دار بيني وبين أحد الأصدقاء نقاش طويل حول معنى الفقر، ومن هو الفقير الحقيقي الذي يستحق الدعم والمساندة من المجتمع والدولة. كان الفقر والفقير فـي الماضي واضح المعالم، شخص معدم بالكاد يجد قوت يومه بلا مأوى بلا مورد دخل يعيش على ما تجود به الأيدي الرحيمة من جيرانه وأقربائه. لكن مع تطور الحياة وتقدمها تغيرت كثير من المفاهيم منها مفهوم الفقير الذي لم يعد بتلك الصورة النمطية التراثية المتوارثة فقد تجد اليوم فقيرًا يسكن فـي منزل جيد ويمتلك سيارة وهاتفًا محمولًا وإنترنت، ويتمتع بعدد من وسائل الترفـيه والتسلية ويسافر فـي بعض أيام السنة القائضة مع أسرته فـي سفر داخلي، فظاهريًا يبدو ذلك الشخص وكأنه من سكان الطبقة المتوسطة لكنه فـي واقع الحال هو من قاطني الطبقة الدنيا طبقة الفقر المالي التي هي أرفع درجات الطبقة الدنيا التي تقسم إلى ثلاث طبقات مختلفة، هي طبقة الفقر المدقع التي تعيش فـي ظروف قاسية جدًا، حيث لا يتمكن الأفراد من توفـير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية مثل الغذاء، والماء، والمأوى، الرعاية الصحية، والتعليم، أما الطبقة الثانية فهي طبقة الفقر النسبي وهي تلك الفئة التي لديها دخل منخفض مقارنةً بمستوى المعيشة العام فـي المجتمع الذي تعيش فـيه، لكنها قادرة على تأمين الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية، أما الطبقة الأخيرة من الطبقات الدنيا فهي طبقة الفقر المالي أو ما يمكن تسميتهم بفقراء الدخل المتعثر وهذه الفئة تشمل الأفراد الذين لديهم دخل شهري، وربما يمتلكون أصولًا مثل سيارة أو منزل، لكن التزاماتهم المالية تفوق دخلهم، مما يجعلهم غير قادرين على تلبية متطلبات الحياة بسهولة وهذه الطبقة هي محور حديثنا اليوم وهي الطبقة الغالبة على المجتمعات خصوصا المجتمعات التي تنمو ببطء فـي محاولة منها لمغادرة إطار الدولة النامية.
قد لا تسعفني هذه المساحة للحديث عن الطبقتين المتبقيتين الطبقة الوسطى والطبقة الغنية والتي هي ليست محور حديثي هنا، لكنني أحببت أن أركز على الفئتين الأخيرتين من فئات الطبقة الدنيا طبقة الفقر النسبي وطبقة الفقر المالي اللتين لم يكونا ضمن تصنيف الطبقة الدنيا وإنما ضمن تصنيف الطبقة الوسطى لكن مع تبدل أحوال الحياة أصبح من لديه دخل منخفض ولا يقوى على دفع فواتيره الاستهلاكية المرتفعة يصنف ضمن دائرة الفقير الذي يستحق العون والمساعدة من الدولة ومن الجمعيات الخيرية وأهل البر والإحسان.
تدبرت فـي شؤون الفقر والفقراء فوجدت أن مفهوم فقير المدينة يختلف كثيرا عن مفهوم فقير القرية، ففقير المدينة يئن تحت وطأة المدنية الحديثة التي تطارده مغرياتها والتزاماتها ويطوقه صخب الحياة من كل جانب فكثيرا من الكماليات فـي المدنية تتحول إلى ضروريات قد لا يمكن الاستغناء عنها كما أسلفنا سابقا مثل السيارة ووسائل التسلية والمطاعم وغيرها من الكماليات التي استطاع فقير القرية الاستغناء أو الحد من استهلاكها، قد يكون بسبب عدم توافرها فـي القرية أو بسبب بعض القناعات الشخصية فـي فقير القرية الذي لا تستنزفه الرفاهيات ولا تغريه الكماليات.
لتقريب الصورة أكثر ولتبيان العلاقة بين مفهوم فقير القرية وفقير المدينة، فإنني أسترجع هنا ما تنشره الأمم المتحدة من تصنيفات للفقر فـي الدول المتقدمة والفقر فـي الدول الفقيرة النامية، ففـي الدول المتقدمة، يُعتبر الشخص فقيرًا عندما يقل دخله عن 60% من متوسط الدخل القومي للدولة فمثلا فـي الولايات المتحدة، يُحدد خط الفقر للفرد على أنه أقل من 35 دولارا أمريكيا يوميا، أما فـي الدول النامية، فـيُعتبر الشخص فقيرًا إذا كان دخله أقل 5 دولارات أمريكية يوميًا وفـي بعض البلدان الفقيرة جدا لا يتجاوز دخل الشخص اليومي أقل من دولارين يوميا. هذه الأرقام توضح بجلاء الفرق الشاسع بين واقع الفقر فـي الدول المتقدمة والدول النامية، وتسلط الضوء على الاختلافات الكبيرة فـي مستوى المعيشة بين فقير المدينة وفقير القرية.
فـي تقرير نشرته منظمة الإسكوا، تناول أوضاع الفقر فـي دول مجلس التعاون الخليجي خلال الفترة من 2010 إلى 2021، حيث خلص إلى وجود نحو 3.3 مليون فقير فـي دول المجلس. كما أشار التقرير إلى أن خط الفقر بالنسبة للأسر الخليجية يتراوح بين 980 و1300 دولار أمريكي شهريًا، وتختلف نسب الفقر فـي المجتمعات الخليجية ما بين 2% و13% من إجمالي السكان. ورغم أن هذه الأرقام قد تبدو مقبولة فـي بعض دول المجلس، إلا أنها تظل بحاجة إلى تحسينات جوهرية فـي دعم الطبقات الفقيرة. من بين الإجراءات التي يمكن أن تسهم فـي ذلك، إصدار إعفاءات إضافـية من رسوم دفع فواتير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والماء، وتوفـير المستلزمات الحياتية الضرورية لأبناء الأسر المعسرة، وزيادة المخصصات المالية المعتمدة للأسر الفقيرة.
عبدالله الشعيلي رئيس تحرير جريدة «عُمان أوبزيرفر»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی الدول الفقر فـی فقیر ا
إقرأ أيضاً:
الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: بر الوالدين يثمر سعادةً في الدنيا، وأجرًا عظيمًا في الآخرة
عقد الجامع الأزهر أمس الاثنين، اللقاء الأسبوعي للملتقى الفقهي (رؤية معاصرة) تحت عنوان: حقوق الوالدين "رؤية فقهية"، بحضور أ.د رمضان الصاوي، نائب رئيس جامعة الأزهر، وأ.د ربيع الغفير، أستاذ اللغويات المساعد بجامعة الأزهر، وأدار الحوار الشيخ إبراهيم حلس، مدير إدارة الشئون الدينية بالجامع الأزهر.
أكد فضيلة الدكتور رمضان الصاوي، على عظم منزلة الوالدين في الإسلام، موضحًا أن الله سبحانه وتعالى قرن عبادته بالإحسان إليهما في مواضع عدة من القرآن الكريم، وكأن الإحسان إليهما يعد مكملاً لعبادة الله سبحانه وتعالى، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" هذا الاقتران يبين أن طاعة الوالدين وبرهما ليست مجرد فضيلة أخلاقية، بل هي جزء لا يتجزأ من الإيمان وسبب رئيسي لنيل رضا الله تعالى ومحبته، فمن أحسن في عبادته لله، انعكس ذلك على سلوكه وأخلاقه، فكان من أولى ثمراته البر والإحسان لوالديه عرفانًا بفضلهما وتكريمًا لهما، نتيجة صنيعهم ورعايتهم أبنائهم في الصغر، وما نراه من سوء تصرف بعض الأبناء مع الآباء لا يمت للدين بصلة، وهو تجرأ على تعليمات الشرع الحنيف، وهو أمر منهي نهي شديد قال تعالى: "فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ"، ومن حسن البر للوالدين أن يبر الرجل أهل ود أبيه، وهو دليل على أن صنيع المعروف والمعاملة الحسن لأهل ود الآباء هو من البر للوالدين.
وأوضح نائب رئيس جامعة الأزهر أن مكانة الوالدين عظيمة في الإسلام، وأن الإحسان إليهما لم يترك لاجتهاد البشر أو تفضيلهم، بل جاء به أمر صريح ومباشر من الله سبحانه وتعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" هذه الآية الكريمة لا تؤكد فقط على وجوب الإحسان إليهما، بل تضع ضوابط دقيقة لهذا الإحسان، خاصة في مرحلة الكبر التي يكونان فيها أحوج ما يكونان إلى الرعاية واللين، فتنهى عن أبسط صور الضجر وهو قول "أفّ"، وعندما سئل نبينا صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل قال عبدالله بن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة لوقتها)، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قال: قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله)، وتقديم بر الوالدين على الجهاد دليل على المكانة العظيمة لهذا العمل، وعندما جاءَ رجلٌ إلى نبيِّ اللهِ فاستأذَنَهُ في الجهادِ فقالَ: أحيٌّ والداكَ ؟ قال: نعَم قال: ففيهِما فجاهِدْ، وهذا دليل نبوي على المكانة العظيمة للإحسان للوالدين وبرهما.
من جانبه أكد فضيلة الدكتور ربيع الغفير أن الفضل الحقيقي على الإنسان، بعد فضل الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، هو فضل الوالدين، ولعظم هذا الفضل ومنزلته، قرن الله تعالى عبادته بشكر الوالدين والإحسان إليهما، قال تعالى: ""َنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ" هذه الآية الكريمة توضح أن شكر الوالدين يأتي مباشرة بعد شكر الله، مما يؤكد على مكانتهما الرفيعة في الإسلام ووجوب البر بهما كجزء لا يتجزأ من عبادة الله سبحانه وتعالى، مشيرًا إلى أن تطاول بعض الأبناء على آبائهم يعد كارثة كبرى، كما أن استثقال بعض الأبناء لحاجات آبائهم يعد قصر نظر، لأنهم بذلك يغفلون عن حقيقة أن العقوق لا يجزى صاحبه إلا بالهم والشقاء في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة، وفي المقابل، فإن بر الوالدين لا يثمر إلا سعادة وطمأنينة في الدنيا، وأجرًا عظيمًا وثوابًا جزيلًا في الآخرة.
وحث الدكتور ربيع الغفير الشباب على ضرورة العناية بالوالدين، خاصة في مرحلة الكبر، وهذا ليس مجرد سلوك أخلاقي، بل هو أمر إلهي عظيم أوجبه الله سبحانه وتعالى على عباده، لأن الوالدان في هذا العمر يصبحان في أمس الحاجة للرعاية واللين، بعدما ضعفت قوتهما، قال تعالى: "وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا"، هذه الآية ليست مجرد وصية، بل هي منهج إلاهي للتعامل مع الوالدين في كبرهما، حيث تنهى عن أبسط صور الإساءة مثل كلمة "أفّ"، وتأمر باللين والقول الحسن، وتوجب على الأبناء التواضع لهما والرحمة بهما، والدعاء لهما جزاءً لما قدماه من تربية وعطاء في مرحلة الصغر.
كما قال فضيلة الشيخ إبراهيم حلس، إن بر الوالدين يعد من أعظم الأعمال وأحد أهم أسباب دخول الجنة، وعلى المسلمين اغتنام هذا العمل العظيم، لأن الإحسان إلى الوالدين ليس مجرد واجب ديني، بل هو طريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة، كما أن عقوق الوالدين يحجب الأعمال الصالحة ويمنع قبولها، لأفتًا إلى أن الدعاء إلى الوالدين بعد وفاتهما من سبل البر إليهما، لأن الدعاء لهما يرفع درجاتهما ويزيد حسناتهما.
يُذكر أن الملتقى "الفقهي يُعقد الاثنين من كل أسبوع في رحاب الجامع الأزهر الشريف، تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر وبتوجيهات من فضيلة الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف، ويهدف الملتقى الفقهي إلى مناقشة المسائل الفقهية المعاصرة التي تواجه المجتمعات الإسلامية، والعمل على إيجاد حلول لها وفقا للشريعة.