في كتاب "الحاجة إلى المال" أقتبس عبارة لمؤلفه، نيال فيرجسون، حين قال: "الدولار الأمريكي ولد من رحم الحاجة إلى عملة موحدة تعبر عن استقلال الولايات المتحدة الاقتصادي"؛ كمقدمة لهذا المقال الذي ليس الغرض منها التطويف على تاريخ الدولار بقدر ما هو جرس إنذار لما سيأخذنا إليه مع دونالد ترامب ومستشاره إيلون ماسك.



مع ولادة الدولة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، كان لزاما على السلطات الجديدة أن تصك لنفسها عملة تعبر عن حقبة ما بعد الاتحاد، وتبرز هوية الدولة الوليدة، فأُقر قانون العملة في 1792 والذي بمقتضاه أنشئ الدولار الأمريكي كعملة، وأصبح العملة الرسمية للولايات المتحدة، معتمدا في تقييمه على الذهب والفضة، بمعدلات محددة، قبل أن يُعتمد في 1879، أي بعد ما يقارب مئة السنة قاعدة الذهب لتقييم الدولار، وهو ما يعني أن كل دولار يمكن تحويله إلى كمية محددة من الذهب، ومن ثم تعزيز ثقة العالم في الدولار وبالنتيجة بث الثقة بعملة الدولة التي بدأت تخط ملامح الإمبراطورية المنشودة للقائمين عليها في السر، والذين يخططون ويخدمون من خلف الستار.

كانت خطوة تعيير الدولار بالذهب ناجحة إلى حد عزز ثقة العالم بالدولار كعملة مستقرة، وساعدت قاعدة الذهب في تقليل التضخم، وجعل الدولار جذابا للتجارة الدولية، التي نشطت فيها أمريكا بفضل توسعها في بناء السفن كجسر للوصول إلى العالم، على الرغم من ذلك فإن الجنيه الإسترليني كان لا يزال مهيمنا على التجارة العالمية، وذلك بطبيعة الحال بحكم هيمنة بريطانيا على العالم وسيطرتها على شبه الكاملة على خطوط الملاحة البحرية في البحار والمحيطات، لكن ومع ضعف اقتصاد الإمبراطورية البريطانية وبداية أفول شمسها بعد الحرب العالمية الأولى التي أجهدت ذلك الاقتصاد المهيمن، استفاد الدولار من حالة الإسترليني وقدم نفسه على أنه البديل الآمن والمستقر، مما فتح الباب أمام الدولار ليتصدر المشهد.

فصل مهم في حياة الدولار كتبته اتفاقية بريتون وودز في عام 1944، حيث اتفقت الدول المشاركة على ربط عملاتها بالدولار الأمريكي، الذي كان بدوره مرتبطا بالذهب، ما يعني أن الاتفاقية كتبت شهادة ميلاد حقيقية لسيطرة الدولار على التجارة الدولية وخلق نظام مالي جديد يرعاه صندوق النقد الدولية والبنك الدولي اللذين أُنشئا لهذا الغرض، مع ذلك وعلى الرغم من الاستفادة الكبيرة التي حازها الدولار من بريتون وودز، فإن الرئيس نيكسون كان له رأي آخر، وأراد أن يكتب ميلادا جديدا للدولار، لينهي عصر قاعدة الذهب التي عليها بنى الدولار ثقته الدولية لدة المتعاملين، ليثبت بالقوة قاعدة جديدة، بنى بها ثقة العالم في الدولار على موثوقية الحكومة الأمريكية التي تصدره، وعلى الرغم من هشاشة المبادئ، فإن الدولار ظل قويا، لا بقدراته المالية، ولكن بقدرات مصدريه العسكرية والسياسية.

ومع دخول العالم العصر الذهبي للنفط، والاعتماد الكلي على مشتقاته لبناء الحضارة الصناعية، طور نيكسون فكرته، ليضفي مزيدا من الهيمنة على عملته بعقد اتفاق مع الدولة الأكبر في إنتاج النفط، ووقع ملك السعودية فيصل، وبالتالي دول منظمة "أوبك" اتفاقية مع نيكسون على بيع النفط بالدولار ولا شيء غيره، وهو ما عرف حتى يومنا هذا بالبترودولار، وهو ما ضمن الطلب المستمر على العملة الأمريكية، بل وجعله يشكل في يومنا هذا عملة احتياطية عالمية، وبحسب مجلة إيكونوميست، فهو يشكل 60 في المئة من الاحتياطيات النقدية العالمية، ويستخدم في أكثر من 80 في المئة من المعاملات التجارية الدولية، حتى مع محاولات بعض البلاد والتجمعات الاقتصادية الانعتاق من هيمنة الدولار من خلال اتفاقيات للتبادل التجاري بالعملة المحلية، مثل روسيا والصين، والهند، التي أبرمت اتفاقيات مع عدة دول للتبادل التجاري بالروبية الهندية، وكذا الحال بين إيران وروسيا وتركيا، والصين التي تعمل على تعزيز استخدام اليوان في التجارة الدولية، وناجحة إلى حد بعيد في جنوب شرق آسيا، وكذلك تجمع بريكس (الذي يضم البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب أفريقيا).

محاولات الانعتاق من هيمنة الدولار تزامن معها ظهور العملات الرقيمة، التي بدأت على استحياء وصاحبتها مخاوف، لا سيما وهي غير مدعومة من حكومات، ولا تصدر من بنك مركزي، مع ذلك شكلت تحديا كبيرا ومنافسا بدا خجولا في البداية، لكنه مع الوقت استأسد، ما جعل بعض الدول تخطط، وبعضها نفذت خططها بإصدار عملات رقمية مشفرة، قد تواجه هيمنة الدولار تحديات جديدة. وفي مقال "أين يقف العرب في حرب الدولار واليوان؟" كتبنا عن دور الصين في عملية التحول الكبير في النظام المالي العالمي بمحاولاتها تقديم اليوان كعملة بديلة للدولار، وعن خطتها للخلاص منه واستهداف وصول اليوان لأن يكون واحدة من العملات التي يُعتمد عليها في التجارة الدولية وصولا لتسيده عالم التبادل التجاري، وفي السياق أطلقت اليوان الصيني الذي به تتم أغلب المعاملات التجارية الشعبية في جنوب شرق آسيا، وهو ما جعل ترامب في ولايته الأولى يصدر قرارا تنفيذيا لوقف زحفه باتجاه بلاده وأوروبا.

خلال رئاسته الأولى انتقد ترامب العملات المشفرة مثل البيتكوين، ووصفها بأنها "غير مستقرة" و"مبنية على الهواء". كما أعرب عن قلقه من استخدامها في الأنشطة غير القانونية، لكنه وبعد مغادرته البيت الأبيض، وتحديدا في 2021 أشار إلى أنه قد يدعم العملات المشفرة، وبعد توليه الرئاسة في كانون الثاني/ يناير الماضي وضع صورا لعملة مشفرة تحمل اسم "ميم كوين" ومعها صورته، في تحول جدي لموقفه السابق من العملات المشفرة، وهو ما سبقه أمر تنفيذي مع الساعات الأولى لدخوله البيت الأبيض بدعم العملة المشفرة. ويعزو المراقبون الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، والذي يحظر إنشاء العملات الرقمية للبنوك المركزية، إلى مخاوفه بشأن قدرة تلك العملات على تهديد استقرار النظام المالي وسيادة أمريكا العالمية.

اعتبارا من أيار/ مايو 2024، كانت حوالي 140 دولة تعمل على مشاريع تجريبية للعملة الرقمية للبنك المركزي، وكان اليوان الرقمي الصيني أحد أكثر العملات تقدما، حسبما أفاد موقع كوينتيليغراف، لذا فإن ترامب بالأمر التنفيذي الذي أصدره بشأن العملات المشفرة يستهدف من ناحية وقف الزحف الدولي باتجاه عملة يمكن أن تسحب البساط من تحت الدولار، والأهم هو استكمال معركته التي بدأها في ولايته الأولى ضد اليوان الرقمي الصيني، الذي يزحف بقوة باتجاه سيادة الريادة العالمية في هذا المجال، لكن ومع ارتفاع الدين العام الأمريكي لأكثر من 30 تريليون دولار، واستمرار ارتفاع معدلات التضخم، يبقى السؤال حول هيمنة الدولار، وحول إن كان الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بشأن العملات المشفرة في العالم هي محاولة من راعي البقر فرض عهد جديد على العالم ينفذ فيه هيمنة بالقوة الغاشمة.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الدولار ترامب العملات امريكا دولار عملات ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة أفكار صحافة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العملات المشفرة هیمنة الدولار وهو ما

إقرأ أيضاً:

المشروع الوطني لليوم التالي: البرنامج الاسعافي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوي

المشروع الوطني لليوم التالي: البرنامج الاسعافي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوي

إبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر

مقدمة

تشكل الحرب الأهلية الدائرة منذ ما يقارب ثلاث سنوات أكبر كارثة تواجه بلادنا في تاريخها الحديث؛ إذ لم تكتفِ بتقويض مؤسسات الدولة، بل مزّقت نسيج المجتمع، ودمّرت البنية التحتية، وأغرقت الاقتصاد في ركود عميق. وفي ظل هذا الدمار، يغدو الحديث عن برنامج إسعافي وإعادة الإعمار ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية لبقاء الدولة والمجتمع، واستعادة المسار المدني الديمقراطي النهضوي، وبناء سلام مستدام يُنهي “المتلازمة السودانية” الناتجة عن الفشل المزدوج في إدارة التنوع الهوياتي-الجهوي من جهة، وتحقيق الانتقال التنموي النهضوي من جهة أخرى، بما يعالج جذور التخلف والنزاعات وعدم الاستقرار السياسي.

فى مقالنا السابق (الموسوم “دروس وعِبَر من تجربة الإصلاح الاقتصادي الانتقالي: نحو صياغة مشروع وطني للإصلاح بعد الحرب في السودان”) قدمنا تقييماً لتجربة الإصلاح الاقتصادي للحكومة الانتقالية عقب ثورة ديسمبر المجيدة، وأستعرضنا الدروس والعِبَر للبرنامج الإسعافى لإعادة الإعمار بعد الحرب. سنعرض فى هذا المقال لملامح عامة لهذا البرنامج وفى المقالات القادمة سنأخد أهم مكوناته كلاً على حده بتفصيل أكثر.

أولاً: مكوّنات البرنامج الإسعافي لما بعد الحرب استعادة الأمن والعون الإنسانى: لا يمكن لأي مشروع وازن لتقديم العون الإنسانى وإعادة الإعمار أن يبدأ من دون وقف شامل للحرب وإطلاق عملية إعادة بناء القوات النظامية والمؤسسات العدلية بحسب المعايير الدولية تحت قيادة وإشراف السلطة المدنية الانتقالية. فهذه الخطوة هي المدخل الضروري لاستعادة الثقة، وانسياب الحركة التجارية، وعودة النازحين واللاجئين، واستئناف النشاط الاقتصادي. وبحسب التقديرات الحديثة الصادرة من مكتبى الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية و المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين(1)، يُقدَّر العون الإنساني العاجل المطلوب للسودان بنحو 6 مليارات دولار سنوياً (4.2 مليار داخل السودان و1.8 مليار للاجئين في دول الجوار)، موجّهة لمكافحة الجوع ودعم النازحين واللاجئين والخدمات الأساسية الطارئة، أما ترميم مرافق الصحة والتعليم والمياه بشكل في مرحلة ما بعد وقف الحرب فيحتاج، فوق ذلك، إلى ما لا يقل عن 2-3 مليار دولار إضافية خلال الثلاث إلى خمس سنوات الأولى كحجم مبدئي للتعافي المبكر، بينما ستتطلب إعادة الإعمار الشاملة للاقتصاد والبنية التحتية أرقاماً أكبر بكثير على المدى الطويل. تعبئة الموارد الذاتية والدولية المجمّدة: يتطلب تمويل الجانب الإنساني وبرامج إعادة تأهيل مرافق التعليم والصحة والمياه والكهرباء وغيرها من الخدمات الحيوية موارد ضخمة تفوق قدرة الدولة الذاتية التى انهارت تماماً – أو تكاد – بفعل الحرب. ومع ذلك، تبقى تعبئة الإيرادات الوطنية أولوية قصوى، بدءاً بالشروع فوراً فى إنشاء الجهاز القومي للإيرادات الذى أُعد نظامه الأساسى وهيكله وأهدافه بواسطة لجنة مختصة خلال حكومة الفترة الانتقالية(2). ويهدف هذا الجهاز إلى إنهاء الازدواجية بين ديوان الضرائب وإدارة الجمارك، وتعزيز الحوكمة المالية والتخطيط المالي، وتفعيل التقسيم العادل للموارد في إطار الحكم الفيدرالي، إضافة إلى مأسسة الرقمنة، وصولاً إلى رفع الحصيلة الضريبية إلى 20% من الناتج المحلي (3).
أما على صعيد الموارد الخارجية، فقد حصل السودان قبل انقلاب أكتوبر 2021 على التزامات تمويلية تتجاوز 10.5 مليارات دولار من الشركاء الدوليين، وقد جُمِّدت لكنها تظل متاحة في حال استعادة مسار التحول المدني. وتشمل هذه الموارد:
• منح ثنائية: 2.5 مليار دولار
• تمويل من المؤسسة الدولية للتنمية (البنك الدولي): أكثر من 1.5 مليار دولار
• موارد من صندوق النقد الدولي: 2.5 مليار دولار
• تمويلات إنمائية أخرى: 1-2 مليار دولار
• استثمارات أجنبية مباشرة محتملة: 1-4 مليار دولار في الزراعة واللوجستيات
وتمثّل هذه الموارد القاعدة المالية الأساسية لإعادة تشغيل الخدمات وإصلاح الشبكات الحيوية وتمويل البرنامج الإسعافي. تشغيل الشباب وبرامج “النقد مقابل العمل”: يتطلب مشروع إعادة الإعمار إطلاق برامج واسعة لتشغيل الشباب في مجالات تشمل:
• إدارة برامج العون الإنساني ومكافحة المجاعة
• بناء القواعد البيانية الرقمية وإكمال مشروع الرقم الوطني الموحد
• دعم عودة اللاجئين وإعادة توطين النازحين
• صيانة الطرق والمباني العامة، وإزالة الأنقاض، وإعادة بناء المرافق الخدمية
كما يمكن إعادة تنفيذ مشروع دعم الأسر عبر الهاتف النقّال بعد إعادة تصميمه في إطار انتقال مدني جديد، مع مخاطبة البنك الدولي والشركاء الدوليين لإعادة بناء برنامج حماية اجتماعية بحجم لا يقل عن التمويل السابق (800 مليون دولار، صُرف منه 180 مليوناً فقط قبل الانقلاب والحرب).
وقد أثبت نهج تدريب وتوظيف الشباب بعد الحروب والكوارث نجاحه في رواندا ولبنان وإثيوبيا، حيث ساهم في إحياء الاقتصادات المحلية وتوفير فرص عمل واسعة وتعزيز الملكية المجتمعية لعملية الإعمار. إعادة بناء الخدمة المدنية عبر “التشبيب” والمصافحة الذهبية: يتطلب الإعمار وجود جهاز دولة مهنيٍّ وفعّال. نقترح فى هذا السياق برنامجاً واسعاً لتدريب وتأهيل الشباب لقيادة الخدمة المدنية، حيث يتم توظيف جيل أو جيلين من فئة الشباب المؤهل لقيادة مشروع التحول الرقمي وبناء حكومة إلكترونية لتطوير كفاءة تقديم الخدمات وقفل منافذ الفساد. إعادة تأهيل الخدمة المدنية ومؤسسات الدولة بهذا الشكل الجذرى تتطلب إنشاء صندوق للحماية الاجتماعية لتمويل “مصافحة ذهبية” للمسرحين (بالتراضى) من منسوبى الخدمة المدنية، إضافة إلى تمويل برنامج إعادة بناء القوات النظامية (سنعود لموضوع تمويل هذا الصندوق أدناه).
ثانياً: الأسس الاقتصادية لإعادة الإعمار الانتقال من التقشف إلى النمو: بعد الحرب، لا يمكن للدولة أن تبقى رهينة التقشف. المطلوب هو تحفيز النمو من خلال زيادة الاستثمار العام، خصوصاً في الزراعة، والبنية التحتية، والطاقة، والتعليم، ورأس المال البشري. هذا النهج يشبه ما قامت به كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي، وما نفّذته إثيوبيا خلال الفترة 2004-2015 حين راهنت على “الشرعية الاقتصادية” عبر برامج تنموية واسعة. التحول الهيكلي في الزراعة وبناء ممرات النمو حول المدن المنتجة (development corridors): السودان يمتلك أحد أكبر القطاعات الزراعية في إفريقيا والشرق الأوسط. إلا أن تحويل الموارد الزراعية الكامنة إلى روافع للنمو الاقتصادى السريع والمستدام يتطلب استراتيجية تنمية زراعية متكاملة، كما فى تجارب فيتنام والهند في التحول الزراعي، حيث قادت الزراعة الحديثة عملية اللحاق التنموي بفضل:
• الإستثمار فى بناء القاعدة الرأسمالية (البذور، البنية التحتية، الري، السلع الرأسمالية)
• تمكين المجتمعات الزراعية (التعاونيات، اتحادات المزارعين، الخدمات الأساسية)
• سياسات كلية داعمة للأسعار، وسعر صرف منافس، واستقرار مالي
أيضاً، نقترح تبنى رؤية “جعل الزراعة كالصناعة” بإعتماد بناء “محاور النمو حول المدن المنتجة”، والربط اللوجستي بينها وبين الأرياف. هذه الرؤية تشبه نموذج الممرات التنموية في كينيا وإثيوبيا، حيث أصبحت المدن الكبرى حواضن للنمو الزراعي والصناعي والخدمات عالية الانتاجية عن طريق تشبيك القطاع الزراعى بالتصنيع والخدمات اللوجستية والمالية وغيرها. الصناديق الاجتماعية والتحويلات النقدية: لضمان نجاح الإعمار ووضع لبنات الانطلاق نحو الإنتقال الإستثمارى النهضوى، لا بد من بناء منظومة لتمويل إعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية فى سياق البرنامج الإسعافى وكذلك الحماية الاجتماعية المستدامة لما بعد حقبة تعافى الاقتصاد وإعادة الإعمار:
• إنشاء صندوق للحماية الاجتماعية الشاملة لتمويل “المصافحة الذهبية” وكذلك برنامج “إعادة بناء القوات النظامية” – تمويل هذا الصندوق يتطلب الحصول على قرض طويل الأجل قد يتراوح بين 3.5-4.5 مليار دولار (سنعود لهذا الموضوع بالتفصيل فى مقال قادم، بإذن الله)
• إنشاء صناديق مخصصة لتمويل قطاعى التعليم والصحة، إضافة إلى إعتمادات الموازنة الجارية
• إعادة إطلاق برنامج “دعم الأسر” عن طريق التحويلات النقدية بواسطة الهاتف النقال بإستخدام معلومات الرقم الوطنى الموحد كما أشرنا سابقاً: وفى هذا السياق فإن برنامج ” Bolsa Família” البرازيلى قد لعب دوراً مركزياً في تخفيف الفقر بعد الأزمات ويمكن النظر فى الإهتداء به لإعادة إطلاق صيغة سودانية لهذا البرنامج (سنخصص مقالاً لهذا الموضوع بإذن الله).
ثالثاً: الأساس السياسي والمؤسسي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوى
تناولنا فى مقالات سابقة خمس مرتكزات سياسية ومؤسسية : الشرعية الاقتصادية؛ النظام الرئاسى- البرلمانى الهجين؛ الإنتقال من نظام الولايات إلى الأقاليم والمحليات حول المدن الكبرى؛ حكومات الوحدة الوطنية؛ والسردية الوطنية الجامعة. تأسيساً على هذه المرتكزات علينا تحديد البرامج القمينة بإنجاز مرحلة تعافى الاقتصاد وإعادة الإعمار وصولاً إلى آفاق الانتقال الاقتصادى النهضوى. فى هذا السياق نزمع إفراد عدة مقالات لمكونات المشروع الاقتصادى التالية:
• تدريب وتوظيف الشباب لدعم العون الانسانى، إعادة الإعمار وإعادة بناء الخدمة المدنية والقوات النظامية
• تمويل “المصافحة الذهبية” وصناديق الحماية الاجتماعية
• النسخة الثانية من برنامج “دعم الأسر”
• التحول الهيكلى فى القطاع الزراعى والإنتقال التنموى النهضوى – مشروع المدن المنتجة وممرات النمو خاتمة

إن البرنامج الإسعافي وإعادة الإعمار الذي نقترحه ليس وصفة تقنية معزولة، بل هو جزء لا يتجزأ من مشروع وطني أشمل يهدف إلى إنقاذ الدولة السودانية من براثن الانهيار، واستعادة قدرتها على بسط الأمن، وتقديم الخدمات، وتعبئة الموارد، وتحريك عجلة النمو، وتعزيز رأس المال البشري، وفتح الطريق نحو الانتقال النهضوي المنشود. ولئن كانت الحرب الحالية قد عمّقت جراح البلاد ومزّقت أوصال مؤسساتها، فإنها في الوقت ذاته كشفت، بوضوح لا لبس فيه، أن السودان لا يمكن أن ينهض من جديد إلا عبر رؤية مدنية وطنية تعالج جذور أزماته البنيوية، وتُعيد تأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الشرعية الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية، والحوكمة الرشيدة، وسيادة القانون.
ويمثّل هذا البرنامج الإسعافي – بما يتضمنه من أولويات عاجلة في الأمن والعون الإنساني، وإعادة الخدمات العامة، وتشغيل الشباب، وإصلاح الخدمة المدنية، وتنمية القطاعات الإنتاجية، وتطوير شبكات الأمان الاجتماعي – الجسر الضروري الذي يربط بين حالة الطوارئ الإنسانية وبين آفاق التحول التنموي على المدى المتوسط والبعيد. غير أنّ نجاحه مشروط بإرادة سياسية جادة، وبحاضنة مدنية واسعة، وبانفتاح فاعل على المجتمع الدولي، واقتناع الشركاء بأن السودان، إذا ما استعاد مسار التحول المدني الديمقراطي، قادر على تحويل هذا الدعم إلى قفزة نوعية تعيد إدماجه في الاقتصاد الإقليمي والعالمي.

إن السودان يقف اليوم على مفترق طرق تاريخي؛ فإما أن ينقاد إلى منطق الانهيار المُتسلسل، أو أن يختار – بإرادة جماعية – مسار شعار الثورة المجيدة – “حرية، سلام وعدالة” – المفضى إلى قيامة السودان ونهضته. وما نطرحه في هذا المقال ليس سوى الخطوط العريضة لهذا المشروع، على أن نفصّل – في مقالاتنا القادمة – البرامج العملية اللازمة لتنفيذ هذه الرؤية: من تمويل المصافحة الذهبية، إلى إعادة بناء القوات النظامية والخدمة المدنية، وإحياء برنامج دعم الأسر، وانتهاءً باستراتيجية التحول الزراعي وممرات النمو حول المدن الكبرى وأريافها. (1) أنظر الرابط: https://press.un.org/en/2025/sgsm22555.doc.htm?utm_source=chatgpt.com (2) كوزير مالية فى الحكومة الانتقالية قد أصدرت القرار الوزاري رقم (23) بتاريخ 9/12/2019م بتشكيل لجنة برئاسة الأستاذ فتح الرحمن جاويش، الأمين العام الأسبق لديوان الضرائب بوضع خطة إنشاء الجهاز القومي للإيرادات في السودان وذلك استناداً على قرار مجلس الوزراء في الاجتماع رقم (10) بتاريخ 19/11/2019م.

(3) هناك توافقاً بين خبراء السياسة المالية العامة بأن الحد الأدنى للإيرادات الضريبية لكى تتمكن الدولة من الإيفاء بمسئولياتها المالية يقدر بحوالي 15% من الناتج المحلى الإجمالى، بينما الدولة التي لا تستطيع توفير هذا الحد الأدنى توصم بأنها دولة رخوة: fragile state – الجدير بالذكر أن هذه النسبة لم تتعدى 6% فى ظل نظام الإنقاذ البائد.

الوسومإبراهيم أحمد البدوى عبد الساتر إعادة الإعمار استعادة الأمن الإصلاح الاقتصادي الانتقالي الإصلاح النهضوي البرنامج الإسعافي الحرب الأهلية الخدمة المدنية السودان القوات النظامية المشروع الوطني

مقالات مشابهة

  • المشروع الوطني لليوم التالي: البرنامج الاسعافي لإعادة الإعمار والانتقال النهضوي
  • سعر الدولار والعملات الأجنبية مقابل الريال اليوم الاثنين 10-6-1447
  • الدولار مقابل الشيكل.. أسعار صرف العملات في فلسطين اليوم الإثنين 1 ديسمبر
  • الدولار واليورو بكام؟.. أسعار العملات العربية والأجنبية اليوم الأحد 30 نوفمبر 2025
  • تعرف على أسعار الدولار والعملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم
  • وفقا لآخر تحديث.. أسعار العملات الأجنبية في البنك الأهلي اليوم
  • أسعار العملات اليوم الأحد 30 نوفمبر 2025 - الدولار مقابل الشيكل
  • الدولار مقابل الشيكل.. أسعار صرف العملات في فلسطين اليوم الأحد 30 نوفمبر
  • سعر الريال مقابل الدولار والعملات الأجنبية اليوم السبت 8-6-1447
  • الدولار مقابل الشيكل.. أسعار صرف العملات في فلسطين اليوم السبت 29 نوفمبر