أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

هناك من يرى أن التخليق البيولوجي ما هو إلّا نسخة مُطوَّرة من أنشطة سابقة كان يقوم بها الإنسان ويتدخل فيها لتغيير بعض أجزاء الطبيعة لمصلحته، فزراعة أصناف معينة من النباتات غيّر البيئة بشكل كبير، كما إن التحكم في المزاوجة بين أصناف معينة من الفصائل الحيوانية هو تدخل مباشر لتغيير الطبيعة، وهكذا فإن التخليق البيولوجي يقوم بالشيء نفسه، لكنه يقوم بدقة أكبر ومستوى أعلى، وهؤلاء يرون أنه فارق في المستوى لا بالنوع بين ما كان يقوم به الإنسان سابقا وبين ما يقوم به اليوم في التخليق الحيوي.

ومقابل هؤلاء، هناك من يرى أن هذه النظرة فيها تسطيح وأن الفارق لا يكمن في المستوى؛ بل إن التخليق الحيوي أمر مختلف نوعيًا عن النشاطات السابقة التي كان يقوم بها الإنسان. ففي التخليق الحيوي يقوم الإنسان ويتدخل في صلب الخلية ويحاول التحكم بها، ليخلق لنا كائنًا بصفات معينة، فهذا الكائن شبيه في بعض اجزائه، بالأجهزة المصنعة، بحيث يصح أن نطلق عليه بأنه مصنّع، وهذا فارق جوهري بين الأنشطة السابقة التي كان يقوم بها الإنسان كالزراعة مثلًا وبين التخليق الحيوي، فالنباتات التي يزرعها الإنسان يعدها نباتات طبيعية ولا يمكن أن يصفها بأنها مصنّعة، أما النبات الذي يقوم الإنسان بالتلاعب بشفرته الوراثية وإعادة هندستها، فهو ينظر لها بمنظور مختلف، وتغدو نباتات مصنعة ولو في بعض أجزائها، ولذا أصبحت كرتنا الأرضية تحتوي على كائنات حية مصنّعة وأخرى طبيعية، وغدًا التفريق بينهما صعبًا مُستصعبًا.

وهناك من يرى أن السؤال المطروح أعمق بكثير ويتمثل في سؤال مفاده: هل الحياة بأنواعها المختلفة لها قدسية خاصة وقيمة عُليا، ولا يحق للبشر التدخل فيها بصورة مباشرة وتغييرها؟ أم أن هناك حدودًا وخطوطًا حمراء لا يصح لنا أن نتجاوزها؟ وكل محاولة لتجاوزها سيعد عملًا غير أخلاقي، واذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الخطوط الحمراء؟ ومن يحق له أن يضعها؟ أم أن الحياة بأصنافها المختلفة ليست أمرا مميزا عن بقية الأمور المصنعة أو الغير حية؟، ولذا فلا توجد محاذير أخلاقية من محاولات تغييرها وإعادة هندسة بعض أجزائها.

الملاحظ في الوقت الحالي أن أغلب التدخل البشري في هندسة الجينيات مقتصر على أنواع مختلفة من البكتريا والكائنات الدقيقة وبعض النباتات، ويبدو أن أغلب المجتمعات البشرية تعودت أو قد لا تجد حرجًا في التدخل البشري واجراء تغييرات جينية في هذه الكائنات الحية، لكن وبمالمقابل قد يعترض الكثيرون على محاولات اجراء تغييرات جينية في الحيوانات، كالدواجن والكلاب والقطط والخيول و الجمال.

إلّا أن هذا الاعتراض قد يخف بشكل كبير اذا قدمت ضمانات بأن التغييرات الجينية في الحيوانات سيعود بالنفع على الإنسان؛ وذلك لأن النظرة السائدة في أغلب المجتمعات البشرية هي ما يُمكن أن نعبر عنها بالنظرة النفعية، وهذه النظرة مفادها إنه لا يمكن اضفاء صفة أحادية على العلم برمته، بل لابد من النظر الى كل مشروع في هذا العلم على حدة، وتقييم المنافع والمخاطر منه، فاذا كانت منافعه كبيرة مقارنة بأضراره على الإنسان فلا مانع من الاقدام عليه، وأما إذا كانت أضراره أكبر فلا يصح الاقدام عليه، وهذه النظرة كما نلاحظ وضعت المصلحة البشرية هي الفيصل وكل ما يضر بها يعد خطًا أحمر لا يحق لأحد تجاوزه، وقد تبدوا هذه النظرة النفعية واضحة الا أن فيها من التحديات الشيء الكثير، لكن لابد من الإشارة هنا أن هذه النظرة النفعية لم تعد ترى قيمة مميزة للحياة بجميع أصنافها المختلفة -عدا الإنسان- فالإنسان هو المحور ومصلحته هي المقدمة على بقية الأمور، وهي الخط الأحمر الذي لا يحق لأحد أن يتجاوزه.

فهل حقا لا يوجد حق للكائنات الحية الأخرى فهي والآلة؛ سواء ما دام تغيير طبيعتها من خلال اجراء تغييرات جينية يصب في صالح الإنسان؟!

أترك للقارئ الكريم مجالًا للتفكير في هذا الأمر علّه يصل الى قناعات جديدة.

وللحديث بقية.

 

سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الإنسانية في خطر

 

 

سعيد بن حميد الهطالي

saidalhatali75@gmail.com

 

في صباحٍ عادي خرجت من بيتي متوجهًا في الطريق إلى عملي ككل يوم، لم أكن أعلم أن شيئًا صغيرًا سيعلّق قلبي طوال اليوم.
طائرٌ صغير، ربما كان في رحلة بحثٍ عن رزقه، أو عائدًا لعشه، اصطدم بزجاج سيارتي فجأة، فارتجف قلبي قبل أن ألتفت إليه، لم أره بعد تلك اللحظة، لا أدري أين مضى، وهل أكمل طيرانه مثقلًا بالألم، أم هوى إلى حيث لا يُرى؟
لكن الذي أعلمه أن صورته لم تغادرني، كأن الله أرسل لي بهذا الطائر رسالة، مذ تلك اللحظة وأنا أدعو له بصدق: "اللهم سلّمه، اللهم الطف به، اللهم لا تجعلني سبب أذية لأحدٍ من خلقك وسوّيته برحمتك."
أيقنت أن الرحمة لا تحتاج أسبابًا، وأن دعاءً صادقًا لكائنٍ ضعيف قد يكون أحب إلى الله من آلاف الكلمات التي لا خير يناله الإنسان منها.
ما عاد الأمر مجرد حادث عابر، بل ومضة استيقظت فيها روحي، وكأن الطائر جاء ليوقظ في عقلي شيئًا من الإنسانية التي ماتت في قلوب بعض البشر!
وهنا فقط، يتفجر السؤال الموجع: إذا كانت هذه الرحمة تولد في قلب إنسانٍ تجاه طائر، فبأي قلب يُباد الأبرياء في غزة؟! وبأي ضمير يُقطع عنهم الماء والغذاء؟! بأي منطق يُقتّل الأطفال وهم نيام؟ وتُدفن العائلات تحت الركام؟!
لقد صار الإنسان – في أزمنة الخذلان – وحشًا لا يرحم، ولا يتردد في أن يُسكت صوت البراءة بالقنابل، وأن يُجفف أنهار الحياة بالحصار!
تحوّل الكائن الذي كرّمه الله إلى أداة قتل تتغذى على مشاهد الدمار، وتتعطّش للمزيد من الدماء، غير عابئٍ بمن يسقط، ولا مكترثٍ بمن يستغيث!
في غزة، لا تنكسر الجدران فقط؛ بل تنفطر القلوب أيضًا، هناك حيث تصرخ الإنسانية، وتبكي العصافير، وتُذبح الطفولة تحت أعين عالمٍ صامت، أصم، بلا قلب!
ننظر إلى الصور، ونسمع الأخبار، فنغرق في الدهشة: كيف تموت الرحمة في بعض البشر؟ كيف يتلذذون بالمجازر كأنهم يحتفلون بمشاهد الخراب؟!
أهذه هي الحضارة التي بلغناها؟ حضارة تغطي عريها الأخلاقي بأزياء التقنية الحديثة، وتجمّل وجهها الدموي بشعارات حقوق الإنسان التي لا تسري إلا على بعض البشر دون غيرهم؟
في غزة، كُتب على الإنسان أن يُذبح بلا محاكمة، وأن يُحاصر بلا ذنب، وأن يُهمل بلا خجل!
وفي غزة، يُمتحن صدق الإيمان، وحرارة الدم، وصدق المشاعر؛ فإما أن نبكي وننتفض ونقف مع الحق، أو نصمت فيسقط ما تبقى من ضميرٍ فينا!
أكتب هذا وأنا لا زلت أفكر في ذلك الطائر، لكنني الآن أفكر أكثر في البشر الذين ماتت فيهم الرحمة، فصاروا أشد فتكًا من الوحوش!
وأسأل الله أن يُحيي ما تبقى من إنسانية، قبل أن تغرق الأرض كلها في طوفانٍ من الوحشية والخذلان!

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • اجتماع في محافظة دير الزور لمناقشة المشاريع الخدمية وإعادة تأهيل الأحياء المدمرة
  • صنعاء تعلن فتح طريق “عقبة القنذع” الحيوي بين محافظتي البيضاء وشبوة
  • «الأحياء».. ختام جيد لاختبارات الفصل الدراسي الثالث
  • الفراية يقوم بزيارة تفقدية لمديرية المتابعة والتفتيش
  • وزير الاستثمار والتجارة الخارجية يقوم بجولة تفقدية بعدد من الشركات بالمنطقة الحرة بمدينة نصر
  • وزيرة البيئة توجه بالتوسع في وحدات الغاز الحيوي بالمحافظات
  • ضبط مجزر يقوم بفرم هياكل ودهون الدواجن لتصنيع اللانشون والبرجر ببني سويف
  • الإنسانية في خطر
  • سكرتير عام الدقهلية يقوم بزيارة مفاجئة لمدينة ميت غمر لتفقد مستوى الخدمات
  • رئيس اتحاد بلديات جرد القيطع يقوم بزيارة للزاوية القادرية في عكار