رمضان بين القدسية والانحلال .. أزمة وعي
تاريخ النشر: 15th, March 2025 GMT
بقلم : سمير السعد ..
يعد شهر رمضان المبارك موسمًا للسمو الروحي والتأمل والتقرب إلى الله، لكنه في السنوات الأخيرة أصبح، للأسف، ميدانًا لانفلات أخلاقي وإعلامي ممنهج، تحركه منصات رقمية وبرامج ترفيهية ومسلسلات تساهم في تجهيل المجتمع وتعزيز التفاهة والانحطاط الأخلاقي.
لا يمكن إنكار أن بعض وسائل الإعلام استغلت الشهر الفضيل لإنتاج محتوى يروج للعنف اللفظي والجسدي، ويجعل من السوقية والانحطاط الفكري أدوات لجذب المشاهدات.
أحد أبرز مظاهر الانحراف في المشهد الإعلامي هو استغلال العلاقات الأسرية للترويج لمحتوى هابط، حيث بات بعض الأزواج والزوجات يستعرضون حياتهم الشخصية لأغراض التسوّل الإلكتروني أو لتحقيق الشهرة، متجاهلين أن هذه السلوكيات لا تتماشى مع أخلاق المجتمع المحافظ، بل تكرس مفهوم الدياثة وتسليع الإنسان وتحويل الحياة الزوجية إلى سلعة إعلامية تُباع وتُشترى.
ولا تقتصر الأزمة على الإعلام الترفيهي فقط، بل تتعداها إلى المشهد السياسي، حيث نجد كتّابًا ومدونين ينقلبون على آرائهم بين ليلة وضحاها، متماشين مع من يتصدر الواجهة السياسية، في ممارسة مكشوفة للتملق والانتهازية. فمن كان يهاجم جهةً بالأمس، تجده اليوم يصفق لها، وكأن المبادئ أصبحت مجرد شعارات مؤقتة تُبدّل وفق المصالح.
وفي الوقت الذي يتعرض فيه الأبرياء في البلدان الإسلامية إلى القتل والتشريد، يلهث جزء كبير من المجتمع وراء تفاهات مواقع التواصل وبرامج “الترفيه”، غافلين عن معاناة الشعوب التي تعاني ويلات الحروب والاضطهاد. هذه اللامبالاة المتزايدة تنذر بمخاطر مستقبلية تهدد الوعي الجماعي، وتجعل من التجهيل أداة لإضعاف المجتمعات وإبعادها عن قضاياها الحقيقية.
في ظل هذا المشهد المظلم، لا بد من وقفة جادة من الأسرة والمجتمع لمواجهة هذا الانحدار. فالتربية الأسرية لا تزال الحصن الأول ضد الانحراف، ولا يصعب على الآباء توجيه أبنائهم وتنبيههم لعدم الانجرار وراء المحتوى الهابط. كذلك، فإن الجهات الأمنية ونقابة الفنانين وهيئات الإعلام مطالَبة بالتصدي بحزم لمروجي الانحلال، وفرض رقابة صارمة على البرامج التي تنشر العنف والتفاهة والإباحية المقنّعة.
رغم هذه الموجة الجارفة من التفاهة، برزت أعمال درامية راقية حافظت على القيم الفنية والرسائل الهادفة، مثل مسلسل “العشرين” للفنانة آلاء حسين، الذي قدم صورة مؤثرة ومتزنة للدراما العراقية، إضافة إلى العمل الذي يجسد بطولة الشهيد حارث السوداني، ومسلسل “قط أحمر” للفنان أحمد وحيد، الذي تميز بأسلوبه الساخر والهادف. هذه الأعمال تثبت أن الإعلام يمكن أن يكون أداة للإصلاح بدلًا من الانحطاط، إذا وُجدت الإرادة الحقيقية لصناعته بمسؤولية.
لقد وصلنا إلى مفترق طرق خطير، حيث أصبح تجهيل المجتمع مشروعًا متكاملًا يُروّج له بطرق مباشرة وغير مباشرة. لكن الأمل لا يزال قائمًا بفضل الوعي المتنامي لدى فئة من المثقفين والمجتمع الواعي الذي يدرك مخاطر هذا الانحدار. المسؤولية مشتركة، بين الأفراد والجهات الرسمية، لإنقاذ ما تبقى من القيم، وإعادة الهيبة لشهر رمضان كزمن للروحانية لا للانحلال.
فهل سنستمر في الانحدار، أم سنستعيد وعينا قبل فوات الأوان؟
سمير السعدالمصدر: شبكة انباء العراق
كلمات دلالية: احتجاجات الانتخابات البرلمانية الجيش الروسي الصدر الكرملين اوكرانيا ايران تشرين تشكيل الحكومة تظاهرات ايران رئيس الوزراء المكلف روسيا غضب الشارع مصطفى الكاظمي مظاهرات وقفات
إقرأ أيضاً:
جرجس إبراهيم يكتب: إعادة ترتيب المشهد الكنسي
يُعدّ قداسة البابا تواضروس الثاني نموذجًا حيًّا للنضج الفكري والإداري في قيادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عصرٍ تتسارع فيه التحديات والمتغيرات.
لقد انعكس نضج البابا الفكري في انفتاحه على القضايا المجتمعية والإنسانية، وتجلى ذلك في خطابه المتوازن الذي يدعو إلى المحبة والسلام والتسامح، محافظًا بذلك على صورة الكنيسة كمنارة روحية ووطنية.
أما على الصعيد الإداري، فقد قدّم نموذجًا للإدارة المسيحية الرشيدة وتطوير آليات العمل الرعوي والإداري، مما ساهم في إعادة ترتيب المشهد الكنسي بشكل فعّال.
ومن أبرز ملامح هذا النضج الإداري رؤيته الإصلاحية، إذ اختار الأنبا يؤانس أسقف أسيوط سكرتيرًا للمجمع المقدس للكنيسة، الأمر الذي يضفي روحًا جديدة على الكنيسة ويكسبها قدرة أكبر على مواجهة التحديات المعاصرة.
إن هذا الاختيار يمثل مرحلة فارقة في تاريخ الكنيسة القبطية، إذ يُسهم بشكل جوهري في إعادة ترتيب المشهد الكنسي وتجديد حيويته، لتظلّ الكنيسة صرحًا شامخًا يجمع بين الأصالة والمعاصرة في آنٍ واحد.
ولم أكن متحمسًا للكتابة عن هذا القرار لعدة أسباب؛ أولها العلاقة الأبوية التي تربطني بالأنبا يؤانس، فهو كما يقولون: "شهادتي فيه مجروحة"، ولكنني لم أستطع الصمت أمام هذا الحدث الجليل، للحق وللتاريخ، أقول إن تولي الأنبا يؤانس منصب سكرتير المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية سيكون علامة مضيئة، ونقطة فاصلة، ومرحلة جديدة في عمر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
إن قرار اختيار الأنبا يؤانس جاء كإعلان لتجديد شباب الكنيسة القبطية؛ فهو رجل نشيط لا يهدأ، وإيمانه ثابت، وشجاعته لا يُرقى إليها شك، كما أنه يحتضن فكرة الكنيسة الوطنية المصرية المتميزة والمستقلة.
أراد البابا تواضروس من هذا الاختيار أن يترك أثرًا باقيًا في تاريخ الكنيسة، فهو شديد الإحساس بميراث الكنيسة والتحديات التي تواجهها، قوة رياح التغيير داخل الكنيسة، والمطامع المستجدة لجيل مختلف من الشباب.
يملك الأنبا يؤانس الكثير من المقومات اللازمة لهذا المنصب؛ فهو راهب متعلم، وكاتب وخطيب متمكّن، وشخصيته قوية، إلى جانب الكثير من صفات الزعامة، وقوة الاحتمال والمثابرة التي لا شك فيها، كما أنه أذكى مما يقدّره الآخرون، وهو أيضًا أكثر التزامًا بمقدّرات الدولة المصرية، إذ لطالما خصّصت الكنيسة جزءًا كبيرًا من حيويتها عبر الأجيال المتعاقبة لخدمة الدولة المصرية.
ورغم فرحتي الكبيرة بهذا الاختيار، فإنني أشفق جدًا على الأنبا يؤانس من هذه المسؤولية الكبيرة، لكنني واثق من قدرته على إعادة شمل الكنيسة، وعلى ترتيب وتنظيم شؤونها، فهو يجمع بين العمق الروحي والدقة الإدارية، وهو نموذج يُحتذى به في القيادة الكنسية المتّزنة.
فالأنبا يؤانس يُعدّ من أبرز الشخصيات الكنسية التي ساهمت في إعادة تنظيم شؤون الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، خاصةً خلال فترة خدمته كسكرتير خاص لقداسة البابا شنودة الثالث، حيث امتدت خدمته في هذا المنصب لمدة 21 عامًا، مما أتاح له تأثيرًا كبيرًا في إدارة وتنظيم الشؤون الكنسية، بالإضافة إلى إشرافه على العديد من الملفات الكنسية الهامة، الأمر الذي مكّنه من المساهمة في صياغة السياسات الكنسية وتنظيم العمل داخل الإيبارشيات.
ويُعتبر الأنبا يؤانس نموذجًا للقائد الكنسي الذي يجمع بين الروحانية العميقة والحكمة الإدارية؛ فقد ساهم بشكل فعال في إعادة ترتيب وتنظيم شؤون الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على مدار أكثر من ثلاثين عامًا، سواء من خلال خدمته كسكرتير خاص للبابا شنودة الثالث أو كأسقف على إيبارشية أسيوط، مما جعله شخصية محورية في تاريخ الكنيسة المعاصر.