هل لا يزال نتنياهو يحلم بمشروع إسرائيل الكبرى؟
تاريخ النشر: 22nd, February 2025 GMT
عادة ما يتلذذ نتنياهو بترديد، ما يشير إلى أنه مبعوث قوة "روحية/ خفية" مؤيدة وداعمة له لإنجاز مشروعه عن "الشرق الأوسط الجديد" ـ وهو المصطلح "الناعم" لمعنى إسرائيل الكبرى ـ وأن "رسالته" إلى العالم، كانت مرهونة بمآلات الحرب على الجبهة اللبنانية، فيما كان واثقًا وكأن "بطاقة ضمان" دسّتها تلك القوةُ الخفية في جيبه، مُرفقًا بها خريطة هذا "الشرق المزعوم" الذي يستخدمه نتنياهو كـ"مرهم" و"مُلطف" للجرح الإسرائيلي النازف منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، فيما يعتقد آخرون من حاضنته السياسية، الأكثر اعتدالًا ورصانةً، بأنه "يوتوبيا" ومثل من يطلب "لبن العصفور" كما يقول المثل الشعبي العربي.
إسرائيل ـ منذ هزيمتها في حرب "أكتوبر/ رمضان" 1973 ـ لم تحقق أي انتصارٍ إلا على المدنيين والمخيمات، وظلت عالقة بعد أكثر من 15 شهرًا من بربريتها في مخيم بحجم "جباليا" وبضعة أمتار في قرى جنوب لبنان، ومع ذلك ما انفكت تتكلم بوقاحة عن عدم رضاها بـ"إسرائيل الصغرى"، وأنها في سبيلها لإنجاز "نسختها الكبرى" تحت لافتة الشرق الأوسط الجديد.
وكما يقولون "الزَّنُّ على الوِدان/الأُذُن" أمرُّ من السحر، تصدَّرَ المشهدَ داخل الكيان، صحفيون ومعلقون، لإسالة هذه الديماغوجية إلى حقيقة متوهّمة، تجري في شرايين اليمين الشعبوي المتطرف مجرى الدم، ويتحدثون في صلف بأنَّ مرحلة ما "بعد حزب الله" ستكون مُدخلًا لتل أبيب، نحو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وإحالته إلى "منطقة سلمية" قادرة على إدارة المصالح المتضاربة طوعًا أو بعصا إسرائيل الغليظة.
إعلانلم يكن هذا التفكير المتفائل بالأمر الجديد، فبعد حرب الخليج عام 1991، واتفاقات أوسلو عام 1993، والربيع العربي عام 2011، روّج الخبراء الإسرائيليون لسيناريوهات وردية مماثلة، ولعلّ أشهرها كتاب شيمون بيريز صاحب الرؤية الذي ألفه في تسعينيات القرن العشرين حول "الشرق الأوسط الجديد"، وهي النبوءة التي قال عنها المفكر الإسرائيلي إفرايم أنبار: لقد تبين لاحقًا أنها "كلامٌ فارغ".
غاب لفترة ـ ليست بالقليلة ـ هذا الخطاب المتبجح، والمسلح بالحجج الدينية، وبغطرسة القوة على الأرض، ولعله قُمع وأحيل إلى "اللاوعي الإسرائيلي"، بفعل مرحلة الإحماء التدريجي والناعم التي شهدتها المنطقة ـ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ تمهيدًا لإدماج إسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة، وذلك إلى ما قبل طوفان الأقصى، الذي وضع العصا في عجلة التطبيع، فتعثر كلُّ شيء وتناثر المشروع مع بعثرة جثث الضحايا تحت أنقاض غزة المدمرة.
بيد أن صورةً لجندي إسرائيلي، التقطت له أثناء العمليات في غزة، في يونيو/ حزيران 2024 وهو يرتدي "شارة/ خريطة" إسرائيل الكبرى على زيّه العسكري ـ مطابقة لتصريح ثيودور هرتزل الذي مضى عليه أكثر من قرن من الزمان ـ أثارت غضبًا واسعًا في العالم العربي.
الخريطة ـ كما بدت على ذراع المقاتل الإسرائيلي ـ شملت مناطق من النيل إلى الفرات، ومن المدينة المنورة إلى لبنان، بما في ذلك أراضٍ من سوريا، والأردن بأكمله.
ومن المرجح أن ما أثار الغضب العربي هذه المرة، لم يكن وجود الخطة، بل ظهورها في الفضاء الأوسع لوسائل الإعلام الاجتماعي، إذ في مطلع العام 2024، وفي مقطع صوتي مسجل، قال السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين: "… في النهاية، ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، ثم من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الفرات. وتساءل:
ومن الذي يقع على الجانب الآخر من الفرات؟ الأكراد! والأكراد أصدقاء. لذا، لدينا البحر الأبيض المتوسط خلفنا، والأكراد أمامنا، ولبنان، الذي يحتاج حقًا إلى مظلة حماية إسرائيل، وبعد ذلك أعتقد أننا سنستولي على مكة والمدينة وجبل سيناء، ونطهر تلك الأماكن " بحسب أوهامه المريضة.
إعلانولم يلقَ هذا المقطع ـ آنذاك ـ ردود أفعال غاضبة، ولعل ذلك يرجع إلى أن الحرب كانت في مراحلها الغضة، بكل تجلياتها "المبهجة" من انهيار الأساطير المؤسسة لـ" الدولة التي لا تقهر"، وتنامي الانطباع المصاحب لـ"النصر الغزي"، بأن ثمة شرقًا أوسطَ، يتشكل في رحم الغيب قد يكون بدون "إسرائيل".
بيدَ أن مشروع "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد"، اكتسب زخمًا أكبر، واهتمامًا متجددًا، مع النجاح التكتيكي الذي حققه نتنياهو، في المراحل الأولى من حربه على حزب الله (تصفية غالبية قياداته السياسية والأمنية والميدانية).
وفي حين ظل التوسع الإقليمي الإسرائيلي، بمسوغاته الدينية/ التاريخية، ومدى موضوعيته، يعيد ـ في العالم العربي ـ إنتاج خطابه الشعبوي كأداة للحشد والتعبئة والتخويف من التطبيع بدرجاته، أو كأداة بيد المعارضة السياسية، تستخدمها في إدانة أنظمة عربية تراها "متسامحة" مع المشروع، فإنه كان يخضع ـ مع كل أزمة ـ لاختبارات قاسية داخل دوائر النخبة الإسرائيلية، أو يُدرج على رأس أجندة مؤسسات بحثية، معنية بمستقبل منطقة الشرق الأوسط، وتبدأ من جذور المشكلة وأصولها، مثل التساؤل بشأن تحديد درجة علمية مطالبات هرتزل بالأرض، وخلص بعضها إلى أن هناك اتفاقًا واسع النطاق بين الباحثين على أن الكتاب المقدس لا يمثل مصدرًا تاريخيًا علميًا، وبالتالي فإن رواية العودة إلى إسرائيل، أو إسرائيل الكبرى يمكن ربطها بخطاب جدلي، وليس تاريخًا مفصلًا للمنطقة أو الحقائق الديمغرافية على الأرض.
لقد أخضعت البروفيسور إيكاترينا ماتوي ـ مديرة برنامج الشراكة مع الشرق الأوسط MEPEI ـ مقولات "هرتزل" والأصول التي أقام عليها بنيانه التوسعي لنقاش أقرب إلى اختبار صحة الأسانيد التي يستقي منها الشرعية التي تملك القدرة على الإقناع أو قياس المسافة التي تفصلها عن المشروع كحتمية تاريخية ومؤجلة.
إعلانوتساءلت: إذا كانت هذه الأرض إسرائيلية، فلماذا يتم شراؤها من ملاك قانونيين قائمين؟ وإذا كانت أطروحة الأرض "القاحلة" التي روجت لها وسائل الإعلام، أو "الأرض الشاغرة" بحسب "هرتزل" فلماذا يشتريها الإسرائيليون؟
ليخلص البرنامج إلى القول: يمكننا أن نؤكد أن طبيعة مطالب هرتزل المتعلقة بالأرض ليست علمية، فبينما كانت هناك أسباب دفعت الحركة الصهيونية إلى التفكير في تأسيس دولة يهودية مستقلة، فإن موقع وطريقة تنفيذ مثل هذا المشروع كانا خاضعين لمفاوضات أطول مع ضامني القوة في تلك الأوقات، أي القوى الاستعمارية السابقة، ألمانيا، ثم الولايات المتحدة في وقت لاحق، وكانت هذه اتفاقات ذاتية.
وإذا كان قد تم تحقيق أهداف الحكم الذاتي والحماية الذاتية التي ذكرها هرتزل، فإن هذه الحماية الذاتية تعتمد بشكل كبير على المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية حتى يومنا هذا، ما يعني أن "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد" يظل قرارًا دوليًا وليس إسرائيليًا محليًا، وهو القرار المستحيل، بسبب المصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.
في هذا السياق فإن معهد القدس للإستراتيجية والأمن الذي تأسس عام 2017 ويصر على أهمية القدس الموحدة كأساس لأمن الدولة والهوية الوطنية للشعب الذي يعيش في "صهيون" بحسب زعمه.. تهكم من فكرة "شرق أوسط جديد" ما بعد "حزب الله، وقال في لغة ساخرة: "من السذاجة الاعتقاد بأن حدثًا واحدًا قد يغير المشهد السياسي في منطقة بأكملها، فحتى النهاية الحاسمة للحرب الباردة والنصر الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة على صدام حسين ـ وهما حدثان كان لهما تأثير دولي كبير ـ لم يحدثا إلا القليل لتغيير السياسة المحلية أو الدولية في الشرق الأوسط.
ويعتقد المعهد أن الشبكة المعقدة من الديناميكيات المحلية والدولية لا تشجع على التعايش السلمي، وإذا كان السعي إلى تحقيق شرق أوسط أكثر سلامًا يشكل مشروعًا نبيلًا، بحسب زعمه، فإنه يظل مهمة شاقة في الوقت الراهن.
إعلانوينتهي إلى القول: " إن الدرس الذي يجب على إسرائيل أن تتعلمه هو أنها سوف تضطر إلى العيش على سيفها لسنوات عديدة قادمة، ورغم أن فترات انخفاض التوتر، مثل تلك التي تتمتع بها إسرائيل مع مصر والأردن، ممكنة بالتأكيد، فإنها لا تعكس علاقة ثنائية مختلفة نوعيًا، مثل العلاقة بين كندا والولايات المتحدة، وإن الانتقال من علاقة غير عنيفة إلى صراع مسلح قد يحدث بسرعة، ولا بد أن تكون إسرائيل مستعدة لهذا الاحتمال".
لا يوجد ما يشير بوضوح إلى أن إسرائيل قد تتخلى عن هذا الهدف، أو أنها قد تتنازل عن مشروع إسرائيل الكبرى، ومع ذلك، فإن الفكرة الرئيسية التي تظهر في الحجج التي تدافع عن مشروع إسرائيل الكبرى، أي العصر "الجديد" الدائم، قد تمثل بالفعل سببًا للتأمل.
فمع اقتراب العالم من نهاية عصر النفط الكبير، وتضاعف طرق التجارة على المستويين؛ العالمي والإقليمي، سوف تكون هناك حاجة إلى تغييرات نموذجية جديدة بالنسبة للقوى العظمى التقليدية من أجل التنافس سلميًا مع القوى الصناعية والتجارية الناشئة.
وفي حين تتمتع إسرائيل باستقلال نسبي ـ كما تدعي ـ وتزيد من حصتها في حماية نفسها، فإن أهمية الدعم الأجنبي قد تظل تشكل عنصرًا أساسيًا في سياستها الإقليمية، وعند تحليل مشروع إسرائيل الكبرى، يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار ما إذا كانت دولة الحرب الدائمة المحتملة متوافقة مع التطلعات نحو التنمية الاقتصادية في زمن السلم، والتي من المفترض أن تنافس القوى الاقتصادية سريعة النمو في عصر جديد، ما يجعل فكرة "إسرائيل الكبرى/الشرق الأوسط الجديد" خرافة تصطدم مع أية قراءة رصينة وعاقلة، إن لم تكن حلمًا بعيد المنال، وبالتزامن مع تنامي نزعة الثأر من تل أبيب في المنطقة التي "عليها العين"، وبالتوازي أيضًا مع اختمار تيار إسرائيلي استشرافي بات أكثر قناعة بأن الشرق الأوسط الجديد.. قد يتشكل فعلًا على المدى البعيد، ولكن بدون دولة إسرائيل.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات مشروع إسرائیل الکبرى الشرق الأوسط الجدید إلى أن
إقرأ أيضاً:
لماذا على الشرق الأوسط عدم السماح بانتصار إسرائيل؟
هل يمكن أن نتخيل شرقا أوسطيا بلا إيران؟ ليس فقط بلا نظامها، بل بلا حضورها الاستراتيجي، وبلا عمقها التاريخي، وبلا موقعها من معادلة الردع؟ من سيملأ الفراغ الكبير الذي يمكن أن تتركه؟
الإجابة على مثل هذا السؤال من شأنها أن تفتح سيناريوها الفوضى التي يمكن أن تعم المنطقة فيما لو انتصرت إسرائيل/ الغرب في الحرب التي تدورها الآن بينهم وبين إيران.
والحقيقة المهمة أنه لا يمكن إعفاء الدول العربية من مسؤولية المآلات التي تنتظر المنطقة فيما لو نجحت إسرائيل في أهدافها.. رغم أن الحديث عن مثل هذه المسؤولية أو أي مستوى من مستويات الندم سيكون بلا أي معنى ولا قيمة في اللحظة التي تكون الهيمنة الكاملة فيها لإسرائيل وحدها.. وعلى البقية الطاعة المطلقة للحقبة الجديدة بكل معطياتها.
والسؤال الجوهري الآن لا يكمن في قدرة إسرائيل على إلحاق هزيمة عسكرية بإيران، فهي لا تخوض هذه الحرب وحدها، بل تستند إلى دعم غربي مطلق، وصمت عالمي إلى حد التواطؤ.. ولذلك فإن السؤال الأكثر خطورة في هذه المرحلة هو: هل تستطيع المنطقة تحمّل تبعات هذه الهزيمة فيما لو تحققت؟! الإجابة التي أرها حاضرة بوضوح كامل: لا. بل إن تبعات هذه الهزيمة هي أكبر خطر يمكن أن يهدد العرب في لحظتهم الحالية.
أخطأ العرب طويلا في فهم إيران حين اقتصرت قراءتهم لها على الزاوية المذهبية/ الطائفية، رغم أنها، سواء في زمن الشاه أو في عهد الثورة، لم تكن ظاهرة طارئة في الإقليم، فهي حضارة عريقة مختزلة في دولة، ولها عمقها التاريخي ورؤيتها للمنطقة وفهمها الخاص بها، ولا يمكن بأي حال من الأحوال استبعادها من أي نظام إقليمي متوازن.. ورغم ما طرأ على خطابها السياسي بعد ثورة 1979، إلا أن تلك الثورة مهما كانت نظرة العرب والعالم لها لم تكن نتاج تصدير ديني فقط، ولكنها كانت انفجارا داخليا عميقا، جاء استجابة لتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية.. وكان من الحكمة أن تتحاور الدول العربية، خاصة، معها بناء على هذا المنطق لا تبني الرؤية الغربية في تحويل تلك الثورة وما صاحبها من تحولات عميقة إلى ذريعة يعاد وفقها صياغة التحديات الجيواستراتيجية للمنطقة.. وبناء جدران عالية من العداء السياسي والأيديولوجي مع إيران، وتجاهل حقوق الجوار الجغرافي والفهم التاريخي للإمكانيات الحضارية والتأثيرات المتبادلة بين الطرفين.
ورغم العقود الطويلة وما صاحبها من أحداث كانت كفيلة ببناء تصورات مختلفة ما زال الكثير من صُنّاع السياسات في الشرق الأوسط، إلى هذه اللحظة، يعتقدون أن انتصار إسرائيل على إيران من شأنه أن يقود المنطقة إلى استقرار حلمت به طويلا.. وهذه القناعة، التي صاغتها مراكز التفكير الغربية وروّجت لها دوائر النفوذ، تقوم على قراءة سطحية جدا للتاريخ، وتُغفل حقيقة أن مثل هذا الانتصار سيدخل المنطقة في حقبة جديدة تكون الهيمنة الكاملة فيها لإسرائيل فيما لن يبقى لدولة سواها، مهما كانت مكانتها الحالية، أي دور حقيقي.. وقد يتحول الجميع إلى دول وظيفية تؤدي خدمة للمشروع الإسرائيلي الكبير. بل إن الأمر قد يتحول إلى ما هو أسوأ حينما يعاد إنتاج عشرات النماذج من «داعش» والتي ستؤدي مع الوقت إلى اختفاء بعض الدول مع الخريطة العربية.
لا يعني هذا الحديث أنه كان على الدول العربية تجاهل الطموحات الاستراتيجية لإيران، ولا يفترض أن يحدث ذلك مع غيرها على أية حال، لكنّ التعاطي مع مثل هذه الطموحات ومن دولة مثل إيران في حجم جوارها الجغرافي وتأثيراتها الحضارية، كان ينبغي أن يكون ضمن توازن إقليمي صحي، لا ضمن منطق إسقاط إيران أو تفكيكها؛ فهذا لن يُنتج شرقا أوسطيا مستقرا، بل إن المؤكد أنه سيخلق فراغا جيوسياسيا ضخما ستكون دول الخليج أول من يدفع ثمنه كما حدث بعد سقوط بغداد عام 2003، وقد يمتد تأثيره على تركيا وعلى باكستان.
لا تسعى إسرائيل في هذه الحرب إلى مجرد نزع قدرة إيران على الردع، كما هو الخطاب الترويجي، فطموح إسرائيل لمن يفهم مشروعها ومشروع الغرب في المنطقة أكبر من ذلك بكثير وعنوانه الهيمنة الكاملة على إيران وتفكيك تأثيرها العسكري والإيديولوجي والاقتصادي، لتستطيع إسرائيل، بمعرفة وتعاون غربي، تطويع النظام الإقليمي لمصلحتها وحدها في طريق استكمال مشاريعها «التاريخية».
وحين يكتمل ذلك الطموح الإسرائيلي سيكون الحديث عن «التطبيع» السائد اليوم، أمرا ساذجا جدا، فالحقبة كلها ستكون حقبة إسرائيل، والثقافة ثقافتها والأمر أمرها، ومن أراد غير ذلك فعليه أن يكون جزءا من الفوضى الكبرى التي ستعم المنطقة.
ومما يؤسف له أن المشهد الحالي في العالم العربي/ الإقليم، مهيأ للدخول في مثل هذا السيناريو الخطير، واللحظة الحالية هي أحد أسوأ اللحظات التي مرت على العرب في تاريخهم الطويل المتخم بالصراعات والنكسات والنكبات التي لم يتبلور عنها وعي جمعي ولا وعي سياسي يمكن أن يكون مرجعا لهذه اللحظة الصعبة.
ورغم حجم الخطر الذي يحيط بالعرب من هذه الحرب ومآلاتها فيما لو انتصرت إسرائيل بشكل خاص إلا أن الأمر له تداعيات كثيرة على العالم أجمع حيث ستكون ثمة رسالة مفادها أن الدبلوماسية لم تعد وسيلة لحل النزاعات، والتفوق العسكري وحده من يستطيع فرض شروطه. وهنا يمكن ملاحظة مفارقة «الفراغ ـ الهيمنة»، ففي اللحظة التي ستتفكك فيها إيران، لا قدر الله، لن يصعد بديل طبيعي لها، بل تُملأ المساحة المتبقية بنفوذ إسرائيلي غير مقيّد، يتحكم بالمنظومات الأمنية، وشرايين الاقتصاد، والتكنولوجيا.
وهذا النمط من الهيمنة لا يستطيع بناء أي مستوى من الاستقرار، كما تذكر تجارب التاريخ، بل يولد مقاومة أشد، ويغذي شعورا بالإحباط والعداء في المجتمعات التي شكّلت هويتها حول فكرة المقاومة ـ من جنوب لبنان إلى العراق إلى غزة. والأسوأ، أن انهيار الدولة المركزية الإيرانية قد يُطلق قوى لا مركزية متطرفة، لا يمكن احتواؤها، بأي حال من الأحوال كما حدث في التجربة العراقية.
كما أنه يمكن أن يحول الشعور بالغبن وغياب العدالة وازدواجية المعايير إلى دوامة عنف لا تنتهي خاصة أنه يأتي في ظل وعي راسخ أن إيران تدفع ثمن دعمها لغزة وللقضية الفلسطينية بشكل عام الأمر الذي من شأنه أن يحرك العنف والصدام في كل مكان.
بهذا المعنى، فإن منع إسرائيل من تحقيق نصر في هذه الحرب يتجاوز فكرة تأييد إيران في سيادتها على مشاريعها العسكرية والاستراتيجية إلى كونه دفاعا مستميتا عن مبدأ التعددية الإقليمية في منطقة كانت تعيش على الدوام على كف عفريت.. وحيث لا يجب أن يسمح لطرف واحد بإعادة صياغة المنطقة وفق مشروعه الخاص. وعلى الدول العربية، والخليجية منها بشكل خاص، أن تستخدم كل نفوذها من أجل منع إسرائيل من الانتصار، لا أن تدعمها في السر والعلن، وأن يعاد هندسة العلاقات الإقليمية على أسس التوازن، والشراكة، والحوار، لا على منطق الغلبة العسكرية.. وخلاف ذلك سيجعل العرب يندمون ندما عظيما على تفكيك إيران لصالح الهيمنة الإسرائيلية، كما ندموا على سقوط العراق.. وفي الحقيقة كما ندموا على أشياء كثيرة جدا حصلت بعد سقوط العراق.
تحتاج منطقتنا في هذه اللحظة التاريخية إلى مزيد من العقل والحكمة والفهم لبناء التوازن والقدرة على رسم معادلة الاستقرار.. ولذلك لا يجب السماح بأي حال من الأحوال لإسرائيل أن تنتصر في هذه الحرب لأن ذلك سيكون على حساب استقرار المنطقة وقدرتها على الحفاظ على هويتها وثقافتها وأمنها.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»