بعد تأخير طويل، ملأت كلّ دقيقة منه، دماء ودموع عشرات آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، نجحت المحكمة الجنائية الدولية في أن تتجاوز المصالح الذاتية لقضاتها، وتأخذ قرارها بالتصديق على طلب المدّعي العام، بإصدار مذكّرات اعتقال بحقّ بنيامين نتنياهو ووزير جيشه السابق يوآف غالانت.
كان مرور كلّ هذا الوقت، قد شكّل مأخذاً سلبياً على المحكمة التي استعجلت كثيراً في إصدار أمر اعتقال بحقّ الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، في حالة تفضح سياسة الكيل بمكيالين التي تنتهجها الولايات المتحدة الأميركية، والدول الغربية.
نقدّر بطبيعة الحال الأعذار التي قد يقدّمها قضاة المحكمة ومدّعيها العام، الذين تعرّضوا خلال كلّ هذا الوقت لضغوط هائلة وتهديدات صريحة باتخاذ عقوبات ضدّهم في حال اتخذوا مثل هذا القرار التاريخي.
هم لا يزالون تحت ضغط التهديدات الأميركية والإسرائيلية، التي تتوعّدهم بعقوبات صارمة، ولكن كما هي نهايات الأشياء فلا يحقّ إلّا الحقّ مهما تأخّر أمده.
فلقد أمعنت دولة الاحتلال في عنادها وغيّها وبغيها، ومواصلتها ارتكاب المجازر والإبادة الجماعية، وها هي تنقلها إلى لبنان الذي يتعرّض لشيءٍ ممّا كابده ويكابده سكّان قطاع غزّة.
ظنّت دولة الاحتلال أنّها ستكون هذه المرّة كما كلّ مرّة، قادرة على التهرُّب من استحقاقات المساءلة وسيف العقوبات، وكان يمكنها أن تنجح بفضل الحماية الأميركية الدائمة لولا أن ما ترتكبه من مجازر بحقّ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، ومنظومة القيم الإنسانية، قد فاق كلّ ما يمكن أن يرد على عقل إنسان مجنون وليس فقط إنساناً سوياً.
إصدار مذكّرات الاعتقال، يشكّل بداية ملفّ مفتوح، على مزيدٍ من التحقيقات التي لا تزال جارية، وقد تطال العقوبات، مسؤولين سياسيين وأمنيين وعسكريين إسرائيليين.
بل إن بعض الصحف العبرية كانت قد أشارت إلى احتمال صدور مذكّرات توقيف بحقّ ضباط وجنود متهمين بارتكاب مجازر إبادة جماعية سواء باستخدام الذخائر، أو عَبر التجويع والتعطيش واستهداف المنظومات الصحية، ومنظومات الدفاع المدني.
وبرأينا فإنّ أهمية أوامر التوقيف بحقّ نتنياهو وغالانت تتعدّى احتمالية القدرة على تنفيذ الأمر، حيث سيتجنّب الاثنان السفر، أو المرور عَبر أجواء الدول الملتزمة بقرار المحكمة.
المحاكمة التي جرت تتجاوز البُعد الشخصي للمتهمين، إلى محاكمة الدولة العبرية كدولة بكل مؤسّساتها سواء المشاركة في حرب الإبادة، أو التي حملت هؤلاء إلى السلطة، وأعطتهم التفويض بذلك.
دولة الاحتلال إذاً في قفص الاتهام، لدى "الجنائية الدولية" وهي كانت منذ أشهر في قفص الاتهام لدى "العدل الدولية" التي يترتّب عليها بعد وقتٍ لن يطول أن تصدر هي الأخرى أحكامها بشأن تهم الإبادة الجماعية التي ترتكبها عن سابق قصدٍ وترصُّد.
الحرب مستمرّة، ويستمرّ جيش الاحتلال في ارتكاب المجازر في غزّة، والضفة الغربية، ولبنان، من دون أمل في تحقيق انتصارٍ حاسم أراده نتنياهو وائتلافه "اليميني" المتطرّف والفاشي.
مُحاصَر نتنياهو داخلياً، حيث تنتظره المحكمة بشأن قضايا الآلاف، ومحاصر حيث انفجرت في وجهه، ملفّات التسريبات التي تشهد فصولاً جديدة، وهو محاصر من قبل القضاء من ناحية وإيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من ناحية ثانية.
وهو الآن وكيانه المحتلّ محاصرون من قبل المجتمع الدولي، حيث تحوّلت الدولة الديمقراطية المزعومة، إلى دولة منبوذة، فقدت سرديّتها وفقدت هيبتها ومكانتها، حتى في المجتمعات التي عبّر زعماؤها عن الوقوف إلى جانبها منذ بداية الحرب الإبادية.
هل نعطي مثالاً على ذلك، ليس حصرياً، في العلاقة المتردّية بين دولة الاحتلال وفرنسا، والتي بلغت حدّ رفض نتنياهو الدور الفرنسي في التسوية الجارية بشأن لبنان، أو مشاركة فرنسا في لجنة الإشراف.
"العالم" الذي توحّد إلى جانب حكومة نتنياهو الفاشية، بدعوى حقّها في الدفاع عن نفسها، ها هو ينقسم حول استمرار الحرب التدميرية، وينقسم بشأن قرار "الجنائية الدولية".
وباستثناء أميركا، وعدد قليل من دول أوروبا الغربية، فإنّ المجتمع الدولي موحّد تقريباً خلف قرارات المحكمة الجنائية.
المسؤول عن السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيف بوريل الذي تنتهي ولايته هذا الشهر، شدّد على أنّ كلّ دول الاتحاد الأوروبي وهي منضمّة إلى معاهدة روما، المنشئة للمحكمة ملزمة بقراراتها وبحماية القانون الدولي.
نتنياهو سبق له أن اتهمّ بوريل بمعاداة السامية، هذه التهمة المتبقّية في جعبة دولة الاحتلال وحلفائها التي ترمي بها كلّ من انتقد أو عارض سياسة دولة الاحتلال.
سقطت هذه التهمة منذ كثير من الوقت حين قامت دولة الاحتلال بإلقاء هذه التهمة على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، ومجلس حقوق الإنسان، واحتجاجات طلبة الجامعات، وكلّ المؤسّسات التخصّصية والشخصيات الاعتبارية المتحدثة باسم الأمم المتحدة.
لم يبقَ في هذا العالم من يستخدم هذه التهمة المفضوحة سوى أميركا، وبعض المدافعين عن سياسة الائتلاف الصهيوني المتطرّف.
دماء الفلسطينيين واللبنانيين التي نزفت ولا تزال لم تذهب هدراً، فها هي هذه الدماء تتبختر في شوارع وأزقّة أميركا وأوروبا الغربية، وعواصم العالم، تهتف بالحرّية لفلسطين، وتطالب بوقف الدعم لحرب الإبادة الجماعية.
أظنّ أن نتنياهو في حيص بيص من أمره، لم يعد يملك مخرجاً يحفظ ماء وجهه، فلا انتصار، ولا سيطرة على غزّة، أو لبنان، ولا وقف للحرب الإجرامية، فإن وقفت هو مهزوم، وإن استمرت، استمرّ وتعمّق مأزق دولة الاحتلال وما من قوّة قادرة على إنقاذه، بريئاً حتى لو أراد صاحبه دونالد ترامب أن يساعده في تحقيق ذلك.
(الأيام الفلسطينية)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه نتنياهو غزة نتنياهو جرائم مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة دولة الاحتلال هذه التهمة
إقرأ أيضاً:
كنتُ سأشعر بالرعب لو كنتُ إسرائيلياً!
هذا العنوان ليس للإثارة.
على العكس تماماً من ذلك، لأن المسألة على أعلى درجات الجدّية.
لو كنتُ إسرائيلياً لسألتُ نفسي السؤال التالي:
إذا كان استمرار الحرب بأشكال أكثر عنفاً وقسوةً تجلب لنا، «الإسرائيليين» المزيد من الأزمات المتلاحقة، على كلّ المستويات الداخلية والخارجية، أمنياً وعسكرياً واقتصادياً دون تحقيق نتائج حاسمة في كل ملفات الإقليم والحروب على كافة جبهات هذا الإقليم، فلماذا لم تتوقف هذه الحرب؟ ولماذا لا تتوقف الآن؟ وماذا يعني أن تستمرّ، ولا تتوقف مع كل ما تجلبه على دولة الاحتلال، وعلى مجتمعها من ويلات؟
قد يقول قائل: إن الإسرائيليين ليسوا على قلب رجلٍ واحد إزاء هذه الحرب، وإن هناك قطاعات لا يمكن الاستهانة بها لها مواقف ومصالح مختلفة عن قطاعات أخرى بدأت تطرح على نفسها مثل هذه التساؤلات التي باتت ليس فقط مشروعة، وإنّما حارقة في جزء منها، إن لم نقل كلّها.
هذا كلّه صحيح. ففعلاً هناك جوّ عنصري يميني يكاد يكون طاغياً وهناك من درجات الحدّة، الاستقطاب باتجاه مغاير لوجهة هذه التساؤلات ما يفسّر هذه الاندماجات التي لا تتوقف نحو المزيد من الإيغال في هذه الحرب، بل وهناك من المصالح الحزبية، وكذلك السياسية ما يغذّي ويشجّع على استمرار هذه الحروب.
ومع كل ذلك، فهناك بالمقابل من النتائج، والمعطيات والحقائق ما يفقأ العيون لجهة حجم الفشل والعجز، ولجهة كل ما آلت إليه هذه الحروب حتى الآن.
موضوع الفشل في حسم أي من الملفات أشيع جدلاً ونقاشاً، كما استنفد نفسه، ذلك لأن معطياته أصبحت ماثلة للعيان.
الملفّ الرئيس بالنسبة للإستراتيجيتين الأميركية والإسرائيلية الذي كان «قابلاً» للحسم هو ملف الحرب على قطاع غزّة، وهو الملف الأهم والأكثر جوهرية في كل الإقليم. وكان الذهاب إلى محاولة حسم الملفات الأخرى - كما بات مكشوفاً تماماً الآن - هو الطريق الذي اختاره التحالف الأميركي الإسرائيلي كمرحلة «إجبارية» وكمدخل مباشر لحسم ملف الحرب على القطاع، ولم يكن هذا الاختيار عبثياً، بل كان منطقياً وعقلانياً من زوايا كثيرة وكبيرة فعلاً، رغم ثبوت فشله.
الذي جرى فعلاً أن دولة الاحتلال بدعمٍ كامل، وعلى أعلى درجات المواكبة والتنسيق مع إدارة دونالد ترامب، وقبله إدارة جو بايدن حققت نجاحات كبيرة، وأنجزت اختراقات مذهلة في المجالات الاستخبارية، ولكنها عجزت عن الحسم.
فعلاً لو كنتُ إسرائيلياً لأُصبتُ بالرعب
بمبادرة أميركية مباشرة، وقرارات لا لبس فيها انسحبت الولايات المتحدة الأميركية من استمرار المواجهة مع جماعة «أنصار الله» الحوثيين اليمنية، وتوقفت الحرب على الجبهة اللبنانية، وتوقفت من طرف واحد وبصورة مباغتة مع إيران، وعادت هذه الإدارة لتعطي للدولة العبرية المزيد من الوقت والدعم العسكري، والمزيد من الدعم والغطاء السياسي، وأدخلت نفسها في الآليات المباشرة للإبادة، وآخر فصول هذه الإبادة، وبأشكالها الأكثر إجراماً ووحشية، والتي عبّرت عن نفسها بإستراتيجية التجويع.
فعلاً لو كنتُ إسرائيلياً لأُصبتُ بالرعب.
أمام كل هذا السياق الحقيقي والواقعي لمعطيات هذه الحرب الهمجية ما الذي تفعله دولة الاحتلال؟ وإلى أين تجرّ المنطقة؟ وإلى أين تجرجر مجتمعها، ولأي أهداف؟
عندما تتحوّل إستراتيجية التجويع إلى «البديل» الجديد لعجزها عن حسم الحرب البربرية بوساطة «عربات جدعون»، وعندما تتورّط أميركا في أدقّ تفاصيل وآليات هذه الإستراتيجية، وتكون النتيجة انتفاضة سياسية في الغرب الأوروبي ضد هذه الإستراتيجية المتبقية في يدها، ويعقد مؤتمر نيويورك ويحشد ويحتشد العالم وراء «حل الدولتين»، بصرف النظر عن الملاحظات على التسمية، وعلى أمور أخرى تثير المخاوف والتحفّظات، ثم تعلن دول جديدة في أوروبا استعدادها ورغبتها ونيّتها الاعتراف بدولة فلسطين..
عندما تكون نتيجة إستراتيجية التجويع الإبادية هي هذه الخسارات الكبيرة، والتي تضرب كامل الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية في الصميم، وفي مقتل، فما الذي تبقّى لدولة الاحتلال من مراهنات؟
لا نريد أن نتوسّع في الخسائر العسكرية التي تكبّدتها دولة الاحتلال، لأن الحقائق تبدو أكبر بكثير ممّا يسمح به النشر، حتى لا نتحدث عن خسائر الاقتصاد وهروب الأفراد والرساميل. لكن الفشل والإخفاق الأكبر تمثل حتى الآن بما هو أكبر وأهم من ذلك كله.
فقد خسرت دولة الاحتلال ثلاثة محاور مفصلية كانت تلعب أثراً مباشراً وهائلاً في أوراق قوّتها.
خسرت صورة الدولة التي تدافع عن نفسها، الدولة التي تتعرّض للظلم، وتتعرض للكراهية من المحيط، والدولة التي تحيط بها الأخطار من كل جانب.
هذه الدولة، في نظر غالبية شعوب الأرض هي دولة مجرمة، إرهابية، تمارس الإبادة والتطهير العرقي، وتمارس العنصرية السافرة، وتتحكّم بها قيادات سياسية تجاهر وتتغنّى بالفاشية، وتعطي لنفسها الحق بالتجاوز على أشكال القانون الدولي.
وخسرت دولة الاحتلال الحلف الغربي الأوروبي في جانب كبير منه، وتحولت الضغوط الشعبية على هذا الحلف إلى أداة تحوّلات سياسية تتعارض كلياً، وتتناقض مع السياق التاريخي لمواقفه في دعم دولة الاحتلال، منذ ما قبل نشأتها وحتى الآن. وبهذا المعنى، فإن الأخيرة أمام كارثة سياسية، لأن هذا الحلف كان الراعي والحامي والداعم والمساند، وهو الآن في مرحلة تصدّع لم تخطر على بال دولة الاحتلال في أسوأ كوابيسها.
والخسارة الثانية هي خسارة ثقيلة، وأكبرها أن يتم التراجع عنها، أو ردم الهوّة التي تولّدت عنها، وهي أن دولة الاحتلال تتحول إلى دولة عنصرية لا تمتّ للديمقراطية الليبرالية بأي صلة جوهرية وهي لم تعد كذلك ليس فقط لأنها ديمقراطية زائفة، وعنصرية، وتنصّ قوانينها على كونها ديمقراطية إثنية، وإنما لأنها تمارس هذه العنصرية بصورة يومية ضد كل فلسطيني، وضد كل عربي، وضد كل مسلم، وضد كل حرّ في هذا العالم، وأصبحت تعادي المنظمات الإسرائيلية نفسها، والمنظمات اليهودية التي تتصدّى لهذه الممارسة، وبالتالي فقد انتهت وإلى الأبد، وإلى غير رجعة مقولة «الواحة الديمقراطية» التي اعتاشت عليها دولة الاحتلال منذ قيامها وحتى الآن.
والخسارة الثالثة، وربّما هذه هي خساراتها الأفدح دورها كحامية مباشرة قادرة على تأمين مصالح الغرب الأوروبي، بل وتحولت واقعياً وموضوعياً إلى تهديد لهذه المصالح من زاوية ما يتعرض له الغرب الأوروبي من ضغوط شعبية عليه على الأقل.
نحن نقاتل بكل الوسائل المتاحة لكي لا نُهزم، ودولة الاحتلال تقاتل من أجل أن تنتصر. وبما أنها لا تنتصر، فإننا لن نُهزم.
لو كنتُ إسرائيلياً لأعدتُ النظر في كل شيء. فإذا كانت معادلة الصراع هي نهاية أفق الانتصار الإسرائيلي، ونهاية القدرة على هزيمتنا، فإن مسار الأحداث هو في طريقين لا ثالث لهما.
إمّا الحرب، وحروب تتبعها حروب من دون أفق بالحسم والانتصار بالنسبة لليهود في دولة الاحتلال، وإمّا الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف لإنهاء الصراع بمساومة تاريخية هي في مصلحة الشعبين، وهو الحل العملي الوحيد في هذه المرحلة التاريخية الحالية على الأقل.
أليس استمرار الحروب من جانب القيادات الصهيونية بالأفق الذي أوضحناه هو تضحية بمواطنيها على مذبح هذه القيادات، وعلى مذبح مصالح «الغرب» الاستعمارية؟ وأين هي مكاسب غالبية اليهود من حروب لن يربحوها مطلقاً؟
نحن خسرنا عشرات الجولات في الصراع ولم نُهزم، ودولة الاحتلال انتصرت علينا في معظمها فلم يزد الصراع إلّا تأجُّجاً، وتراجعت دولة الاحتلال، وتتقدم فلسطين في كل يوم.
لو كنتُ إسرائيلياً لقاتلت بأسناني لأجل قيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، ولقبلتُ بكل قرارات القانون الدولي قبل فوات الأوان.
الأيام الفلسطينية