قبل 22 شهراً، كانت الألغام تهديداً محصوراً في مناطق النزاع. اليوم، باتت مدن وقرى بأكملها أشبه بحقول موت مفتوحة

التغيير ــ وكالات

في السودان، لم تعد الحرب وحدها التهديد الأكبر. الألغام الأرضية ومخلفات الحرب غير المتفجرة تحوّلت إلى شبح يومي يطارد المدنيين، خصوصاً في المناطق التي شهدت معارك ضارية. المزارعون، الأطفال، وحتى العائدون إلى منازلهم بعد نزوح طويل، جميعهم باتوا أهدافًا غير مقصودة لهذه الفخاخ القاتلة، التي لا تميز بين قدم عابرة وأخرى مدججة بالسلاح.

اتساع رقعة الخطر

قبل 22 شهرا، كانت الألغام تهديداً محصوراً في مناطق النزاع. اليوم، باتت مدن وقرى بأكملها أشبه بحقول موت مفتوحة. في ولاية الجزيرة، انفجر لغم في الفريجاب غربي مدينة الحصاحيصا، فقتل سائقًا كان يعبر شارعاً ترابياً الأسبوع الماضي. وفي جبل مويا بولاية سنار جنوب شرقي البلاد، أسفر انفجار آخر عن سقوط 13 ضحية في لحظات. أما طريق شندي، فشهد أول حادثة من نوعها، مما يعكس توسع نطاق التهديد. وفي الخرطوم، كشفت الأمطار الأخيرة بضاحية الجيلي شمالي العاصمة، عن ألغام مدفونة، لتصبح حتى الشوارع الرئيسية أفخاخًا غير مرئية.

وعلى مدار الأشهر الماضية، عجّت مواقع التواصل الاجتماعي، وحسابات السودانيين بتلك المنصات التفاعلية، بمقاطع فيديو وصور تُوثِّق انتشار الألغام في الأحياء السكنية وعلى الطرقات، إلى جانب مشاهد مؤلمة لضحايا تلك المتفجرات، الذين فقدوا أطرافهم إلى عائلات فجعت بفقدان أحبائها بسبب انفجارات مفاجئة. تلك المواد المصورة شكّلت صدمة للرأي العام، وكشفت حجم الكارثة التي تهدد حياة آلاف المدنيين حتى إن توقّفت الحرب.

الألغام كسلاح حرب

إلى ذلك، أكدت مصادر عسكرية لـ”العربية.نت” أن الدعم السريع توسّعت في استخدام الألغام بشكل عشوائي في ارتكازاتها في الشوارع الرئيسية وداخل الأسواق والأحياء لإعاقة تقدم القوات المسلحة وتأمين فرارها، خصوصاً في ولاية الجزيرة. لكن تلك الألغام لم تبقَ في ساحات القتال، بل أصبحت كابوساً يطارد المدنيين، مما دفع السلطات المختصة بنزع الألغام إلى إطلاق تحذيرات مشددة بعدم لمس أي أجسام غريبة.

هل من حلول؟

في مواجهة هذا الخطر، أعلن المركز القومي لمكافحة الألغام إزالة أكثر من 6,000 جسم متفجر في الخرطوم وحدها. لكن حجم المشكلة أكبر بكثير، إذ لا تزال مساحات واسعة ملوثة، ولا تتوفر إحصائيات دقيقة عن العدد الفعلي للألغام المزروعة، خاصّة أن المعارك ماتزال مستمرة.

كابوس تحت التراب

من سوء الحظ، أن الحرب لا تنتهي بانتهاء القتال. فهناك تحت التراب تظل الألغام الأرضية كامنة لعقود، كأنها أشباح تنتظر اللحظة المناسبة للفتك بضحاياها. منذ عام 1955، خلّفت الصراعات المتتالية في السودان، إرثًا قاتلًا من الشراك الخداعية والمتفجرات غير المنفجرة، لتصبح الأرض ساحة موت صامتة تحصد الأرواح بلا إنذار.

بدوره، يؤكد خبير في إزالة الألغام لـ”العربية.نت” أن “الواقع أبشع من التصورات العابرة. فالألغام ليست مجرد أدوات حرب، بل هي قنابل مؤجلة، تقتل حتى بعد أن يسود السلام”. تلك المتفجرات لا تفرّق بين جندي ومدني، بين طفل ومزارع، وتستمر في حصد الأرواح لعقود طويلة، إذ يمكن لبعضها البقاء نشطًا لأكثر من 50 عامًا، ما يجعلها قنبلة موقوتة تهدد الأجيال القادمة.

دمار ممتد عبر الزمن

الألغام لا تترك أثرها فقط على الأجساد، بل تدمر المجتمعات بالكامل. جسديًا، تتسبب في البتر، العمى، العقم، والإجهاض. اقتصاديًا، تعرقل الزراعة، الرعي، والتعدين، كما تعطل التنمية، وتخفض دخل الأسر. بيئيًا، تلوّث المياه والتربة، وتحول الأراضي الخصبة إلى حقول موت. أما اجتماعيًا ونفسيًا، فهي تزرع الخوف، الرعب، تعزل المجتمعات، وتخلق صدمات قد تستمر مدى الحياة.

مفارقة قاتلة

تكلفة زرع لغم؟ أقل من 10 دولارات. تكلفة نزعه؟ قد تتجاوز 1000 دولار. المفارقة المؤلمة أن الحرب تزرع الموت سريعًا، بينما يحتاج السلام إلى سنوات، وأحيانًا عقود، لإزالته. ومع غياب الخرائط الدقيقة، والفيضانات التي تعيد توزيع المتفجرات، تزداد عمليات الإزالة تعقيدًا، ما يجعل التخلص من ذلك الإرث مهمة شبه مستحيلة.
حياة على حافة الموت

في القرى والمدن، يعود النازحون إلى ديارهم غير مدركين إن كانت الأرض التي يمشون عليها آمنة. الأطفال يلهون في الشوارع، حيث قد تكون خطوة واحدة كفيلة بإنهاء حياتهم. وبينما تتحرك جهود إزالة الألغام ببطء، يظلّ السؤال الأكثر إلحاحًا: إلى متى سيظل الموت مختبئًا تحت التراب؟

الوسومالألغام الخرطوم الموت متفجرات

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الألغام الخرطوم الموت متفجرات

إقرأ أيضاً:

مجمع اللغة العربية يرصد لغة الحرب في السودان.. من “جغم” إلى “بل بس“

مجمع اللغة العربية يرصد لغة الحرب في السودان.. من “جغم” إلى “بل بس“
في خطوة لافتة تهدف إلى رصد تحوّلات اللغة في زمن الحرب، نظّم مجمع اللغة العربية بالخرطوم محاضرة علمية بعنوان “الألفاظ والألفاظ المصاحبة الشائعة في الإعلام والتواصل في حرب السودان 2023–2025”، قدّمها الدكتور عثمان أبوزيد عثمان، وذلك يوم الأربعاء 21 مايو 2025م، ضمن سلسلة اللقاءات الثقافية التي يعقدها المجمع.
استعرضت المحاضرة بشكل معمق التحوّلات الدلالية التي طرأت على اللغة المستخدمة خلال الحرب، مركّزة على ما وصفه المحاضر بـ”المسكوكات اللفظية” التي لم تعد مجرد أدوات للتوصيف، بل صارت وسائل لصياغة التصورات السياسية وتوجيه الرأي العام.
وأشار الدكتور عثمان إلى أن كثيرًا من المصطلحات المتداولة تعود جذورها إلى لهجة قبائل البقارة في غرب السودان، مستندًا إلى دراسة للراحل الدكتور محيي الدين خليل الريح، مؤكّدًا أن بعض المتورطين في الحرب لا يمثلون هذه القبائل الأصيلة، رغم استخدامهم لألفاظها.
ومن الألفاظ التي تم تحليلها خلال المحاضرة:
“بل بس”: تعبير جاء من استخدام الحبل المشبع بالأوساخ في تقييد البهائم، وارتبط لاحقًا بمن يُصنّفون على أنهم “بلابسة”.
“جغم”: أصلها شرب الماء، لكنها في الحرب أصبحت ترمز للقتل السريع واليسير.
“عرّد”: تعني الهرب، ولها جذور في اللغة العربية الكلاسيكية، لكنها اكتسبت معنى خاصًا في سياق الفرار من المعركة.
“كوز”: مصطلح انقلب من مدح إلى قدح، ويُستخدم الآن في سياق هجائي سياسي حاد.
المحاضرة لم تكتفِ برصد الكلمات، بل سلطت الضوء على البعد الثقافي والسياسي والاجتماعي للخطاب الحربي، وناقشت كيف تحوّلت الألفاظ إلى رموز للصراع، وأحيانًا إلى أدوات لشيطنة الآخر.
كما تناولت أثر وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار خطاب الكراهية، وأبرزت كيف أصبحت بعض الألفاظ محمّلة بدلالات عنف، رغم أنها كانت تُستخدم في سياقات محلية غير عدائية.
اختتم الدكتور عثمان حديثه بالتأكيد على أن هذه المحاضرة تمثّل مدخلًا لدراسة أوسع، مؤكدًا أن بعض هذه الألفاظ قد تنقرض بانتهاء الحرب، لكن بعضها الآخر سيدخل في المعجم التاريخي السوداني.
وختم برسالة أمل دعا فيها إلى استعادة قيم السلام والمروءة، مشيرًا إلى مثل شعبي بدارفور يقول فيه الطفل لخصمه: “دُقني وما تنبزني”. عبارة تختصر المعنى العميق بأن الكلمة قد تكون أقسى من الضرب.
وقد أعلنت إدارة المجمع أن نص المحاضرة الكامل سيُنشر في كتاب لاحق، كما تُتاح نسخة صوتية منها عبر قناة المجمع على تليغرام، مع توجيه الشكر لكل من شارك في النقاش وعمّق من محتواه العلمي والثقافي.
رابط المحاضرة في تليقرام
https://t.me/Khartumarabicacademy/72

عثمان أبوزيد ابوزيد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مجمع اللغة العربية يرصد لغة الحرب في السودان.. من “جغم” إلى “بل بس“
  • طرق الحياة تعود بين صنعاء وعدن.. تفاصيل الصفقة السرية التي ستُنهي سنوات القطيعة
  • أوكرانيا تنسحب من اتفاقية أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد
  • غزة.. 14 ألف مريض وجريح يواجهون الموت جراء حصار المعابر الإسرائيلي
  • مستشار المرشد الإيراني: ضربنا 16 صاروخا على قاعدة العديد و6 منها أصابوها
  • المخاطر والفرص
  • محللون وخبراء: المهلة الزمنية التي حددها ترامب لوقف إطلاق النار بغزة غير واقعية
  • جرائم قتل صامتة.. منع السفر يضع 14 ألف مريض غزّي على حافة الموت
  • مادورو ليهود العالم: أوقفوا جنون الحرب التي يقودها نتنياهو
  • الكشف عن الخسائر المادية التي تكبدتها إسرائيل في الحرب مع إيران