع إيران وتدعو إلى وحدة المسلمين ضد إسرائيل
  • جامعة طرابلس تعقد اجتماعها الثاني لدراسة ظاهرة الحرائق الغامضة بالأصابعة