في مساء صيفي هادئ من شهر تموز / يوليو الماضي، جلس وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني والرئيس أحمد الشرع في مطعم شعبي ببلودان يتبادلان أطراف الحديث فوق مائدة بسيطة، لا حراسات ولا كاميرات دعائية، بل صورة واحدة انتشرت كالنار في هشيم الحنين: سوريا الجديدة تبتسم، أخيرًا، بعد أن أطاحت بثقل استبدادها الطويل في 8 ديسمبر الماضي.

لم يكن هذا المشهد عاديًا، بل كان بمثابة إشعار رسمي بعودة الحلم، حلم السوريين القديم / الجديد: الحرية، الكرامة، والديمقراطية.

لقد بدأ السوريون، ومعهم عرب كثيرون، يخطّون بخطى مرتجفة واثقة سطور فصل جديد من تاريخهم، حيث لم يعد "الحلم" مجرّد شعار ثوري، بل مشروع حياة، يتشكّل ببطء على أنقاض القهر وركام الخوف. من بين هذا الحلم، تلوح أسئلة الفكر الكبرى التي سبقت الثورات وتفاعلت معها، ثم أعادت صياغة نفسها في ضوء التحولات المتسارعة. فكيف ننتقل من صرخة الحرية في الشوارع إلى مشروع نهضوي متكامل؟ من زخم الاحتجاج إلى بناء العقل الجديد؟

هنا، يطفو سؤال برهان غليون، لا بوصفه تنظيرًا نظريًا معزولًا، بل باعتباره حفرًا شاقًا في جدار التقاليد السياسية والفكرية التي عطلت العقل العربي لعقود. في لحظة يتصالح فيها الواقع مع الفكرة، تتحول مشاريع المفكرين ـ من جعيّط والعظم وتيزيني إلى غليون ـ إلى مادة حية لإعادة تشكيل الذات العربية، لا بالصراع مع التراث ولا بالذوبان في الحداثة، بل ببلورة عقل نقدي توافقي، يتجاوز الاصطفافات ويبحث عن المشترك الممكن.

إن اللحظة السورية الراهنة، وهي تخرج من ظلال الطغيان إلى ضوء التجربة الديمقراطية، تفرض مراجعة شاملة: أي فكر نحتاجه؟ وأي مشروع سياسي يليق بتضحياتنا؟ كيف نصوغ عقلًا عربيًا لا يُقصي، بل يحتوي؟ لا يَدين الماضي، بل يُعيد قراءته؟ لا يكتفي بنقد السلطوية، بل يقدّم بدائل بنّاءة؟

من هنا تنطلق هذه الدراسة، التي تبدأ من بلودان ولا تنتهي عندها، لتحاول رسم الطريق من التيار النقدي الذي هزّ أسس الجمود، إلى مشروع برهان غليون الذي يسعى لبناء عقل عربي توافقي، يُعيد تعريف السياسة بوصفها فنّ العيش المشترك، لا حلبة للصراع الأعمى.

هذا هو الإطار الذي تنسج فيه هذه الورقة فصولها: بحثٌ عن وطن في الفكر، وسعيٌ إلى فكرٍ يُبنى منه وطن.

من مساءلة النصوص إلى مساءلة الشروط السياسية

إنّ استعراض مسارات التيار النقدي الجذري في الفكر العربي المعاصر، من هشام جعيّط إلى صادق جلال العظم فالطيب تيزيني، يكشف عن لحظة فكرية غنية، سعت بجرأة إلى مساءلة التراث، وتفكيك بنيات الاستبداد، والتأسيس لعقل نقدي قادر على تجاوز القطيعة بين الماضي والمستقبل. كانت هذه المشاريع الفكرية الثلاثة، رغم اختلاف مناهجها، متفقة على أمر جوهري: لا يمكن بناء واقع جديد دون مراجعة جذرية للوعي، ودون خوض معركة تحرير الفكر العربي من أسر التقليد والأيديولوجيا والخوف.

لكن هذه الطروحات، رغم عمقها، بقيت أسيرة استقطاباتها الفكرية. فبين من شدّد على قطيعة حادة مع التراث (كما لدى العظم)، ومن سعى إلى التأسيس العقلاني من داخله (كما فعل تيزيني)، ظلت الحاجة قائمة إلى أفق ثالث، يتجاوز هذه الاصطفافات الحدية، ويبحث عن صيغة تلاقي لا تقوم على الغلبة، بل على التفاعل والاحترام المتبادل بين روافد الأمة الفكرية.

تكوّن وعي غليون المعرفي في ملتقى حضارتين: الحضارة الغربية التي درسها وتفاعل معها بعمق في فرنسا، والتراث العربي ـ الإسلامي الذي نهل منه في دمشق. ومن هذا التفاعل، صاغ رؤية تتجاوز الحفر في الماضي أو الهروب إلى الغرب، لصالح بناء "عقل عربي حديث"، ينفتح على الحداثة دون انصهار، ويقرأ التراث بوصفه طاقة ممكنة لا عبئًا مُعجزًا.في هذا السياق، يبرز اسم الدكتور برهان غليون بوصفه أحد أهم المفكرين العرب المعاصرين الذين حاولوا بلورة مشروع عقلاني واقعي، لا ينبني على التنازع بين التراث والحداثة، بل على إدراك تعقيدات المجتمع العربي، وضرورة بناء توافقات فكرية عريضة بين تياراته المختلفة. لم يكن غليون أسير تيار بعينه، بل انحاز إلى الإنسان العربي، في حاجته إلى الحرية، والكرامة، والديمقراطية، من دون أن يطلب منه التنازل عن ذاكرته أو قيمه.

تكوّن وعي غليون المعرفي في ملتقى حضارتين: الحضارة الغربية التي درسها وتفاعل معها بعمق في فرنسا، والتراث العربي ـ الإسلامي الذي نهل منه في دمشق. ومن هذا التفاعل، صاغ رؤية تتجاوز الحفر في الماضي أو الهروب إلى الغرب، لصالح بناء "عقل عربي حديث"، ينفتح على الحداثة دون انصهار، ويقرأ التراث بوصفه طاقة ممكنة لا عبئًا مُعجزًا.

في مشروعه، تنتقل الأسئلة من مجرّد مساءلة النصوص، إلى مساءلة الشروط السياسية والاجتماعية التي تجعل من الحرية أمرًا ممكنًا، ومن الديمقراطية واقعًا معاشًا. وهو بذلك يمهّد للخروج من مرحلة "النقد من أجل النقد" إلى مرحلة "النقد من أجل البناء"، أي من التنقيب في الأنقاض إلى رسم معالم الولادة الجديدة.

وهكذا، وبين أنقاض الاستبداد وملامح الولادة الجديدة، ومع دخولنا عصرًا عربيًا يبحث عن خلاص، لا من الماضي فحسب، بل من الخوف والتشرذم واللاجدوى، تصبح الحاجة إلى تيار فكري جديد أكثر إلحاحًا: تيار لا يكتفي بنقد الأنساق بل يقترح بدائل؛ لا يُقصي المختلف بل يبحث عن التلاقي؛ تيارٌ يجعل مركزية التراث ليس نكوصًا، بل نقطة انطلاق لعقل عربي حر، تعددي، ومسؤول. تيارٌ هو ما يسعى برهان غليون إلى تمثيله، كحلقة جديدة في سلسلة النقد والتحرر، لا تنهي ما سبقها، بل تبني عليه بحكمة الواقعي، وبأمل القادم.

بين التراث والحداثة

خلال هذه الجولة الفكرية الممتدة التي انطلقت عبر أزمان وأمكنة متباينة، شرعت في استكشاف معالم الفكر العربي والإسلامي المعاصر، من عمق المغرب مع محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن، مرورًا بأفكار نايف بن نهار وعزمي بشارة وعبد الوهاب المسيري، حتى وصلت إلى تيارات الفكر التقدمي مع رضوان السيد وهشام جعيط، ومن ثم الفلاسفة النقديين كصادق جلال العظم وطيب تيزيني. لقد شكل هؤلاء المفكرون محطات أساسية من خلالها تناولت أبعادًا مختلفة لمسألة العلاقة بين الدين والسياسة، التراث والحداثة، والدين والعلم، محاولًا فهم المعضلات والتحديات التي تواجه الأمة في مسيرتها الفكرية والسياسية.

قبل أن أخوض في دراسة أطروحات الدكتور برهان غليون، أود أن أشير إلى فكرة أساسية تتعلق بجذور علاقتي الفكرية به. فقد تعرفت على غليون لأول مرة خلال سنوات دراستي الجامعية في جامعة محمد الخامس بالرباط، في فترة كان نجم غليون فيها يشرق بقوة في أروقة الجامعات العربية، ويكتسب مكانة بارزة بين أسماء الفكر المعاصر، سواء في العالم العربي أو الغربي. وكانت الرباط آنذاك تُعتبر من أبرز الحواضن الأكاديمية والفكرية في العالم العربي، حيث استقطبت جامعة محمد الخامس نخبة من المفكرين والباحثين الذين شكلوا فضاءً حيويًا لتبادل الأفكار والتجارب، وتناول القضايا الكبرى التي تواجه الأمة.

في هذا المناخ الفكري الغني، كان صوت برهان غليون يتردد بقوة، وبدأت أفكاره تتغلغل في النقاشات الفكرية والسياسية، مما جعلني أتتبع مسيرته وأدرك أهمية مواقفه في معالجة قضايا الدين والسياسة، التراث والحداثة. هذه التجربة الأولى شكّلت لي قاعدة مهمة لفهم أعمق لأطروحاته، حيث لم يكن غليون مجرد اسم في قائمة المفكرين، بل كان حضورًا فكريًا حيًا يتفاعل مع الواقع ويصوغ رؤى نقدية بناءة.

يؤكد غليون أن النهضة لا تتحقق إلا عبر الاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية كواقع أساسي يجب الاحتفاء به، لا كمصدر انقسام. فيقول: "التعددية ليست ضعفًا بل هي قوة تُغني المشهد السياسي وتوفر حلولًا تنبع من الحوار والتفاهم وليس من الإقصاء والتهميش".وفي ختام هذا المسار، يأتي الدكتور برهان غليون ليكون نقطة النهاية والمحور الذي يجمع بين ما سبق من أطروحات، حيث يتميز بقدرته على التوليف بين الإرث الفكري الإسلامي العميق، الذي ينبع من مدينته حمص، ومنه إلى عوالم الفكر الحداثي في باريس، عاصمة الأنوار. إنه يقدم مقاربة تحاول تجاوز الثنائية التقليدية بين الدين والعلم، التراث والحداثة، من خلال بناء رؤية تأخذ في الاعتبار تعقيدات الواقع العربي والإسلامي المعاصر، وتسعى لردم الفجوة بين التيارات الإسلامية والقومية والعلمانية.

لذلك، سيكون من المناسب أن نختم هذا البحث الفكري والتاريخي عند غليون، الذي لا يقتصر على تقديم نقد أو تحليل، بل يفتح آفاقًا جديدة لفهم العلاقة المتشابكة بين الدين والسياسة، ويطرح رؤى تتسم بالمرونة والواقعية في مواجهة تحديات العصر.

التعددية كمفتاح للنهضة

يؤكد غليون أن النهضة لا تتحقق إلا عبر الاعتراف بالتعددية الفكرية والسياسية كواقع أساسي يجب الاحتفاء به، لا كمصدر انقسام. فيقول: "التعددية ليست ضعفًا بل هي قوة تُغني المشهد السياسي وتوفر حلولًا تنبع من الحوار والتفاهم وليس من الإقصاء والتهميش".

هذه الرؤية تدعو إلى تجاوز الثنائية الحادة بين الإسلاميين والعلمانيين والقوميين، وتحويل الخلافات إلى حوار بناء.

يعتبر غليون أن التراث يجب أن يُقرأ بوعي نقدي: "لا يمكن للتراث أن يكون مقدسًا خارج زمانه، ولا يمكننا أن نحكم على الحاضر من خلال منظار الماضي فقط. يجب أن نعيد قراءة تراثنا بما يسمح له بأن يكون حيويًا ومتجددًا".

هذه الدعوة إلى التحديث النقدي تشكل مدخلاً ضروريًا لاستثمار التراث في مشروع النهضة، بدل أن يكون عبئًا يعيق التطور.

فصل الدين عن الدولة شرط الحداثة

يرى غليون أن بناء الدولة الحديثة يتطلب فصل الدين عن الدولة: "الدين ليس بديلًا عن السياسة، ولا ينبغي أن يُستخدم كأداة للسلطة، بل يجب أن يبقى في إطار حرية الضمير، ودولة القانون هي الضامن لحقوق الجميع".

هذا الفصل لا يعني رفض الدين أو إلغاء دوره، بل ضمان حياده في المؤسسات السياسية لصالح التعددية والديمقراطية.

يرى غليون أن نهضة الإنسان العربي تبدأ من الوعي الحر: "النهضة الحقيقية تنطلق من الإنسان القادر على التفكير النقدي والابتكار، من خلال التعليم الحر ووسائل الإعلام المفتوحة، التي تكسر حاجز الخوف والجمود". وهذا يتطلب بناء ثقافة جديدة تحرر العقل من قيود الجهل والتطرف.

يركز غليون على ضرورة توازن الهوية مع الانفتاح: "الهوية ليست سجنًا، ولا الانفتاح هو خسارة للذات، بل العكس، هو إثراء وتمكين يُمكن الأمة من التجديد دون ضياع جذورها"، وهذا التوازن يمثل رافعة أساسية لأي مشروع نهضة مستدام.

يرى غليون أن النهضة السياسية لا تكتمل إلا ببناء مؤسسات ديمقراطية: "الحرية والديمقراطية ليستا مجرد شعارات، بل مؤسسات تلتزم بالشفافية والمساءلة، تضمن الحقوق وتخلق البيئة المناسبة للنمو والازدهار"، وهذه المؤسسات هي الضمانة الحقيقية لتحول المجتمعات نحو الحداثة.

عرض نقدي لأطروحات برهان غليون

تُعتبر أطروحات برهان غليون من بين أهم المحاولات الفكرية التي تواكب الواقع العربي المعاصر، وتحاول إيجاد مسارات جديدة للنهضة. ومع ذلك، يمكن طرح بعض الملاحظات النقدية التي تساهم في إثراء النقاش:

رغم تأكيد غليون على ضرورة الاعتراف بالتعددية، إلا أن تطبيق هذا المبدأ في واقع عربي كثيرًا ما يعاني من انقسامات عميقة وصراعات سياسية حادة، يبقى حلم التوافق جامعًا بعيد المنال. كيف يمكن بناء توافق وطني حقيقي في ظل سياسات الاقصاء والاستقطاب؟ قد تكون رؤية غليون أكثر مثالية منها واقعية في بعض السياقات.

يعتبر غليون أن التراث يجب أن يُقرأ بوعي نقدي: "لا يمكن للتراث أن يكون مقدسًا خارج زمانه، ولا يمكننا أن نحكم على الحاضر من خلال منظار الماضي فقط. يجب أن نعيد قراءة تراثنا بما يسمح له بأن يكون حيويًا ومتجددًا".الدعوة إلى قراءة نقدية للتراث ضرورة، لكنها تواجه تحديًا من الفئات التي تعتبر التراث مقدسًا وثابتًا، كما أن التفكيك المفرط قد يؤدي إلى فقدان الهوية والارتباط بالذات الثقافية، مما يثير مخاوف من الانزلاق إلى التبعية الفكرية للغرب أو تبني قيم لا تتوافق مع خصوصيات المجتمع العربي.

وفصل الدين عن الدولة مطلب الحداثة، لكن غليون قد يستهين أحيانًا بالتشابك العميق بين الدين والسياسة في الوعي الجمعي العربي، حيث يرفض كثيرون هذا الفصل، ويعتبرونه تهميشًا للدين. لذلك، فإن هذه الفكرة قد تواجه مقاومة اجتماعية وسياسية كبيرة، تتطلب صبرًا طويلًا وتدرجًا في التطبيق.

يدعو غليون إلى حرية الفكر والتعليم والإعلام، لكن الواقع يشير إلى أن أغلب الدول العربية ما تزال تفرض قيودًا صارمة على هذه الحريات، مما يعوق تحقيق هذا الجانب الحيوي للنهضة. كيف يمكن ترجمة هذه الرؤية إلى واقع عملي في ظل منظومات قمعية أو مستقرة على نمط السلطة؟

التوازن بين الهوية والانفتاح.. بين الرؤية والتحديات

التوازن الذي يدعو إليه غليون يبدو جذابًا، لكنه صعب التحقيق بسبب تناقضات داخلية في المجتمعات العربية، بالإضافة إلى ضغوط خارجية تحاول فرض نماذج قيم وثقافة غربية لا تنسجم بالضرورة مع السياق المحلي.

رغم أن بناء مؤسسات ديمقراطية هو مطلب أساسي، إلا أن غليون قد يختزل تعقيدات هذه المهمة في مجرد شروط مؤسسية، بينما الواقع يحمل تحديات عميقة من فساد، ونفوذ عائلي وقبلي، وصراعات إقليمية، تجعل من بناء ديمقراطية شفافة وعادلة أمرًا بالغ الصعوبة.

في خضم هذه التحولات والتحديات، تبقى أطروحات برهان غليون منارة فكرية تحثنا على المراجعة العميقة والتجديد المنهجي في الفكر العربي المعاصر. فهي تقدم رؤية تجمع بين احترام التراث وإدراك متطلبات الحداثة، بين الدين والسياسة، بين الهوية والانفتاح.

غير أن هذه الرؤية، رغم عمقها وجمالياتها النظرية، تواجه تحديات تطبيقية جسيمة تتطلب حوارًا مستمرًا وصبرًا واستراتيجيات متدرجة، تعي خصوصيات المجتمعات العربية وتعقيداتها. إن النهضة ليست مشروعًا يُنجز بين ليلة وضحاها، بل هي مسار طويل يتطلب تكاتف القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الضيقة.

ختامًا، يبقى طرح برهان غليون نقطة انطلاق ضرورية لفهم متجدد، ورؤية متماسكة نحو بناء مستقبل عربي يكون فيه الدين والسياسة، التراث والحداثة، متكاملين في خدمة الإنسان والمجتمع.

جدير بالذكر هنا أن الدكتور برهان غليون لم يقتصر على دور المثقف المفكر في إطار التحليل والنقد الفكري فقط، بل انخرط فعليًا في العمل السياسي حين انحاز إلى الثورة السورية في وجه الاستبداد البعثي، وأدرك بأن الفكر وحده لا يكفي بدون ممارسة. لقد ترأس المجلس الوطني السوري في أول ترجمة حقيقية لحكم المثقف المفكر، حيث جمع بين الالتزام الفكري والعمل السياسي، محاولة بذلك جسر الهوة بين الفكر والواقع، وفتح آفاقًا جديدة للمثقف العربي في ساحات النضال من أجل الحرية والديمقراطية.

فرحة المثقف بالعودة إلى دياره

في لحظةٍ نادرةٍ يكون فيها العقل قد حطّم أغلال المنفى، تتجلّى فرحة المفكر وهو يقلّب الثرى بيده، كأنما يعيد وصل ما انقطع بين الروح والأرض، بين الفكرة والوطن. لم تكن عودته إلى سوريا عودة جسدٍ إلى جغرافيا، بل اكتمال حلقة بين مشروعٍ فكري نُسج في المنافي، ووطنٍ يتشكل على مهل، بالحلم والمقاومة والصبر الطويل.

ذلك الوطن، كما تصوره برهان غليون، ليس حدودًا ترابية تُرفع فوقها الرايات، بل فضاءٌ للحرية والكرامة، يتّسع لجميع أبنائه، مهما تباينت أفكارهم أو انتماءاتهم. وهو في فرحته التي لامست التراب، يُشبهنا نحن الحالمين بحرية الأوطان وسيادتها، أولئك الذين لم نكف عن الإيمان بأن الفكرة قد تُهزم، لكنها لا تموت.

لكننا نسأل، كما يسأل هو في أعماقه: هل ستتحول تلك الأحلام إلى واقع يُبنى حجرًا على حجر، أم أن قوى الردّة وأعين المستعمرين ستعود، كما عادت مرارًا، لتغتال الحلم من جديد؟ هل ستُمنح هذه البلاد فرصة أخيرة لصياغة ذاتها من داخلها، أم أن عقودًا أخرى من المصادرة والتبعية ستُضاف إلى سجل الانكسارات منذ فجر دولة الاستقلال؟

ومع ذلك، يبقى أثر غليون ـ كما حلمه ـ قائمًا في الحبر والتراب، في الحقول والمكتبات، في الساحات والمنافي، شاهدًا على أن الفكر حين يُربّى في محنة، يصير أكثر استعدادًا للمساهمة في ميلاد وطن جديد. وطنٌ لا يُبنى بالشعارات ولا يُدار بالعصبيات، بل يُعاد تشكيله من داخل وجدان الإنسان الحر، الذي يرى في كل اختلاف فرصة للبناء، لا مبررًا للهدم.

فالحلم، حين يُمسك التراب بيديه، لا يعود وهمًا. يصير نداءً خافتًا في قلب التاريخ: أنْ لا تستسلموا، فربما كانت هذه المرة مختلفة.

وفي ختام هذا الفصل من عرضي لمحاولات التصدي لسؤال النهضة العربية الحديثة والمعاصرة، أؤكد أن اختياري لهذه الأسماء الفكرية المتنوعة، والمتوزعة في عدد من دول العالم العربي من شرقها إلى غربها، كان الهدف منه وضع اليد على المحاور الأساسية للنقاش الفكري والسياسي الذي شغل النخبة العربية على مدى القرن الماضي. هذا الشرح والتحليل يمثلان تمهيدًا ضروريًا لفهم خلفيات الفكر العربي المعاصر، وهو ما سيمكنني من الانطلاق إلى الملف الثاني من هذا المسعى، وهو البحث في الترجمة السياسية لهذه الأفكار، أو بعبارة أدق، تفاعل هذه الأفكار مع محيطها السياسي. ففهم العلاقة بين الفكر والسياسة يظل حجر الزاوية لأي مشروع عربي نهضوي حقيقي.

المراجع المعتمدة

ـ الديمقراطية من أجل أي مجتمع؟ (La démocratie pour quelle société?)، 1990، برهان غليون.

ـ  السلطة والمعرفة في الفكر العربي المعاصر، دراسات ومقالات، 1995، برهان غليون.

ـ الإسلام والسياسة: قراءة نقدية، 2000، برهان غليون.

ـ عقلنة السياسة: بين التراث والحداثة، 2005، برهان غليون.

ـ مستقبل الديمقراطية العربية: تحديات وفرص، 2010 ـ برهان غليون.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير سوريا برهان غليون الطروحات الأفكار سوريا برهان غليون أفكار طروحات سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة بین الدین والسیاسة التراث والحداثة فی الفکر لا یمکن أن یکون من خلال یجب أن من أجل عربی ا

إقرأ أيضاً:

نائب رئيس حزب الحرية المصري: حذرون من التفاف عناصر غير وطنية على العملية السياسية

قال الدكتور أحمد بيومي نائب رئيس حزب الحرية المصري، إنّ الحزب بدأ تشكيل لجان في مقرات المحافظات لتلقي طلبات الترشح لانتخابات مجلس الشيوخ، مشيرًا إلى أن هذه اللجان تضم عناصر قيادية من الحزب، من بينهم أمين المحافظة، وأمين التنظيم، والأمين المساعد، وأمينة المرأة.

وأضاف، في مداخلة هاتفية ببرنامج "الشارع النيابي"، عبر قناة "إكسترا نيوز": "وتعمل هذه اللجان على فحص المتقدمين وفقًا لمعايير محددة تشمل الكفاءة الوطنية، والقدرة على العطاء في المجالين السياسي والخدمي، إلى جانب توافر الشروط العامة للترشح".

وتابع، أنّ مفهوم الكفاءة الوطنية يتجاوز مجرد حب الوطن، ليشمل الحذر من محاولات بعض العناصر غير الوطنية الالتفاف على العملية السياسية عبر استخدام المال أو الضغط.

ولفت إلى أن الحزب يتبنى رؤية واضحة في اختيار مرشحيه، تضمن توافقهم مع المبادئ التي تأسس عليها الحزب، بما يعزز من نزاهة المشهد السياسي ومصداقيته.

وذكر، أن الحزب منحاز بقوة للشباب والمرأة، ويعمل على تمكين القيادات الشابة القادرة على المساهمة الفعالة في الحياة السياسية خلال المرحلة المقبلة.

وأشار إلى أن الحزب يسعى لترشيح عناصر وطنية ذات قدرات ثقافية وخدمية عالية، لها تاريخ سياسي أو نضالي مشهود، بما يضمن أن تحظى بثقة الجماهير وتلقى دعمًا شعبيًا يعكس روح المواطنة المصرية.
 

طباعة شارك الدكتور أحمد بيومي حزب الحرية المصري الحزب المحافظة المتقدمين

مقالات مشابهة

  • نائب رئيس حزب الحرية المصري: حذرون من التفاف عناصر غير وطنية على العملية السياسية
  • حزب الحرية المصري يعلن بدء استقبال طلبات الترشح لانتخابات مجلس النواب 2025
  • العراق يدرج موقعين في بغداد ضمن لائحة التراث العربي
  • تقنين أوضاع معلمي الحصة فوق 45 عامًا قبل العام الجديد.. تفاصيل سؤال برلماني
  • تل ابيب منزعجة من عبارة اطلقها برج مراقبة في باريس الحرية لفلسطين
  • هيثم برهان لـ «الأسبوع»: معارض شركة «النيروز» قصص نجاح حقيقية.. ونستهدف تصدير العقار المصري للأسواق الخليجية والأوروبية
  • اكتشاف قطع أثرية تعود إلى 50 ألف عام في السعودية
  • «تريندز» يستضيف سفير اليابان في جلسة نقاشية حول دور مراكز الفكر
  • محافظ الإسكندرية يتفقد بدء تنفيذ مشروع توسعة طريق الحرية