الديمقراطيات في أزمة - من كوريا الجنوبية إلى فرنسا والولايات المتحدة
تاريخ النشر: 9th, December 2024 GMT
لقد كان أسبوعًا مثيرًا حول العالم «تاريخ المقال 6 ديسمبر». فرئيس كوريا الجنوبية فرض الأحكام العرفية في بلاده. لكنها قوبلت بالرفض من البرلمان الذي شرع في اتخاذ خطوات لعزله. وفي فرنسا تم حجب الثقة عن رئيس الوزراء وحكومته لأول مرة منذ أكثر من 60 عامًا. هذه الأحداث رغم تباينها تشترك في موضوع ضمني هو أزمة المؤسسات الديموقراطية.
ظاهريا، تمثل كوريا الجنوبية قصة نجاح مذهلة. فاقتصادها ازدهر بمعدل نمو يزيد عن 5% على مدى خمسة عقود متتالية. وهذا معدل قياسي، وكوريا الجنوبية اليوم أكثر ثراء من اليابان بمقياس الناتج المحلي الإجمالي للفرد. لكنها مع ذلك ظلت تعاني من استقطاب حاد ومعارك سياسية ضارية.
خلفية إعلان الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول فرض الأحكام العرفية تتمثل في سنتين ونصف من الانسداد بين المعارضة الليبرالية والرئيس المحافظ. لقد اتهمته المعارضة باستخدام سلطات الحكومة لمهاجمة خصومه ووسائل الإعلام. واتهم هو بدوره المعارضة بسوء استخدام سلطاتها من خلال محاولة عزل أعضاء حكومته. وربما سينتهي هذا النزاع بتحريك إجراءات عزله هو نفسه. (شرعت المعارضة البرلمانية في ذلك لكنها فشلت- المترجم.)
في فرنسا الحكاية مختلفة ولكنها تتسق مع ما حدث في كوريا الجنوبية. فالرئيس ايمانويل ماكرون ظل يحاول لسنوات تمرير إصلاحات أثار العديد منها معارضة شديدة. آخر إصلاح تقدم به رفع سن استحقاق راتب التقاعد ويمكن تشريعه فقط عبر إجراء نادر الاستخدام ويتجاوز البرلمان. لقد تعرض حزبه السياسي الوسطي في الانتخابات الأخيرة إلى هزيمة نكراء. ويسيطر على البرلمان الآن أقصى اليمين وأقصى اليسار وتواطآ لإسقاط رئيس الوزراء.
الموضوع المشترك (في هذه الديمقراطيات) هو تآكل ثقة الناس في المؤسسات الديمقراطية التقليدية والنخبة التي تديرها. في استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في عام 2023 ذكر 85% من الأمريكيين البالغين أن المسؤولين المنتخبين «لا يهتمون بما يفكر فيه الناس من أمثالنا». وقال 80% إنهم يشعرون بالغضب أو الإحباط تجاه الحكومة الفيدرالية. هذا الإحساس بالغضب الشديد من النخب الحاكمة لا يقتصر على الولايات المتحدة. فالأحزاب السياسية الرئيسية في كل بلد من ألمانيا وإلى اليابان تعرضت لضربات قاسية في الانتخابات.
نحن نجتاز فترة تغير سريع أو ما أسميته «عصر الثورات» الاقتصادية والتقنية والثقافية. فالأنماط القديمة تُطرح جانبًا. وتواجه كوريا الجنوبية الآن حقبة جديدة من النمو الأكثر بطئًا والتدهور السكاني، وتقترن بهما تطلعات اجتماعية أكبر. أوروبا بدورها تواجه عهدًا جديدًا من المهددات من روسيا ومن المنافسة الاقتصادية من الصين ومن أمريكا الأقل استعدادا لأن تكون زعيمة سخية.
كثيرا ما لاحظ الناس تدهور الثقة في مجتمعات عديدة وخصوصا في الولايات المتحدة. لكن وكما ذكر الكاتب ديريك طومسون ما يحدث حقا ليس فقط تدهور ولكن تحول في الثقة. فالناس فقدوا الثقة في المؤسسة الطبية ويولون ثقتهم باطراد لمقدمي برامج البودكاست (الإذاعية الرقمية) من أمثال آندرو هيوبرمان وبيتر عطية (بل حتى إلى ساسة من شاكلة روبرت كنيدي الابن). لقد فقدوا الثقة في وسائل الإعلام التقليدية وينقلون تلك الثقة إلى صحفيين ومعلِّقين أفراد.
لقد فقد عشرات الملايين من الجمهوريين إيمانهم بحزبهم وعلقوا آمالهم على فرد واحد هو دونالد ترامب. هذا الانتقال من المؤسسات إلى الأفراد يسرته التقنيات الجديدة التي أتاحت للأفراد الحصول على ذلك النوع من التمدد والنفوذ الذي كان في السابق حكرًا على المنظمات الكبيرة.
المشكلة هي أن الديمقراطية الليبرالية تقوم على المؤسسات والإجراءات. فحكومة الفرد هي في النهاية حكومة الأهواء المتقلبة. جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام حصل عليها علماء طرحوا أسئلة بسيطة هي: لماذا تفشل معظم البلدان في أن تكون ثرية وناجحة؟ وما الذي يفسر نجاح القلة التي حققت ذلك؟ الإجابة التي قدمها هؤلاء العلماء هي المؤسسات القوية. فالبلدان القليلة التي تخلصت من الفقر وسوء الحكم أقامت مؤسسات وإجراءات جيدة ونزيهة تتجاوز الفرد. ذلك يفسر لنا لماذا أصبحت سويسرا وهي بلا سواحل وفقيرة في الموارد واحدة من أغنى البلدان في العالم مقارنة ببلدان أخرى مثلها بدون سواحل وفقيرة الموارد ولكنها عاجزة. كما يفسر ذلك أيضا لماذا سنغافورة وهي شريط ساحلي مليء بالمستنقعات لديها الآن أحد أعلى متوسطات الدخل في العالم.
اتَّسمت الديموقراطية الليبرالية بتأكيدها على الإجراءات وليس النتائج. نحن (في الغرب) نحترم الإجراءات حتى حين نكره نتائجها. فالاندفاع للحصول بسرعة على ما نريد حتى إذا كان ثمن ذلك تجاوز الإجراءات وتقويض المؤسسات أمر بالغ الخطورة. ذلك صحيح عندما يعين ترامب موالين له يتبعونه تبعية عمياء لقيادة وزارات مفتاحية. كما إنه صحيح أيضًا عندما يصدر جو بايدن عفوًا (رئاسيًا) عن ابنه بعدما وعد الشعب الأمريكي بعدم التدخل في عمل النظام العدلي.
إذا قادنا الإحساس بالإحباط من مشاكلنا المؤقتة الحالية إلى التخلي عن مؤسساتنا الراسخة التي أقامت الديمقراطية الليبرالية سنكون قد أدرنا ظهورنا لواحدة من أهم إنجازات البشرية في التاريخ الحديث.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: کوریا الجنوبیة
إقرأ أيضاً:
فيما يندفع العالم إلى الهاوية النووية... أين المعارضة؟
ترجمة - أحمد شافعي
مرة أخرى ترجع الأسلحة النووية لتتصدر عناوين الأخبار، بخطرها القاتل، وتاريخها الأسود، وانتشارها المستقبلي، والأخبار كالعادة مثيرة للقلق، تشارف تخوم اليأس. فقد قررت روسيا الأسبوع الماضي أن تنسحب رسميا من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) الموقعة سنة 1987 والتي تحظر الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى، ويأتي هذا القرار ليقوض عمودا أساسيا في الحد العالمي من التسلح. وسوف يعجّل هذا من سباق التسلح النووي المحموم أصلا في أوروبا وآسيا في لحظة يتبادل فيها زعيما الولايات المتحدة وروسيا السخرية على غرار تلاميذ المدارس. هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الغرب مرارا بالأسلحة النووية خلال حربه في أوكرانيا. ففي نوفمبر الماضي، أطلقت القوات الروسية صاروخها الجديد متوسط المدى المجاوز لسرعة الصوت القادر على حمل رؤوس نووية المعروف باسم أورشنيك، على مدينة دنيبرو. ينطلق الصاروخ «كالنيزك» بسرعة تماثل سرعة الصوت عشر مرات ويمكنه الوصول إلى أي مدينة في أوروبا حسبما يتباهى بوتن، ولو صدق في ذلك فهو انتهاك سافر لمعاهدة القوات النووية متوسطة المدى. وتلقي موسكو باللوم في قرارها هذا بنبذ المعاهدة على أعمال الناتو العدائية. غير أن تغاضيها عن المعاهدة عمليا أمر قديم، وأبرز أشكال ذلك نشرها صواريخ في كاليننجراد، وهي الجيب الروسي القائم على بحر البلطيق وبيلاروسيا.
أما وقد قيل ذلك، فإن لورسيا حقا في ما يتعلق بالناتو. فقد تراجع دونالد ترامب عن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى للمرة الأولى في عام 2018. وأعقب ذلك بزيادة هائلة لدى دول الناتو الأوروبية من الصواريخ والقاذفات والطائرات ذات القدرات النووية المصنوعة في الغالب في الولايات المتحدة، وكان طبيعيا أن يثير ذلك قلق موسكو.
وكان يجدر به أن يثير قلق الأوروبيين أيضا. وقد حدث في ثمانينيات القرن العشرين أن أثار نشر صواريخ بيرشنج وصواريخ كروز الأمريكية احتجاجات عنيفة في أرجاء القارة. وعلى النقيض، نرى صمتا غريبا يصاحب العد التنازلي المشؤوم لقيامة العالم، وقد اقترب أكثر من ذي قبل من الكارثة، فبات على بعد تسع وثمانين ثانية من منتصف الليل.
وجاء زعم ترامب المغالي فيه الأسبوع الماضي بأن الولايات المتحدة نقلت غواصات نووية فباتت أقرب إلى روسيا ردا على التهديدات الفجة من الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف المعروف بكونه ألعوبة لبوتن. وتلك أيضا كانت لحظة رعب. وكان يمكن لهذه المواجهة الصبيانية أن تحقق غرضا نافعا لو أنها نبهت الرأي العام الأوروبي الغافل إلى الخطر المتفاقم للمواجهة النووية. لعل الناس اطمأنوا، أو لعل لديهم مشكلات أخرى مثيرة للقلق. ولعل حكومات بلاد من قبيل بريطانيا ـ المشكوك في إخفائها قنابل جاذبية نووية أمريكية في قاعدة جوية بشرق أنجليا ـ عاجزة مرة أخرى عن قول الحق. (ترفض حكومة المملكة المتحدة القول بما إذا كانت الأسلحة النووية الأمريكية موجودة الآن في قاعدة لاكنهيث الجوية الملكية أم لا).
مهما يكن السبب، يقع على عاتق أبناء الحرب الباردة ـ وبنات جرينهاوس كومون، وورثة متظاهري حظر القنبلة وداعمي حملة نزع السلاح النووي الدءوبين ـ أن يحذروا بصوت أعلى بأن هذا هو طريق الهلاك. لكن لماذا يكونون وحدهم الذين يدقون ناقوس الخطر؟ فالأمر كله يتكرر، ولا فارق إلا أنه في هذه المرة أسوأ، وأن الجميع واقعون في مرماه. وإذا لم يتم الحد من الأسلحة النووية بما بلغته اليوم من قوة أكبر كثيرا فقد يتحول الكوكب كله إلى ساحة قتل. ويجب أن نرى في الاحتفال الذي أقيم الأسبوع الماضي في الذكرى الثمانين لقنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين تحذيرا وتذكرة في الوقت نفسه.
تتسارع وتيرة تراكم الأسلحة النووية في أوروبا. فالولايات المتحدة تخزن فعليا قنابل نووية في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وتركيا. والآن عرضت المملكة المتحدة أيضا منشآت، وتشتري طائرات ذات قدرة نووية. وسوف تستضيف ألمانيا صواريخ توماهاوك كروز وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت في العام القادم. وتوسع الولايات المتحدة قواعدها الصاروخية في بولندا ورومانيا.
وتنضم دول من الناتو من قبيل الدنمارك والنرويج إلى تدريبات صاروخية تستهدف على سبيل المثال ترسيخ «السيطرة» على بحر البلطيق.
وكل هذا مبرر باسم الدفاع عن النفس، في مواجهة روسيا البوتنية بالذات. وبالمثل قرار الناتو في يونيو برفع ميزانيات الدفاع الوطنية إلى نسبة 5% من إجمالي الناتج الوطني. وليست الصورة العالمية أقل إزعاجا. فالدول التسع المسلحة نوويا ـ بريطانيا والصين وفرنسا والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا والولايات المتحدة ـ أنفقت 100.2 مليار دولار، أو 3.169 دولار في الثانية على الأسلحة النووية خلال العام الماضي، حسب ما ذكرته الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية (Ican).
وهذا يمثل زيادة بنسبة 11% عن عام 2023.
بموجب خطة موازنة 2026 التي اقترحها ترامب، سوف تزيد الولايات المتحدة ـ وهي بالفعل أكبر المنفقين في العالم ـ من تمويل القوات النووية بما فيها صاروخ سنتينل الباليستي العابر للقارات الجديد، وتبلغ نسبة الزيادة 26% لتصل إلى 87 مليار دولار. وفي سياق مساعي الصين للقيام بدورها في زعزعة أمن العالم فقد زادت ترسانتها النووية إلى أكثر من الضعف منذ 2020 لتصل إلى خمسمائة رأس نووي.
فمن الذي يشك في الوجهة التي يمضي إليها كل هذا؟ للمرة الأولى منذ الحرب الباردة، تمضي أوروبا وآسيا والشرق الأوسط إلى التحول إلى ساحات معارك نووية محتملة، مع فارق واحد يتمثل في أن القنابل الذرية والصواريخ لم تعد تعتبر اليوم أدوات للردع وإنما للهجوم وللفوز بالحروب. وانتشار الرؤوس التكتيكية منخفضة القوة يتيح، افتراضا، إمكانية نشوب حرب نووية «محدودة». وفور أن يتم تجاوز هذا الخط الأحمر، فقد تتبعه سلسلة ردود أفعال لا يمكن إيقافها.
وتتهاوى شبكات الأمان بانهيار اتفاقيات الحد من التسلح ـ فمعاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة (ستارت الجديدة) توشك على الانتهاء في فبراير 2026.
والدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار ملزمة بموجب «حسن النية» بنزع أسلحتها تدريجيا، ولكنها بدلا من ذلك تسارع من وتيرة التسلح. وأنظمة الذكاء الاصطناعي اللاإنسانية قد تزيد خطر قيام قيامة بالصدفة. والدول المارقة من قبيل إسرائيل وكوريا الشمالية تتجاوز الحدود باستمرار. وتهور ترامب، وجنون بوتن، يزيدان الإحساس بأننا نعيش في ساحة عالمية للرماية.
لعل الأمر كان بالغ الاختلاف من قبل. في يونيو من عام 1945 قال فريق من علماء الفيزياء النووية بجامعة شيكاغو بقيادة جيمس فرانك للرئيس هاري ترومان إن هجمة مفاجئة بقنبلة ذرية على اليابان أمر «لا يشار به». وتنبأوا بأن يؤدي تفجير سلاح جديد سباق تسلح عالميا لا يمكن السيطرة عليه. وقوبلت تحذيراتهم بالرفض. والآن تحاول الأمم المتحدة من جديد. وتماشيا مع معاهدة 2021 التي تحظر الأسلحة النوية، تم تكليف لجنة دولية رفيعة المستوى في الشهر الماضي بدراسة «الآثار المادية والعواقب المجتمعية» للحرب النووية على «نطاق محلي وإقليمي وكوكبي».
التحدي هائل، والنتيجة غير مضمونة. لكن شخصا ما في مكان ما بطريقة ما لا بد أن يدعو إلى إيقاف الجنون. ولا يزال ممكنا أن نرجو، خلافا لحال عام 1945، أن يسود رأي الحكماء.
سيمون تيسدال من كتاب أعمدة الرأي ومتخصص في الشؤون العالمية