في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامةالديمقراطية؟
تاريخ النشر: 22nd, November 2024 GMT
بقلم : تاج السر عثمان
١
تدخل الحرب اللعينة في السودان شهرها العشرين، مع استمرار جرائم الابادة الجماعية التي يمارسها الدعم السريع في شرق الجزيرة ودارفور وبقية المناطق وقصف الجيش للمدنيين بالطيران، مع تزايد مآسي الحرب، والمزيد من فقدان الأرواح والتهجير القسري وما يتبعه من نهب الأراضي الزراعية والممتلكات، وماسي إنسانية، اضافة للقمع الوحشي والتعذيب حتى الموت للمعتقلين السياسيين ولجان المقاومة والناشطين في لجان الخدمات في سجون طرفي الحرب ، والمحاولة السافرة لظهور المؤتمر الوطني في الحياة السياسية ومخاطبة مجرمي الحرب مثل: احمد هارون و البشير لاجتماعه ، مما يؤكد ان هدف الحرب تصفية الثورة، وإعادة التمكين للإسلامويين مرة أخرى، الأمر الذي وجد رفضا وَاستنكارا شديدا من الجماهير.
كما فشلت الحلول الخارجية في منابر جدة واخرها منبر جنيف في وقف الحرب، ونجلي التدخل الدولي الهادف لنهب ثروات البلاد والداعم لطرفي الحرب،وإطالة أمدها، في مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن لحماية المدنيين الأخير، الذي اوقفته روسيا باستخدام حق" الفيتو"، وهو تعبير عن الصراع الدولي لنهب الموارد بين المحاور الداعمة لطرفي الحرب، وشن الحروب من أجل ذلك كما في الحرب الروسية - الاوكرانية وحرب غزة.،الهادفة لنهب الموارد وتمزيق وحدة بلدان المنطقة.
كما برزت الدعوات للتدخل العسكري الدولي لوقف الحرب، علما بأن تجارب التدخل كانت غير حميدة كما حدث في : دارفور، اليمن ، ليبيا، العراق وسوريا. الخ. العامل الحاسم هو وحدة وصمود الحركة الجماهيرية في الداخل، والعامل الخارجي مساعد، فوحدة السودانيين كما أكدت التجربة الماضية لعبت دورها في اسقاط النظم الاستعمارية والديكتاتورية، كما حدث في الاستقلال ١٩٥٦، ثورة أكتوبر 1964، انتفاضة مارس - أبريل ١٩٨٥، وفي ثورة ديسمبر 2018.
التدخل الدولي الداعم لطرفي الحرب بالسلاح والعتاد بات معروفا بهدف نهب الذهب وبقية المعادن والأراضي وغيرها من ثروات البلاد، وإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، مع اشتداد حدة الصراع الدولي على الموارد في السودان وأفريقيا، وشن الحروب لتحقيق ذلك الهدف.
كما يستمر التدهور في الأوضاع المعيشية والصحية، مع خطر المجاعة الذي يهدد ٢٥ مليون سوداني حسب بيانات الأمم المتحدة، واستمرار تدهور الاقتصاد السوداني كما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير متوقع تراجع الاقتصاد السوداني الي ٢٠٪ بنهاية العام ٢٠٢٤ ،مع استمرار انخفاض الجنية السوداني وارتفاع الأسعار، وتعطيل الزراعة والصناعة والخدمات بسبب الحرب، اضافة لعدم فتح المسارات الآمنة لوصول الأغاثات للمتضررين.
٢
كما فشلت الحلول الخارجية في تحقيق الديمقراطية و السلام العادل والشامل،كما حدث بعد اتفاقية نيفاشا التي أدت لفصل الجنوب، وبعد ثورة ديسمبر 2018 في التسوية على أساس الوثيقة الدستورية "المعيبة" وانقلاب ٢٥ أكتوبر 2021 عليها الذي قاد للحرب الحالية، ومحاولة إعادة التسوية والشراكة مع العسكر والدعم السريع التي تعيد إنتاج الحرب بشكل أوسع من السابق وتقود لتمزيق وحدة البلاد، بينما المطلوب استدامة الديمقراطية بخروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع ومليشيات المؤتمر الوطني وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية،إضافة للمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
بالتالي هناك ضرورة للاستفادة من التجارب السابقة، في استدامة الديمقراطية، َتحقيق السلام العادل والشامل، ووقف الحرب ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية وأهمها عقد المؤتمر الدستوري الذي يقرر شكل الحكم ، وإقرار دستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهه في نهاية الفترة الانتقالية.
٣
كما اشرنا سابقا، بعد الاستقلال كانت جماهير شعبنا تتطلع لاستكماله بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية ومعالجة مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، وانجاز التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد، بإنجاز الدستور الدائم، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي والفلسفي، ولكن ذلك لم يتم مما أدى لدخول البلاد في حلقة جهنمية من انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية شمولية أخذت 58 عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر من 68 عاما، وأسهمت تلك الأنظمة العسكرية في تكريس قهر الجنوب وانفصاله، اضافة للمناطق المهمشة، والتنمية غير المتوازنة ومصادرة الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتكريس التنمية الرأسمالية والفوارق الطبقية والتبعية للدول الغربية حتى بلغت ديون السودان حاليا أكثر من 60 مليار دولار، مما يتطلب الاستفادة من تجارب فشل الديمقراطية الأولي والديمقراطية الثانية والثالثة التي تناولناها بالتفصيل في الدراسات السابقة بنجاح الفترة الانتقالية الحالية التي نشأت بعد ثورة ديسمبر 2018 ، في ترسيخ السلام والحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور الأزمة، ولا يعيد إنتاج المظالم والقهر والحرب، والديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقيام علاقات خارجية متوازنة تكرّس السيادة الوطنية.
٤
ويفيد ان نعيد هنا نشر أهم ملامح تجارب الفترات الانتقالية التي تم اجهاضها:
ا - تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر 1964م
بعد ثورة أكتوبر، ونجاح الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات، تمّ تكوين الحكومة الانتقالية الأولي بعد مفاوضات بدأت في البداية بين جبهة الأحزاب وقيادات من القوات المسلحة ، وفي وقت لاحق انضم اليها مندوبو جبهة الهيئات، وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي.
كان برنامج الفترة الانتقالية للحكومة الجديدة :
- حل مشكلة الجنوب ووقف الحرب الأهلية، ومكافحة الفساد.
- حل مشاكل الجماهير المعيشية والاقتصادية
- اعداد قانون انتخابات لانتخاب جمعية تأسيسية في نهاية الفترة الانتقالية لاعداد دستور دائم للبلاد.
لكن تم الفشل في انجاز مهام الفترة الانتقالية بسبب الضغوط من حزب الأمة والأحزاب التقليدية علي حكومة سر الختم الخليفة ، لدرجة تسيير المواكب من المليشيات المسلحة ضدها لاسقاط الحكومة، واشتدت ضغوط حزب الأمة علي سرالختم الخليفة رئيس الوزراء ، فاضطر لتقديم استقالة حكومته في 28 ديسمبر1965، بعد أن اشتدت الضغوط عليه.
بعد استقالة سرالختم الخليفة ، تمّ تشكيل حكومة جديدة في 24 فبراير 1965 ، كان نصيب كل من حزب الأمة والوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وكتلة الجنوبيين بثلاثة وزراء ، وتمثيل كل من الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين بوزير واحد، بالتالي اصبح للأحزاب التقليدية الأغلبية فيها ، وتمّ الاسراع في الانتخابات المبكرة التي تقرر عقدها في يونيو 1965.
حتى الانتخابات المبكرة لم يتم الصبر عليها ، وتم حل الحزب الشيوهي الذي قاز فيها ب 11 نائبا ، وطرد نوابه من البرلمان ، مما قاد للازمة الدستورية وتقويض الديمقراطية ، والي انقلاب 25 مايو 1969.
ب - الفترة الانتقالية بعد انتفاضة مارس – ابريل 1985
بعد انتفاضة مارس – ابريل ونجاح الاضراب السياسي العام الذي قاده التجمع الوطني لانقاذ الوطن،جاء ميثاق التجمع الوطني الذي حوي النقاط التالية:
- فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، مهامها تنظيم العمل السياسي بموجب دستور 1956 المعدل 1964.
- كفالة الحقوق والحريات الأساسية.
- الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب في اطار الحكم الذاتي الموحد.
- التحرر من التبعية الاقتصادية والاصلاح الاقتصادي بخلق بنية اقتصادية تحقق العدل والكفاءة، ومواجهة المجاعة وشح المواد التموينية والغلاء، السيادة الوطنية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية.
- قيام علاقات خارجية متوازنة.
- تصفية أثار مايو وقوانيتها القمعية، والطبقة الطفيلية المايوية.
- اصلاح الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة، تأكيد مبدأ الحكم الامركزي.
- حكم البلاد بعد الفترة الانتقالية بواسطة دستور يقره برلمان منتخب ديمقراطيا .
لكن انقلاب الفريق سوار الذهب قطع الطريق أمام الانتفاضة ،مما أدي لتخوف التجمع من هيمنة الحكم العسكري ، فبادر بتقليص الفترة الانتقالية من ثلاث سنوات الي سنة واحدة، بعد ها يتم تسليم السلطة في انتخابات لممثلي الشعب وتمت انتخابات 1986 المعروفة ، ولم تصير الجبهة الإسلامية علي الديمقراطية ، وكان انقلاب 30 يونيو 1989 .
ج - الفترة الانتقالية بعداتفاقية نيفاشا
جاءت مهام الفترة الانتقالية بعد اتفاقية نيفاشا في الاتي:
- تغليب خيار الوحدة علي أساس العدالة ورد مظالم شعب جنوب السودان، وتخطيط وتنفيذ الاتفاقية بجعل وحدة السودان خيارا جاذبا وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلا (بروتكول مشاكوس).
- كما جاء في بروتكول مشاكوس، هو التحول الديمقراطي وقيام نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين الجنسين لدي شعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية الحقوق والحريات الأساسية، وأكدت علي أن يكون جهاز الأمن القومي جهازا مهنيا ويكون التفويض المخول له هو تقديم النصح والتركيز علي جمع المعلومات وتحليلها (المادة:2-7 -2-4)، وتم تضمين ذلك في وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، علي أن يتوج ذلك بانتخابات حرة نزيهة تحت اشراف مفوضية للانتخابات مستقلة ومحايدة(المادة:2-1-1-1)، واستفتاء علي تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية يدعم ويعزز خيار الوحدة.
ا- كما جاء في بروتكول مشاكوس: ايجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام، بل أيضا بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الانسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني.
كانت تلك الأضلاع الثلاثة الحد الأدني الذي بنت عليه جماهير الشعب السوداني الآمال العراض و تأييدها للاتفاقية التي اوقفت نزيف الحرب، رغم عيوب الاتفاقية التي لا تخطئها العين، التي كانت ثنائية ،وتم استبعاد ممثلي القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخري، ولا سيما أن الاتفاقية تناولت قضية أساسية تتعلق بمصير السودان ووحدته فلا يمكن ان تترك لشريكين، فالمؤتمر الوطني لايمثل الشمال ولا الحركة الشعبية تمثل الجنوب، وكانت الحصيلة شراكة متشاكسة كّرست الشمولية والديكتاتورية.
اضافة للثغرات الأخري في الاتفاقية مثل تقسيم البلاد علي أساس ديني، واقتسام السلطة الذي كرّس الصراع بين الشريكين وهيمنة المؤتمر الوطني في الحكومة المركزية والمجلس الوطني من خلال الأغلبية الميكانيكية والتي افرغ بها المؤتمر الاتفاقية من مضمونها وتم إعادة إنتاج الشمولية والديكتاتورية، اضافة لوجود نظامين مصرفيين والذي اكدت التجربة العملية فشله، اضافة للخلل في توزيع عائدات النفط بين الشمال والجنوب والتي لم تذهب الي التنمية وخدمات التعليم والصحة والزراعة والصناعة والبنيات الأساسية.الخ.
لكن، كما هو معروف لم يتم تنفيذ الاتفاقية بالشكل المطلوب، وكانت النتيجة انفصال الجنوب.
د - تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018
تناولنا هذه الفترة بتفصيل في دراسات ومقالات سابقة التي كانت أهم معالمها قطع انقلاب اللجنة الأمنية الطريق أمام الثورة ، ومجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة والولايات لتصفية الثورة ، اضافة لتراجع قوى الحرية والتغيير عن ميثاق إعلان الحرية والتغيير الذي وقع في يناير 2018 الذي ركز على قيام الحكم المدني الديمقراطي ، بالتوقيع على الوثيقة الدستورية التي كرّست الشراكة مع العسكر وقننت الجنجويد دستوريا ، وحتى الوثيقة الدستورية تم الانقلاب عليها بالتوقيع على اتفاق جوبا الذي تحول لمحاصصات ومناصب ،والهادف لتصفية الثورة ، وانقلاب 25 أكتوبر ، بعد ذلك تم الانقلاب على الاتفاق الإطاري بعد صراع العسكر والجنجويد على فترة دمج الجنجويد في الجيش ، مما أدي لانفجار الحرب الراهنة التي قضت على الأخضر واليابس.
مما يتطلب وقف الحرب ومواصلة الثورة ، واستلهام الدروس السابقة والخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية وتنفيذ المواثيق التي يتم الاتفاق عليها ، وهذا ما نعنيه بترسيخ الحكم المدني الديمقراطي واستدامة الديمقراطية الذي يبدا بقيام نظام ديمقراطي مستدام، وتنمية متوازنة، وسلام عادل وشامل، وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وضمان السيادة الوطنية، وحماية ثروات البلاد، وانجاز أهداف ثورة ديسمبر ومهام الفترة الانتقالية .
alsirbabo@yahoo.co.uk
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الفترة الانتقالیة بعد المؤتمر الوطنی جنوب السودان فی الحرب بعد ثورة
إقرأ أيضاً:
ما الذي سيدمّر أميركا في صراع النظام العالمي الجديد؟
مقدمة المترجم
تقدم سارة باين، أستاذة التاريخ والإستراتيجية العليا في كلية الحرب البحرية الأميركية منظورا لفهم الصراع العالمي الحالي بوصفه جولة أحدث من الصراع التاريخي بين القوى البرية "القارية" والقوى البحرية.
تعد الأرض هي عملة القوة من وجهة نظر القاريين لذا فإنهم يميلون دائما لتوسيع حيازتهم من الأراضي كما فعلت روسيا مع أوكرانيا، في المقابل يعد المال أو الثروة هو عملة القوة للنظام البحري، الذي تقوده الولايات المتحدة وقوامه الرئيسي حرية الملاحة والتجارة الحرة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف خسرت الهند بنغلاديش وربحتها الصين وباكستان؟list 2 of 210 مليارات دولار.. ما قصة صفقة صواريخ "باك-3″؟end of listتقول باين، في مقالها المنشور بمجلة فورين أفيرز، إن الصراعات الكبرى خلال القرنين الماضيين حسمت التفوق لصالح البحريين، منذ انتصار بريطانيا (البحرية) على فرنسا النابليونية (القارية) وهزيمة ألمانيا خلال الحربين العالميتين وكسر الطموحات القارية لليابان في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم انهيار الاتحاد السوفياتي تاركا الهيمنة المطلقة للولايات المتحدة على العالم. هذا التفوق، دفع حتى الدول القارية التقليدية مثل الصين إلى الاندماج في النظام البحري العالمي حتى وإن ظلت تسلك سلوكا قاريا توسعيا.
المشكلة الرئيسية -حسب الكاتبة- أن السنوات الماضية شهدت انتقادات متزايدة للمنظور البحري العالمي ليس فقط من قبل القوى القارية مثل روسيا أو الصين ولكن حتى من داخل الولايات المتحدة التي ترتد إلى نموذج قاري توسعي وتلّوح بالاستيلاء على أراضي جيرانها مثل كندا وغرينلاند وبنما.
وتحذر من أن هذا التوجه -إذا استمر- من شأنه أن ينتهي بالولايات المتحدة دولة وحيدة ومنبوذة بل وضعيفة وأن تتخلى طوعا عن المقومات المسؤولة عن قوتها وازدهارها من الأساس.
ويجدر التنويه أن المقال يعبر عن رؤية تتبنى القيم الغربية في مصطلحاته السياسية وقراءته للتاريخ، وبالتالي يحتاج القارئ لعين ناقدة، ومع ذلك فإن هذا المقال يحوز أهميته المعرفية من كونه بوابة لفهم الصراع على النظام العالمي الحالي من خلال الجغرافيا السياسية.
إعلان نص الترجمةتعيد المنافسة المحتدمة بين القوى العظمى تعريف العلاقات الدولية في عالم اليوم، لكنّ الخطوط العريضة لتلك المنافسة تظل موضع جدل. فمن ناحية، يستدعي بعض المراقبين السوابق الأيديولوجية للحرب الباردة، في حين يركز آخرون على التوازنات العسكرية المتغيرة، وهناك فريق ثالث يسلط الضوء على الطبيعة الشخصية للقادة العالميين وخيارتهم.
لكن الحقيقة هي أن الصراعات المعاصرة حول النظام الدولي تنبع من خلاف طويل الأمد -وإن كان غير معترف به بما يكفي- حول مصادر قوة الدول وازدهارها، وهو ما يقودنا إلى الجغرافيا التي أنتجت منظورين عالميين متعارضين: أحدهما قاري (يتمحور حول الأرض) والآخر بحري (يدور حول السيطرة على البحار).
في العالم القاري، تُعدّ الأرض هي عملة القوة. تعيش معظم الدول، بحكم موقعها الجغرافي، في عالم قاري بمحاذاة جيران متعددين، هؤلاء الجيران كانوا على مدار التاريخ هم الخصوم الرئيسيون بعضهم لبعض.
أولئك الذين لديهم ما يكفي من القوة لغزو الآخرين -القوى المهيمنة القارية مثل الصين وروسيا- يعتقدون أنه يجب تقسيم النظام الدولي فيما بينهم إلى مناطق نفوذ ضخمة، وهم يضخون الموارد في جيوشهم لحماية حدودهم، ويقهرون جيرانهم في حروبٍ تستنزف ثرواتهم، ويرسّخون حكمًا استبداديًّا في الداخل لإعطاء الأولوية للاحتياجات العسكرية على حساب الاحتياجات المدنية.
والنتيجة حلقة مفرغة نظرا إلى أن استمرار القمع الداخلي يتطلب من الطغاة وجود عدو كبير، واصطناع تهديدات أمنية تُؤدي إلى المزيد من الحروب.
على النقيض تماما، تتمتع الدول ذات الخنادق المحيطية (أي المحاطة بالبحار والمحيطات) بأمن نسبي من الغزو وبالتالي، يمكنها التركيز على مضاعفة ثرواتها بدلًا من محاربة جيرانها.
ترى هذه الدول البحرية أن المال وليس الأرض هو مصدر القوة لذا فإنها تعمل على تعزيز ثرواتها من خلال التجارة الدولية والصناعة، مما يقلل من وطأة الموازنة الصعبة بين الاحتياجات العسكرية والمدنية.
وبينما تنجذب القوى المهيمنة القارية نحو إستراتيجيات "اللعبة الصفرية" (Finite game) حيث يأخذ الفائز كل شي ويخسر المهزوم كل شي يفضل أصحاب المصلحة في النظام البحري "لعبة المنافع المتبادلة" (Infinite game) المتمثلة في مضاعفة الثروة وتبادل المنافع، لذا فإنهم ينظرون إلى جيرانهم كشركاء تجاريين، لا أعداء.
تعود جذور النظرة البحرية إلى العالم إلى زمان الأثينيين القدماء الذين اعتمدت إمبراطوريتهم على مراكمة الثروة من التجارة الساحلية. ترغب الدول ذات التوجه البحري في معاملة المحيطات كمشاعات، حتى يتمكن الجميع من مشاركتها والتجارة خلالها بأمان.
وليس من قبيل المصادفة أن هوغو غروتيوس (القاضي والفيلسوف واللاهوتي)، الأب المؤسس للقانون الدولي، جاء من الجمهورية الهولندية، وهي إمبراطورية تجارية (بحرية). ومنذ الحرب العالمية الثانية، طوّرت الدول ذات التوجه التجاري مؤسسات إقليمية وعالمية لتسهيل التجارة، وخفض تكاليف المعاملات، وتنمية الثروة، ونسّقوا جهود خفر سواحلهم وقواتهم البحرية للقضاء على القرصنة لضمان مرور التجارة.
إعلانوقد نتج عن ذلك نظام بحري متطور قائم على القواعد، يضم عشرات الأعضاء الذين يطبقون معًا القواعد التي تحميهم جميعًا.
تعد المنافسة الدائرة في عالم اليوم النسخة الأحدث من الصراع بين القاريين والبحريين. فمنذ الحرب العالمية الثانية، عكست إستراتيجية الولايات المتحدة مكانتها بوصفها قوة بحرية، وبفضل بنيتها الاقتصادية، كان لدى أميركا مصلحة في الحفاظ على التجارة وحرية التبادل التجاري، وبسبب موقعها الجغرافي وقوتها، كان بإمكانها منع بعض الدول من تقويض سيادة الدول الأخرى.
في الوقت نفسه، تسعى الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا إلى تقويض النظام القائم على القواعد لأن قادتها يعتبرون المجتمعات الأكثر ليبرالية تهديدًا وجوديًّا لحكمهم ورؤاهم الأمنية الوطنية.
ويمكن للولايات المتحدة أن تنتصر في الحرب الباردة الثانية، كما انتصرت في الحرب الباردة الأولى، عبر الالتزام بإستراتيجيات القوة البحرية الناجحة. ولكن إذا ارتدت البلاد إلى نموذج قاري -من خلال إقامة الحواجز وتهديد الجيران وتقويض المؤسسات العالمية- فمن المرجح أن تفشل، وحينها ربما لا تتمكن أبدا من التعافي.
إبان الحروب النابليونية، طورت المملكة المتحدة إستراتيجية بحرية حديثة لمواجهة القوى القارية مكنت لندن من أن تصبح القوة المهيمنة في العالم، ليس عن طريق نشر جيشها للقضاء على منافسيها، بل بإثراء نفسها من التجارة والصناعة، بينما كانت الدول الأوروبية الأخرى يُدمِّر بعضها بعضا عسكريا. كان على جميع الدول القارية الاحتفاظ بجيوش ضخمة إما لغزو جيرانها أو لردعهم وتجنب الغزو، وغالبًا ما نظمت هذه الدول اقتصاداتها وفقًا لاحتياجات جيشها، لا أولويات تجارها.
لكن المملكة المتحدة، المحمية من كل جانب بالمياه وبأسطولها البحري المهيمن، كانت أقل خوفًا من الغزو، لذا فإنها لم تكن بحاجة إلى قوة برية كبيرة ومكلفة، ومزعزعة سياسيا (ربما تقود انقلابا). وقد سمح لها ذلك الوضع بالتركيز على مضاعفة ثروتها من خلال التجارة، معتمدةً على أسطولها البحري للدفاع عن ممرات الشحن.
كانت بريطانيا عضوا ثابتا في عدد من التحالفات التي حاربت فرنسا. وبعد أن هزمت البحرية الملكية نابليون في معركة ترافالغار (1805- قبالة سواحل إسبانيا)، لجأ القائد الفرنسي إلى إستراتيجية اقتصادية، حيث فرض حصارًا واسع النطاق على التجارة البريطانية ضمن خطة أسماها "فرنسا أولًا".
لكن هذا الحصار أضر باقتصادات فرنسا وحلفائها أكثر بكثير مما أضر بلندن، التي كانت تتمتع بإمكانية الوصول البحري إلى أسواق بديلة في جميع أنحاء العالم وقد دفع الحصار نابليون إلى شن غزوه المدمر لروسيا، التي استمرت في التجارة مع البريطانيين.
وبدلًا من محاربة جيش نابليون الضخم بشكل مباشر، استخدمت المملكة المتحدة ثروتها المتنامية لتمويل وتسليح النمسا وبروسيا وروسيا والعديد من الدول الصغرى، التي حاصرت معًا الجزء الأكبر من قوات نابليون على الجبهة الرئيسية في وسط أو شرق أوروبا. ثم فتح البريطانيون مسرحًا جانبيا في شبه الجزيرة الأيبيرية أسماه نابليون "القرحة الإسبانية" (Spanish ulcer)، مما زاد استنزاف الفرنسيين.
أثقلت الخسائر التراكمية على هذه الجبهة والجبهة الرئيسية كاهل نابليون، مما أدى إلى هلاك جيشه عندما اجتمع عليه خصومه في وقت واحد. وقتها، عانت كل دولة أوروبية تقريبًا من أضرار الحرب الواسعة النطاق، لكن الاقتصاد البريطاني وحده خرج سالمًا (وهو ما حدث أيضا مع الولايات المتحدة التي خرجت بأقل الأضرار في كلتا الحربين العالميتين).
بعد الحروب النابليونية، أثمرت الثورة الصناعية نموا اقتصاديا مركبا تسبب في ميل الموازين أكثر لصالح القوى البحرية. وفجأة، أصبح اكتساب القوة من الصناعة والتجارة أسهل بكثير من حوزها عن طريق الحروب التي تُدمر الثروات.
إعلانواعتمد تحقيق ذلك على خطوط الاتصال الخارجية التي توفرها البحار بدلًا من الخطوط الداخلية التي استخدمتها القوى القارية، مثل فرنسا النابليونية، للدفاع عن إمبراطورياتها وتوسيعها. ونتيجة لذلك، أصبح النظام العالمي اليوم بحريًّا بطبيعته، على الرغم من أن قلة من الناس يدركونه حقا بهذه الطريقة.
واليوم يعيش حوالي نصف سكان العالم على ضفاف البحار، وتُشكل المناطق الساحلية ما يقرب من ثلثي الثروة العالمية، وتصل 90% من السلع المتداولة (مقاسة بالوزن) إلى وجهتها النهائية عبر المحيطات، وتُمثل الكابلات البحرية 99% من حركة الاتصالات الدولية، في حين تُنظم الهيئات والمعاهدات الدولية حرية التجارة.
وبينما تربط البحار كل شيء، لم يعد بإمكان دولة واحدة أن تبقيها مفتوحة، ولكن تحالف الدول الساحلية معا هو الذي يجعلها آمنة للنقل.
أفاد هذا النظام شعوب العالم وقلل من الاختناقات، مما أدى إلى خفض التكاليف. كما أن البحار الآمنة والمفتوحة سهلت النمو الاقتصادي، ورفعت مستويات المعيشة وأصبح بإمكان الناس السفر والعمل والاستثمار في الخارج.
ويُعد المليارديرات أكبر المستفيدين من النظام البحري لأنهم الأكثر عرضة للأضرار عند زوال القواعد، ولأن مصالحهم الاقتصادية عالمية بطبعها، كما أن الدول المنخرطة في النظام البحري أغنى بكثير من تلك التي تسعى إلى تقويضه.
وحتى أولئك الذين يريدون قلب هذا النظام قد استفادوا منه والمثال الأبرز على ذلك هو الصين التي لم تبدأ رحلة صعودها إلا بعد انضمامها إلى النظام البحري مع انتهاء الحرب الباردة.
أما الاقتصادان الإيراني والروسي فكانا سيصبحان أكبر بكثير من حجمها اليوم لو أن كلتا الدولتين التزمت بالقانون الدولي وانخرطت بشكل أكبر في النظام التجاري العالمي.
التوسع.. ثم الانهيارفي العالم القاري، ترتبط القوة بالأرض والسيطرة عليها ويعد الجيران دائما مصدر خطورة وتعمل القوى المهيمنة القارية باستمرار على زعزعة استقرار الدول المجاورة. يحدث ذلك في الزمن الحديث عن طريق إغراقها بأخبار كاذبة لتأجيج الاستياء الداخلي والخلافات الإقليمية.
وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى الجيران الضعفاء كمصدر للتهديد إذ يمكن أن ينتشر الإرهاب والفوضى عبر الحدود المشتركة. والنتيجة النهائية أن الدول القارية (القوية) غالبا ما تغزو جيرانها وتبتلعهم، وتقضي على التهديدات المحتملة عبر مسحها نهائيا من الخريطة.
في سعيها لزيادة حجمها وقوتها، تتبع القوى المهيمنة القارية الناجحة قاعدتين: تجنب خوض الحروب على جبهتين في وقت واحد، وتحييد جيرانها من القوى العظمى. لكن نظرية الأمن القارية لا تقدم أي نصيحة بشأن متى يجب التوقف عن التوسع، ولا تُفضي إلى تحالفات دائمة.
ونتيجة لذلك، غالبًا ما يجد القاريون أنفسهم غارقين في التوسع، ومعزولين وفي النهاية مُعرضين لخطر الانهيار بسبب الاستنزاف المستمر للثروات بفعل الحرب.
على سبيل المثال، كان بإمكان ألمانيا أن تُهيمن اقتصاديًّا على القارة الأوروبية خلال القرن العشرين، بالنظر لمعدل نموها الاقتصادي الأسرع مقارنةً بجيرانها لكنها خاضت حربين عالميتين توسعيتين انتهكت في كلتيهما قواعد نظرية الأمن القارية بالقتال على جبهات متعددة ضد قوى عظمى مختلفة.
هذه الحروب، بدلًا من ترسيخ هيمنة ألمانيا، أخّرت صعودها لأجيال وخلفت تكلفة باهظة في الأرواح والثروات في جميع أنحاء أوروبا.
وكذلك، ازدهرت اليابان في ظل نظام تجاري بحري ولكنها سارعت في ثلاثينيات القرن العشرين إلى تبني نموذج قاري وبناء إمبراطورية واسعة في البر الرئيسي الآسيوي.
وكما حدث لألمانيا، أسفر سعيها في البداية عن امتلاك أراضٍ أوسع، ولكنه أنتج أعداء متعددين وتوسعًا عسكريًّا واقتصاديًّا مفرطًا دمّر اليابان والدول التي غزتها.
وبعد الحرب، عادت اليابان إلى نموذج بحري قائم على العمل من خلال المنظمات الدولية وبموجب القانون الدولي وقد أنتج هذا المعجزة الاقتصادية اليابانية، حيث سرعان ما أصبحت هذه الدولة المُدمّرة إحدى أغنى دول العالم (كما شهدت هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان معجزات اقتصادية خلال الحرب الباردة بفضل النظام البحري).
كان التوسع المفرط عاملًا محوريا أيضا في سقوط الاتحاد السوفياتي. لم تكتفِ الإمبراطورية السوفياتية بابتلاع أوروبا الشرقية في نهاية الحرب العالمية الثانية، بل إنها فرضت نموذجا اقتصاديا يُفضي إلى الحكم الدكتاتوري، دون أدنى مراعاة للنمو الاقتصادي. ثم وسّعت نطاق هذا النموذج ليشمل أكبر قدر ممكن من العالم النامي، لكن الاقتصاد السوفياتي الخامل لم يستطع تحمّل مغامرات موسكو الإمبريالية ومشاريعها غير العملية.
إعلانفي الحرب العالمية الأولى، انتهجت كل قوة أوروبية، بما فيها المملكة المتحدة، إستراتيجيات قارية تطلبت استخدام جيوش ضخمة لتأسيس إمبراطوريات متنوعة ذات أراضٍ متداخلة. كان لكل دولة خصوم رئيسيون مختلفون ومسارح رئيسية مختلفة، حتى داخل التحالف الواحد، مما أدى إلى سلسلة من الحروب المتوازية.
لقد عانت القوى الأوروبية، بما فيها المملكة المتحدة، لأنها سمحت لضباط الجيش بالإشراف على المجهود الحربي دون مساهمة كافية من القادة المدنيين الذين كانت لديهم رؤى ثاقبة حول الأسس الاقتصادية للقوة.
يمكن القول إنه لا توجد دولة أوروبية تعافت تماما من خسائرها في الحرب العالمية الأولى. دمرت الحرب الإمبراطوريات القارية التي أصرت على خوضها وهي النمسا والمجر وألمانيا وروسيا.
وعلى الرغم من انتصارهما، كانت فرنسا والمملكة المتحدة أسوأ حالًا بعد الحرب، كما خرجت الولايات المتحدة بنهج انعزالي ممهدة الطريق لأصحاب مبدأ "أميركا أولًا" الأوائل، الذين فرضوا تعريفات جمركية عمّقت الكساد الكبير ومهّدت الطريق لحرب عالمية جديدة.
على النقيض تماما، خلال فترة السلام الطويلة بين الحروب النابليونية والحرب العالمية الأولى، تضاعف رخاء أوروبا. وكذلك، عندما اتبعت الولايات المتحدة النموذج البحري للفوز في الحرب العالمية الثانية، تلا ذلك ازدهار غير مسبوق.
وعلى خلاف ما حدث بعد الحرب العالمية الأولى، لم تتراجع واشنطن إلى الانعزالية بل تولّت زمام القيادة بمساعدة شركائها على إعادة البناء والعمل كضامن لنظام دولي أنشأته بالتعاون مع حلفائها بعد الحرب. حققت هذه المؤسسات نجاحا في أوروبا حتى غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا.
من المهم التأكيد على أن معظم دول العالم قارية بحكم الجغرافيا حيث تفتقر إلى خندق محيطي يعزلها تمامًا عن التهديدات، ويعني ذلك أن النظام البحري القائم على القواعد وحده هو الذي يوفر لهذه الدول الحماية الكاملة.
تدمج المؤسسات وأنظمة التحالف القدرات المتنوعة للدول لاحتواء تهديدات القلة وتعمل كـ"بوليصة تأمين" للنظام القائم على القواعد. وفي حين أن ذلك لا يلغي الأخطار تمامًا، فإنه يقللها إلى أقصى درجة ممكنة.
لكن العالم لا يزال يضم العديد من القاريين التقليديين، ومنهم الرئيس الروسي بوتين الذي أفصح بوضوح عن أنه ينوي توسيع حدود روسيا. وهكذا تعد السيطرة على أوكرانيا مجرد بداية فقط أما القائمة الكاملة فلخصها بوتين بقوله إن هناك قاعدة قديمة مفادها أن "أي مكان تطؤُه قدم جندي روسي، فهو ملكنا".
يشمل ذلك على أقل تقدير أوروبا الوسطى والشرقية، التي احتلتها القوات السوفياتية بعد الحرب العالمية الثانية وربما يتوسع إلى باريس التي وصلت إليها القوات الروسية في نهاية الحروب النابليونية.
وتماما كما فعلت خلال الحرب الباردة، تسعى موسكو اليوم إلى تفكيك الغرب من الداخل والخارج. لقد برع الروس في الدعاية منذ زمان الثورة البلشفية، واستخدموها بنجاح لتسويق الشيوعية حول العالم، مما كلف العديد من الدول عقودًا من تراجع النمو. والآن، تستخدم روسيا الدعاية لنشر "وهم" أن الناتو هو الذي يهدد روسيا وليس العكس.
وقد زادت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير من قدرة روسيا على بث الدعاية في الخارج، وهو ما تفعله من خلال تأجيج التوترات على جانبي العديد من القضايا الخلافية.
على سبيل المثال، سعت موسكو إلى تحويل الحرب في أوكرانيا إلى قضية خلافية تفصل الولايات المتحدة عن أوروبا، وتفرق الدول الأوروبية المختلفة، مما يُضعف كلًّا من الناتو والاتحاد الأوروبي.
كما ساهمت في الترويج لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أدى إلى تآكل علاقات المملكة المتحدة مع جيرانها في القارة العجوز.
وعملت روسيا كذلك على خلق تدفقات هائلة من المهاجرين بدعمها للديكتاتور بشار الأسد خلال الحرب الأهلية السورية (الثورة السورية*)، والآن بزعزعة استقرار أفريقيا، مما أدى إلى تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وقد أدت هذه التدفقات إلى زعزعة الاستقرار بشكل كبير، مما سهل صعود اليمين الانعزالي في القارة.
بالتزامن تسعى قوى قارية أخرى إلى قلب النظام العالمي الحالي. مثلا، تهدف كوريا الشمالية إلى السيطرة على شبه الجزيرة الكورية بأكملها، والقضاء على كوريا الجنوبية. أما مسرح إيران الرئيسي فهو الشرق الأوسط، حيث تسعى طهران إلى بسط نفوذها في العراق ولبنان وسوريا.
ثم هناك الصين التي ربما يوحي قرارها بالاندماج في النظام العالمي الحالي سعيا وراء الثروة بأنها تتبنى منظورًا بحريا حتى إنها بنت أسطولًا بحريًّا ضخمًا.
لكن بكين لا تستطيع نشر سفنها بفعالية في زمن الحرب بسبب البحار الضيقة والضحلة والمزدحمة بالجزر التي تحيط بسواحلها. هذا يجعلها أشبه بألمانيا، التي بنت أساطيل بحرية ضخمة لم تستطع استخدامها بشكل موثوق به في أي من الحربين العالميتين.
وقتها، حاصرت المملكة المتحدة بحر الشمال وبحر البلطيق الضيقين، مما أدى إلى القضاء على حركة الملاحة الألمانية وقصرها على الغواصات حتى إن برلين كانت بحاجة إلى السواحل الفرنسية والنرويجية الطويلة لتوفير مخارج أكثر موثوقية لغواصاتها، لكن ذلك لم يكن كافيًا لبحريتها، فضلًا عن أسطولها التجاري.
واليوم تعتمد الصين الآن على التجارة والواردات أكثر من ألمانيا آنذاك، وخاصة في مجالي الطاقة والغذاء، ومن المرجح أن تؤدي الاختناقات الاقتصادية الناجمة عن توقف تجارتها المحيطية إلى إضعاف اقتصادها.
وكما أثبتت أوكرانيا التي نجحت في إغراق سفن روسية، يمكن حتى للطائرات المسيرة (الرخيصة) إغلاق البحار الضيقة. لدى الصين 13 جارا بريا و7 جيران بحريين، ولا يخلو الأمر من خلافات معهم. ويمكن لهؤلاء الجيران -باستخدام الغواصات والمدفعية الساحلية والطائرات المسيرة والطائرات المقاتلة- إغلاق حركة المرور التجارية للصين وجعل الحركة البحرية في محيطها محفوفة بالأخطار.
على النقيض لا يحتاج العديد من جيرانها الساحليين القريبين إلى عبور بحر الصين الجنوبي للوصول إلى المحيط المفتوح، فإندونيسيا وماليزيا والفلبين وتايلاند وتايوان، جميعها لديها سواحل بديلة على البحار المفتوحة، مما يجعل حصارها أمرًا صعبًا.
نتيجة لذلك، فإن الصين شأنها شأن روسيا لا تزال تمتلك منظورا قاريا، فبالإضافة إلى المطالبات الإقليمية بجزر تابعة لليابان والفلبين، وتهديدها باستخدام القوة للاستيلاء على تايوان، تسعى بكين إلى الحصول على أراضٍ من بوتان والهند ونيبال.
وعندما يعرف المواطنون الصينيون أراضيهم التاريخية، فإنهم يذهبون إما إلى أراضي سلالة يوان المغولية، التي امتدت حتى المجر، أو إمبراطورية مانشو تشينغ، التي شملت الأراضي التي تنتزعها مبادرة الحزام والطريق الآن من دائرة النفوذ الروسي.
ولا يزال الصينيون يحملون اسمين لأنفسهم، إما "المملكة المركزية" أو الاسم الأكثر بريقا "تيان خا" الذي يعني "كل ما تحت السماء" ويشير إلى نظام عالمي متكامل يشمل أراضي الصين وجميع الأراضي التي تغزوها.
ولكن على عكس موسكو، لم تشنّ بكين بعد حروبا عدوانية صريحة لكنها تدير حربًا مالية بقروضها "الجشعة" تحت إطار مبادرة الحزام والطريق، التي تُغرق المستفيدين منها في ديون هائلة. كما تشنّ حروبا إلكترونية، وتخترق البنية التحتية الحيوية للدول الأخرى وتسرق أسرارها.
وتُشارك في حرب الموارد من خلال الحد من صادرات المعادن النادرة، كما تخوض حرب مخدرات من خلال إغراق الولايات المتحدة بالفنتانيل. حتى إنها انخرطت في حروب غير نظامية، بغارات على الأراضي الهندية أسفرت عن مقتل جنود هنود، وتعد هذه وصفة "قارية" للتوسع المفرط.
تجنب الكارثةلمواجهة القاريين، لا تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إعادة اختراع العجلة، فالإستراتيجية التي انتصرت بها خلال الحرب الباردة لا تزال صالحة اليوم. تبدأ هذه الإستراتيجية بإدراك أن هذا الصراع -كسابقه- سيطول أمده.
وبدلًا من محاولة إيجاد حل سريع، كان من الممكن أن يُشعل حربًا نووية، أدار المنتصرون الحرب الباردة الأولى لأجيال عديدة، وتنطبق النصيحة نفسها اليوم: يجب على القوى البحرية التحلي بالصبر والحفاظ على هدوء الصراع الحالي.
وينبغي لها تجنب "الحروب الساخنة" في المناطق التي تفتقر إلى منافذ بحرية كافية، وفي الدول المحاطة بخصوم معادين يُحتمل تدخلهم، وتنطبق هذه الخصائص على أفغانستان والعراق، وتساعد في تفسير تدخلات واشنطن الفاشلة هناك.
وبدلا من خوض حروب "ساخنة" فاشلة، يجب على الولايات المتحدة وشركائها الاستفادة من قوة العالم البحري الهائلة في مواجهة نقطة الضعف الكبرى للقاريين وهي قدراتهم المتفاوتة على خلق الثروات.
ينبغي عليهم استبعاد القاريين من فوائد النظام البحري بفرض عقوبات عليهم حتى يكفوا عن انتهاك القانون الدولي، ويضعوا الحرب جانبا، ويتبنوا الدبلوماسية. وعلى خلاف التعريفات الجمركية المصممة أساسا لحماية المنتجين المحليين تهدف العقوبات إلى تجريم معاملات بعينها ومعاقبة "الجهات الخبيثة".
وحتى العقوبات البسيطة التي تُقلّص معدلات النمو بنقطة مئوية أو نقطتين، يُمكن أن تُؤدي إلى آثار مُركّبة مُدمّرة على المدى الطويل كما تُوضّح مُقارنة كوريا الشمالية الخاضعة للعقوبات وكوريا الجنوبية غير الخاضعة لها. تُعدّ العقوبات شكلًا من أشكال "العلاج الكيميائي الاقتصادي"، وقد لا تُزيل الورم، لكنها ستُبطئ نموه، كما أنها فعّالة بشكل خاص في إعاقة التطور التكنولوجي، كما حدث مع السوفيات.
في الوقت ذاته، ينبغي لواشنطن وشركائها استيعاب الدول غير المُعادية. لقد أدرك المنتصرون في الحرب الباردة أن التحالفات تراكمية بطبعها، فالشركاء يُضيفون قدرات جديدة بعضهم لبعض. لذا، ينبغي للولايات المتحدة تعزيز شبكتها من التحالفات وتوسيعها، وينبغي أن تُركز على الحفاظ ليس فقط على ازدهارها، بل أيضًا على ازدهار شركائها.
كما يتعين عليها أن تُساعد الدول الحليفة المُحاصرة بالقاريين، غير القادرة على المقاومة بمفردها. وكما سلّح الغرب أعداء موسكو حتى انسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان ثم انهياره، يجب على الغرب الآن مساعدة أوكرانيا مهما طال الزمن. فكلما طال أمد الصراع في أوكرانيا، ضعفت موسكو، مما يُعرّضها لاحتمال "الافتراس" الصيني.
وفي حال سقط النظام الحالي في روسيا فإن صراع الخلافة الناتج عن ذلك سيُجبرها على تقليص التزاماتها الخارجية كما حدث مع الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الكورية، عندما أدى موت جوزيف ستالين إلى انتهاء الصراع بسرعة.
وإذا كفّ أيّ من القاريين عن طمعه في أراضي الدول الأخرى، وساهم بدلًا من ذلك في تحسين القوانين والمؤسسات الدولية، فعلى الولايات المتحدة وشركائها الترحيب به في النظام القائم على القواعد، ولكن إذا لم تتغير هذه الدول، فالاحتواء هو الحل.
لقد تفوقت واشنطن في مواجهتها السابقة مع موسكو ليس بنصر عسكري كبير، بل بالازدهار الاقتصادي بينما عانى الاتحاد السوفياتي من تدهور اقتصادي من صنع أيديه. وفي ثمانينيات القرن الماضي، بينما كان السوفيات ينتظرون في طوابير للحصول على السلع الأساسية، كان الأميركيون يقضون إجازات عائلية باهظة.
وينبغي أن يكون هدف أميركا الحالي هو الحفاظ على ازدهار الديمقراطيات الأخرى وشركائها مع إضعاف القاريين. صحيح أن هذه القوى الأخيرة لن تختفي في أي وقت قريب، ولكن إذا لم تتمكن من مواكبة معدلات النمو الاقتصادي لأولئك الذين يدعمون النظام البحري، فإن التهديد النسبي الذي تشكله سوف يتقلص مع الوقت.
أزمة التدهور الأميركيلم تكن أخطار الصدام بين النظام القاري والنظام البحري القائم على القواعد بهذا القدر من الارتفاع من قبل. ففي عالم اليوم هناك العديد من القوى النووية المتحفزة، والولايات المتحدة تتراجع بشكل متزايد عن دور الضامن النهائي للنظام العالمي من خلال دعم حلفائها وتوسيع مظلتها النووية.
وإذا اتسعت الصراعات في أوكرانيا، وفي أنحاء أفريقيا، وبين إسرائيل وإيران، واندمجت، فلربما تندلع حرب عالمية ثالثة كارثية. وعلى عكس الحروب السابقة، سيكون الجميع عرضة للضربات النووية وتداعياتها السامة.
لقد اتخذت الولايات المتحدة بالفعل خطوات كبيرة لهزيمة خصومها القاريين، ففرضت عقوبات صارمة وضوابط على الصادرات، وموّلت وسلحت الدول التي تواجه خصومًا مشتركين.
لكن منتقدي النظام القائم على القواعد يكتسبون قوة، وحتى كبار المسؤولين الأميركيين أصبحوا ينتقدون النظام الحالي. وخلال العام الماضي، بدا أن الولايات المتحدة انتهجت نهجا قاريا رغم أنها ستظل دائما تمتلك خنادقها المائية الطبيعية -المحيطين الأطلسي والهادي- لحماية برها الرئيسي. لكنها تشترك أيضًا في حدود طويلة مع كندا والمكسيك، وواشنطن تخوض صراعات مع كليهما.
انتقدت الولايات المتحدة بشدة العديد من الديمقراطيات الصديقة، وفرضت رسومًا جمركية على شركائها التجاريين، وشلت المؤسسات الدولية التي تُسهّل النمو الاقتصادي العالمي كما لوحت برغبتها في ضم كندا، والاستيلاء على غرينلاند من الدنمارك، واستعادة قناة بنما، وهي تصرفات من شأنها أن تُمزق التحالفات الغربية على المدى الطويل، وربما تحول الولايات المتحدة من قوة محورية إلى قوة هامشية، حيث يُشكّل شركاؤها السابقون تحالفات جديدة بدونها.
سيستغرق هذا التحول وقتًا، لكن إن حدث، فستكون التغييرات دائمة. سيزداد الأوروبيون قوةً معًا، تاركين الولايات المتحدة أضعف وأكثر عزلة. وفي أسوأ السيناريوهات، قد تصبح واشنطن خصمًا رئيسيًّا مشتركًا للصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا، دون أن يبقى لها حلفاء لمساعدتها.
ولكن حتى لو لم يحدث ذلك، فقد تضطر إلى منافسة بكين بمفردها وساعتها لن تكون قادرة على تحقيق النصر. يبلغ عدد سكان الصين ثلاثة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة تقريبًا، ولديها قاعدة تصنيع أكبر بكثير كما أنها تمتلك أسلحة نووية يمكنها الوصول إلى الأراضي الأميركية، وقد لا يكون لديها أي تحفظات أخلاقية بشأن استخدامها. وساعتها ربما تصبح الولايات المتحدة أيضا أقل قلقًا بشأن نشر ترسانتها، مما يهدد بنشوب كارثة عالمية.
بالنسبة لواشنطن، فإن انتهاءها إلى مصير مشؤوم من الهزيمة والعزلة سيكون خاتمة مأساوية للعقود الثمانية الماضية. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، كسبت الولايات المتحدة أصدقاءَ حول العالم، لكن هذا الرأسمال الأخلاقي، المُكتسب بتكلفة باهظة، يتبدد الآن.
وكما هو الحال مع فرنسا نابليون، فإن العودة الأخيرة إلى مبدأ "أميركا أولًا" تُثير حفيظة الحلفاء في كل مكان في وقت يتلذذ فيه أعداء واشنطن برؤيتها تتدهور.
لقد استخفّ الكثير من الأميركيين بمزايا النظام البحري، وركزوا على عيوبه، مُبددين بذلك مزاياهم الجغرافية والتاريخية العديدة، لكنهم لن يدركوا ما فقدوه إلا إذا تلاشى هذا النظام. وساعتها ستنطبق عليهم مرثية الزعيم الأثيني بريكليس عشية سلسلة من الأخطاء الأثينية التي أنهت تفوق المدينة إلى الأبد: "أخشى أخطاءنا أكثر من خشيتي لدسائس أعدائنا".
———————-
* إضافة المترجم
هذا المقال مترجم عن فورين أفيرز ولا يعبر بالضرورة عن موقف شبكة الجزيرة التحريري