تحكى الأساطير أن العالم كله كان عبارة عن كتلة واحدة تسمى «بانجايا»، انقسمت الى جزأين بينهما بحر ثم توالت الانقسامات عبر العصور السحيقة.

تلك الظواهر لن تجدها سوى فى مصر أم الدنيا التى كما تسبح على تراث فرعونى عظيم فلديها تاريخ من الكنز الطبيعى يحكى قصة تطور الكوكب كله.

ولعل الكشف الجديد الذى أعلن عنه الأسبوع الماضى يحكى الكثير عن تطور التراث الطبيعى والمحيطات فى صحراء وادى الحيتان التى كانت قبل 40 مليون سنة هى و أكثر من نصف مصر الشمالي تحت المياه، و لم يكن البحر الأبيض المتوسط سوي جزء صغير من بحر عظيم "بحر التيثس"، أو أبو المحيطات وكانت أغلب دول الشمال الإفريقي حتى جنوب ما يُعرف اليوم بدلتا مصر بعد محافظتي بني سويف والفيوم، تشكل قاع ذلك البحر.

الفيوم كنز التراث الطبيعى مازال كبيراً العلماء المصريون يضعون خريطة استكشاف وطنية

من قاع الصحراء التى كانت بحراً ومحيطاً خرج الملك الفرعون الحوت (توتسيتس) الذى يبلغ طوله 2.5 متر ووزنه 187 كيلو.

وهو أصغر وأقدم أسلاف الحيتان وكان ملكا للبحار القديمة وقتها والذى تمت تسميته تيمنا بالملك المصرى توت عنخ آمون لأنه مات في عمر صغير مثل الملك الصغير. وقد تصدرت أخبار توتسيتس محركات البحث طوال الأيام الماضية وبلغ عدد متابعي أخباره 3 ملايين على تويتر فقط

الكشف الجديد قال عنه الدكتور شريف خاطر، رئيس جامعة المنصورة يحكى كيف كانت حياة أسلاف الحيتان مائية المعيشة التي جابت المياه المصرية قبل نحو 41 مليون سنة

وقد بدأت رحلة الاستكشاف في عام 2017 مع فريق سلام لاب ومركز الحفريات بجامعة المنصورة و أكاديمية البحث العلمي والجامعة الأمريكية.

د.هشام سلام رئيس الفريق البحثي ومؤسس مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية وأستاذ الحفريات بجامعة المنصورة والجامعة الأمريكية بالقاهرة، بأن الحوت الجديد توتسيتوس رياننسيس& Tutcetus rayanensis. من عائلة الباسيلوصورات Basilosauridae، وهي من الحيتان المنقرضة التي عاشت في جميع القارات بما في ذلك أنتاركتيكا

وتمثل أول مراحل المعيشة الكاملة للحيتان في الماء، بعد انتقال أسلافها من اليابسة إلي الماء. والتى تطورت لخصائص تشبه الأسماك، مثل تحول الطرف الأمامي إلى زعانف وإستطالة الفقرات ونمو زعنفة الذيل، إلا أنهم كانوا يمتلكون أطرافًا خلفية يمكن رؤيتها بما يكفي لتسميتها &أرجل&، والتي لم تكن تستخدم في المشي إطلاقًا لضآلة حجمها

ويضيف سلام أن الجزء الثاني من الإسم نسبة إلى متكون وادي الريان الجيولوجي بمنخفض الفيوم، الذى اكتشف فيه الحوت الذى يمتلك نمطاً فريداً من الأسنان مكنه من استكشاف بيئات بحرية مختلفة، وهو ما يعد بداية لدراسات علمية جديدة

الدكتور محمد سامح المؤلف الرئيس للدراسة وخبير إدارة التراث الطبيعي باليونسك وصف كيفية العثور على حفريات الحوت الجديد من جمجمة وفكين وأسنان والفقرة العنقية الأولى وأجزاء من العظم الواقع عند قاعدة اللسان في صخور عصر الإيوسين من متكون وادي الريان الجيولوجي بمنخفض الفيوم، مما يساعد في استكمال صورة تطور الحيتان الأولى في إفريقيا في هذا العمر.

الحوت بحسب سامح كان قادرًا على السباحة بكفاءة وربما الغوص لأعماق متفاوتة بما يشبه أحفاده من الدلافين اليوم، مما يقدم لنا فهمًا غير مسبوق لتاريخ الحياة والتطور والجغرافيا القديمة للحيتان الأولى.

وبتفصيل يوضح عبد الله جوهر، عضو الفريق العلمي &سلام لاب& ومؤلف أساسي في كتابة الورقة البحثية، إلى أنه تم تسمية النوع &رياننسيس&، على شرف متكون وادي الريان الصخري بمنخفض الفيوم، التي اُكتشفت حفرياته منها، ليكون الاسم كاملًا (توتسيتس رياننسيس).“Tutcetus rayanensis&

وأضاف جوهر أن الحوت الملك عاش وقتما كان قطاع كبير من الأراضي المصرية مغطى ببحر شاسع يعرف بـ &بحر تيثيس&، حيث عاشت حيوانات بحرية قديمة من بينها أسلاف الحيتان التي تعيش اليوم، وتبين من الدراسة التشريحية المفصلة لحفريات توتسيتس رياننسيس أنه يختلف تمامًا عن كل أقرانه من الحيتان المعروفة من قبل، إذ أنه يمتلك نمطًا فريدًا من الأسنان، مكّنه من اكتشاف موائل مختلفة.

رحلة علم ممتدة

هى رحلة علم ممتدة لكشف كنوز التراث الطبيعى فى منطقة لا يوجد مثلها فى العالم فى صحراء الفيوم حيث كان المحيط والبحر متجاوران كما يقول علماء التراث الطبيعى وحكاية التنقيب عن الحيتان بدأت فى مصر منذ عام 1902 على يد العالم بيدنل الذى أكتشف حفريات وادى الحيتان وما بين عامي 1983 و 2007 قام العديد من علماء الحفريات المصريين والآمريكيين بتسع رحلات استكشافية، حدد خلالها فريق العمل ما يزيد عن 400 موقع حفري

فى محمية وادى الحيتان والتى تعد مسرحاً علمياً عظيماً لتطور هذه الكائنات ما بين هياكل حيتان الباسيلوسورس و وحوت الدوريودون اثروكس وهو أقل حجما. ولكن أقدامه الصغيرة تظهر لنا التحول من الحياة على اليابس إلي البحار وهو تحول ناجح.وكذلك عرائس البحر وقد صنفت كأنواع جديدة للحيتان فى متحف التاريخ الطبيعى بلندن.

وفى عام 1989 اكتشف فريق العمل المكون من علماء حفريات مصريين وأمريكيين أول عينات مائية لهيكل حوت الباسيلوسورس الذى تم اكتشاف شبيه له في لويزيانا جنوب الولايات المتحدة وأعتقد أنها حفرية لزاحف لذلك أطلق عليها باسيلوصور(ملك السحالي). ولكن بعد ذلك وجد أنها حفرية لثدي بحري. من فصيلة الحيتان وحوت &الباسيلو سورس أيزيس& يصل طوله إلى 18 متراً وهو أضخم حوت متحجرموجود حالياً فى متحف وادى الحيتان و تعود أهميته إلى إعطاء الدليل القاطع على تطور الحيتان وانتقالها من كائنات أرضية تعيش على اليابسة إلى كائنات بحرية تعيش فى مياه البحار والمحيطات.

وفى عام 1996 تم اكتشاف أحفورة حوت آخر قديم يبلغ طوله 5 أمتار هو حوت (اتشيرنوس سيمونس). وفى عام 2006 تم إكتشاف أول حفرية من الثدييات البحرية وهى من أجداد الفيل وتعرف باسم (بيراثيوم) وفى عام 2007 تم تسمية الحوت الذى يبلغ طوله 10 أمتار باسم &ماسوا سيتسى ماركجريف&.

فريق مصرى

المدهش فى ذلك التطور أنه أصبح لدينا فريق مصرى علمى متكامل يستطيع الإستكشاف والتجميع والإعلان عن هذه التكوينات التى تشرح حقبة هامة من التغيرات التى حدثت فى الكوكب

وإكتشاف الحوت الملك (توتسيتس ) هى الدراسة الثانية من نوعها التي يقود فيها فريق مصري قام بوصف وتسمية جنس ونوع جديد من الحيتان، بعد أن ظل هذا العلم قاصرًا على علماء الدول المتقدمة لفترة طويلة من الزمن، رغم ثراء التراث الطبيعي المصري بحفريات مهمة لأسلاف الحيتان.وهى المدرسة التى تكونت منذ خمس سنوات تحت مسمى مركز المنصورة للحفريات الفقارية، وبعد ما كان هذا العلم حكر على الأمريكان والأوروبيين

فريق البحث نفسه له حدوته جميلة يقودها عاشق الحفريات الدكتور هشام سلام مديرالمركز المنصورة وهو معمل بسيط بالدور الثاني بكلية العلوم بالمنصورة الا أنه يشع طاقة عمل وأمل ونور. وبحث علمى فى مجال الحفريات حيث تكتظ جنباته بكميات كبيرة من عظام &الأحافير الحيوانية&، التي مر عليها ملايين السنين، ولوحة كبيرة للشكل التخيلي للديناصور &منصوراصورس& والحوت الملك (توتسيتس) والأكتشافات الأخرى لفريق يسعى إلى خلق تواصل بين المركز والمجتمع المحيط برحلات مدرسية وبحث علمى مستمر وإكتشاف لطلاب وطالبات فى مجال البحث العلمى.

قائمة شرف

قائمة شرف علينا أن نفخر بكل إسم فيها فهؤلاء سيكونوا هم رواد الكشف للتراث الطبيعى وكنوزه وهم

هشام محمد سلام مؤسس مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية

د/ محمد سامح عنتر المؤلف الرئيسى للبحث عضو مجلس إدارة مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية وخبير إدارة التراث الطبيعي باليونسكو

الباحث / عبد الله جوهر عضو الفريق البحثى

الباحثة / سناء السيد الباحث المشارك فى الكشف الجديد وأبحاث أخرى منها الديناصور منصوراسورس والتى اعتبرها أحدث كتاب علمى أمريكى بأنها واحدة من أهم عالمات الحفريات فى العالم

الباحثة شروق الاشقر

الباحث بلال سالم

الباحث محمد احمد

الباحث حسام السقا

الباحثة / سارة صابر المدرس المساعد بكلية العلوم قسم الجيولوجيا جامعة أسيوط،

أحمد مرسي عبد الستارالمصمم العلمي بالمركز.

المصدر: الأسبوع

كلمات دلالية: توتسيتس جامعة المنصورة وفى عام

إقرأ أيضاً:

في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (1 من 2)

يبدو أنه قانون من قوانين نجاح الثورات، وأحد العوامل المهمة التي تؤدي إلى هزيمة الطغاة المستبدين، أقصد إصابة هؤلاء في الأيام القليلة التي تسبق الإطاحة بهم، وإنهاء دورهم السياسي بغباء شديد، يتسبب في تخبط قراراتهم، ويؤدى إلى رفع سقف مطالب الثوار.

إن تحليل سلوك الملوك والسلاطين والأمراء والحكام، وردود أفعالهم مع بداية تمرد الشعوب وانفجار الثورات، يشير إلى سلوك وقرارات أقل ما توصف به أنها عشوائية، كما تشير إلى عدم تفهمهم لطبيعة الأحداث وتطورها، وعدم إدراكهم احتمال لجوء الثوار إلى العنف والمطالبة بعزلهم، والملاحظ أن الغرور والعناد يتحكم في سلوك معظم الطغاة حتى اللحظة الأخيرة.

تمرد الشعوب وانفجار الثورات

ينطبق هذا في تاريخنا القريب على سلوك حسنى مبارك بعد انفجار ثورة 25 يناير 2011، وعلى سلوك محمد مرسى العياط الذى تقلد حكم مصر بعد نجاح الجماعة الانتهازية في ركوب الثورة وجني مكاسبها.

بعد خمسة أيام من تنحي مبارك أعلن محمد مرسي المتحدث الرسمي باسم جماعة الإخوان نية الجماعة بتأسيس حزب سياسي، كما أعلن عبود الزمر أنه سيعمل على تكوين ائتلاف حزبي من الجماعات الإسلامية، وفى نفس الوقت أعلن، عمرو خالد الذي وصف بالداعية الشاب، أو داعية شباب الطبقة الوسطى الصغيرة عن نيته هو الآخر في تأسيس حزب، وكأنها عدوى أصابت كوادر التيار المتأسلم، فسرعان ما شهدت مصر مجموعة من الأحزاب ذات المرجعية الدينية (حزب الوسط، وحزب الحرية والعدالة، وحزب النور السلفي، وحزب مصر المستقبل، وحزب البناء والتنمية، وحزب الأصالة).

وفى مواجهة المجلس العسكري طالبت هذه الأحزاب بضرورة تسليم السلطة للمدنيين، وانضم إلى هؤلاء رغم الخلافات الأيديولوجية، العلمانيون والليبراليون وغيرهم.

وعادت المصطلحات التي هاجمت ثورة 23 يوليو إبان حكم جمال عبد الناصر إلي المشهد السياسي من جديد دون تعديل أو تبديل، فكل من يعارض الإخوان والجماعات التي خرجت من رحمها «كافر، علماني، ملحد، خارج عن دين الله، ومصيره جهنم وبئس القرار»، أما هم واتباعهم فهم «ظل الله في أرضه» وهم: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم المدافعون عن الشرع، المجاهدون في سبيل نصرة الدين».

وبالإضافة إلى سلاح الشائعات، استخدمت هذه الجماعات سلاح الإغراء بالمال لضم الفقراء وبعض شرائح الطبقة الوسطى الصغيرة، بل وبعض رموز النخب لصفوفها، وبالفعل وقع في شباكها البعض سواء أكان مدفوعا بدوافع انتهازية، طامعا أن يحظى بمكانة ومكان عندما توزع الجماعة التركة، أم كان مخدوعا بالخطاب المعسول الذى رددته كوادر الجماعة والمرشد والمتحدث الرسمي، وخيرت الشاطر وغيرهم، حيث توقع هذا الفريق أن الجماعة بعد الفرصة الذهبية التي لم تتوقعها لن تجتر تاريخها الدموي، وأنها ستعمل من أجل مستقبل أفضل لكل المصريين، وأنها ستسمح لكل القوى السياسية لتشاركها صناعة هذا المستقبل الجديد.

جماعة الإخوان

لم يكن قد انكشف حجم التآمر والتخطيط الخارجي ومباركة الولايات المتحدة الأمريكية ودوائر المخابرات الغربية لصعود جماعات الإسلام السياسي إلى الحكم، تكريسا لهزيمة التيار القومي بعد يونيو 1967، ورحيل زعيم القومية العربية جمال عبد الناصر، وتمهيدا لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ولم يكن أمام المجلس العسكري وعلى رأسه المشير محمد طنطاوي إلا التريث لفهم ما يحدث في مصر، ودراسة تقارير المخابرات المصرية حول الأيادي الخفية التي تعبث بمستقبل البلاد من ناحية، ومن ناحية أخرى التعامل بحذر مع جماعة الإخوان التي هددت بإحراق القاهرة وإشاعة الفوضى.

وبدا لمن لا يدرك حقيقة مواقف المجلس العسكري وطريقة إدارة المشير طنطاوي للأزمة، أنهم باركوا صعود الإخوان والجماعات الأخرى، وأنهم تراجعوا أمام قوة هؤلاء وتهديدهم لأمن مصر.

المشير طنطاوي وإدارته للأزمة

والحقيقة أن المجلس العسكري - كما سيتضح فيما بعد - كان منهمكا في دراسة الوضع الشائك الذى أعقب تنحي حسني مبارك وأنه كان متيقنا من أن الصدام بين الشعب وهذا التيار واقع لا محالة، لكنه فضل أن يؤجل الصدام، وأن يدخل في شهر عسل مزيف مع الجماعة وتيارات الإسلام السياسي الأخرى، التي تحفظ ذاكرتهم، وتحفظ أراشيف الدولة خططهم وأهدافهم وعلاقاتهم الخارجية، ومن هنا جاء الاعتراف الرسمي بجماعة الإخوان المحظورة، حيث تم استدعاء أعضاء مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، وسعد الكتاتني، للقاء اللواء عمر سليمان، مدير المخابرات العامة، كما تم الإفراج عن خيرت الشاطر، وحسن مالك، وعدد آخر من قيادات الجماعة وكذلك أعضاء جماعة الجهاد، وبعض السلفيين الذين كانوا يقضون فترة عقوبتهم.

ولقد تابعت وسائل الإعلام، وتابع كل رجال الفكر والسياسة ما يحدث باندهاش، لقد تم الإفراج عن 800 معتقل سياسي كان محكوما على بعضهم بالإعدام، وسمح لعدد آخر ممن صدرت ضدهم أحكام من قبل، بتقديم تظلمات، حيث أعيدت محاكمتهم وتمت تبرئتهم، وسرعان ما انضم هؤلاء إلى جماعاتهم مستفيدين من المناخ الجديد الذى يسمح لهم بالنشاط العلني.

كانت الأسماء معروفة للجميع وكانت الاتهامات التي صدرت ضدهم اتهامات جنائية وصل الحكم في بعضها إلى الإعدام، ومن هؤلاء: مصطفى حمزة (أحد كوادر الجماعة الإسلامية) وكان محكوما عليه بالإعدام بعد التأكد من مشاركته في محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995، ومحمد الظواهري (شقيق أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة) الذى صدر ضده أيضا حكم بالإعدام، نتيجة لتآمره وتخطيطه لقلب نظام الحكم، ومن هؤلاء أيضا: رفاعي طه (أحد كوادر الجماعة الإسلامية)، وأيضا كان محكوما عليه بالإعدام في القضية التي عرفت عام 1992 بقضية «العائدون من أفغانستان»، وكانت تهمته «التخطيط لقلب نظام الحكم».

مصطفى حمزة بعد الإفراج عنه

والمثير للتأمل وقتئذ أن المشير طنطاوي أصدر قرارات عفو رئاسية في العاشر من مارس 2011 بالعفو عن 60 مسجونا من الإسلاميين كان من بينهم عبود الزمر المحكوم عليه في قضية اغتيال السادات.

عبود الزمر

هكذا لجأ المجلس العسكري إلى سياسة التكيف والموائمة والمهادنة، بعد تفهمه للواقع وللظروف الاستثنائية التي كانت تمر بها مصر، خاصة أن الشارع السياسي كان يعانى من تخبط وعدم فهم ما يحدث، البعض استبشر خيرا وكان يحلم بعهد جديد يسمح بالتعدد السياسي والحرية واحترام حقوق الإنسان، وانخدع فريق آخر وتوقع أن تعي جماعات وتيارات الإسلام السياسي التغيرات التي وقعت على أرض الواقع وأن تتخلى عن سلوكها الدموي الذي عرفت به منذ نشأتها.

على كل حال شكل المجلس العسكري «لجنة تعديل الدستور» برئاسة المستشار طارق البشرى المعروف بانحيازه للتيار الإسلامي، وتم تعديل 11 مادة من مواد دستور 1971، وأجرى الاستفتاء يوم 19 مارس 2011 على ذلك.

وقد تنبه البعض من رموز النخبة المصرية إلى أن الإخوان «خانوا الثورة» وأنهم بدأوا يعملون لمصلحتهم، وإنهم تجاهلوا «الميدان» ويخططون للسيطرة على الحكم، وأنهم تناسوا الشعار الذي أطلقوه «مشاركة لا مغالبة»، وأنهم في سبيل ذلك يخدعون الشعب المصري، ويحاولون إقناع الغالبية العظمى التي تعمل بالسياسة (بالكذب)، بأن الاستقرار يرتبط برضاء الله، مرضاة الله مقابل مقاعد في جناته، أما من يعارض الجماعة ويقاطع الاستفتاء فسوف يتبوأ مقعده من النار.

الإخوان «خانوا الثورة»

ويكاد ينعقد إجماع المراقبين وشهود عيان هذه المرحلة المفصلية في تاريخ مصر، على أن مواقف الإخوان بعد الاستفتاء أدت إلى تفكيك التوافق الذى ساد الميدان، حيث دفعت الجماعة بكوادرها وأعضائها إلى الشوارع لتطالب بإجراء الانتخابات أولا، رغم ما في ذلك من مخالفة دستورية واضحة، وصفها البعض بأنها كانت بمثابة انقلاب تشريعي خطير.

على أي حال، أصدر المجلس العسكري، في السادس والعشرين من سبتمبر 2011 إعلانا دستوريا جديدا، اشتمل على تعديلات جوهرية لقانون الانتخاب وتم عمل الجمعية التأسيسية وشكل البرلمان جمعية تأسيسية جيدة، وهى الجمعية التي انعقدت يوم 18 يونيو 2011 برئاسة المستشار حسام الغرياني، وقدمت الدستور يوم 30 نوفمبر من نفس العام.

وكانت المحكمة الدستورية قد أصدرت قرارها يوم 14 يونيو بعدم دستورية مجلس الشعب.

وجرت مياه كثيرة في النهر، وبات الشارع السياسي يشعر بقوة الجماعة، كما أن الجماعة ازدادت قوتها وثقتها في خطواتها وتعرض الأقباط للتنمر والهجوم، وسقط منهم ضحايا، وعمت الفوضى في شوارع القاهرة، وسقط كل يوم عدد من الشباب على يد ما أطلق عليه في هذا الوقت «الطرف الثالث».

كانت مصر تغلي وتعيش في فوضى رهيبة، وبدأ الاقتصاد يتأثر، وبدأت مصطلحات الإخوان والفتاوى الغريبة تتصدر الإعلام ولم يكن ذلك يعبر ولا يعكس هوى كل المصريين الذين عرف عنهم تدينهم المعتدل.

وبدأت ظاهرة تهريب البنزين والسولار، وانهارت السياحة، وشعر الكل برجفات زلزال مدمر، يهدد الأمن والاستقرار، وفشل مجلس الشعب في مناقشة القضايا التي تهم الناس، وبالطبع لم يتمكن البرلمان من ممارسة الرقابة على أداء الحكومة، وزادت حدة الخلافات بين الجماعة ووزارة الجنزورى، لذلك خططوا لوزارة جديدة حتى يتمكنوا من الهيمنة عليها.

أزمة البنزين في عهد الإخوان

وخلال الشهور الواقعة بين 25 يناير 2011 وفبراير 2012 تكشفت للمصريين حقيقة هذه الجماعة، كل يوم كانوا يثبتون أنهم لم يتغيروا، وإنهم يمكرون من أجل الانفراد بحكم البلاد، اتضح ذلك بجلاء عندما قررت الجماعة المشاركة في الانتخابات الرئاسية ورشحت خيرت الشاطر، وتجاهلت عن عمد إعلانها يوم 30 ابريل 2011 عدم السماح لأي من أعضائها بالترشح، وتبخر في الهواء قرار مكتب الارشاد بفصل عبد المنعم أبو الفتوح عضو مكتب الإرشاد بعد إعلان ترشحه، وبمجرد فتح باب الترشح للرئاسة تم ترشيح خيرت الشاطر لينافس 23 مرشحا من تيارات سياسية مختلفة.

قامت لجنة الانتخابات باستبعاد عشرة من المرشحين، كان من بينهم اللواء عمر سليمان، بسبب عدم صحة عدد من التوقيعات المقدمة تأييدا له من محافظة أسيوط، كما استبعد حازم أبو إسماعيل الذى ثبت أن أمه تحمل الجنسية الأمريكية، وأيضا استبعد خيرت الشاطر بسبب عدم حصوله على «رد اعتبار» بعد تنفيذه أحكاما قضائية.

استبعاد عمر سليمان وأبو إسماعيل والشاطر

وعلى الفور قدمت الجماعة أوراق المرشح البديل عضو مكتب الإرشاد، محمد مرسى العياط، الذى اشتهر وقتئذ بـ «المرشح الاستبن»، وكانت النتيجة مفاجأة حيث نجح في الجولة الأولى الفريق أحمد شفيق آخر رئيس وزراء في حكومة مبارك، وعضو مكتب الإرشاد محمد مرسى.

كان الشارع السياسي المصري يعانى من اضطراب واضح وحالة من الضباب تسيطر على مستقبل الحياة السياسية، وراهن عدد كبير على مرشح الاخوان محمد مرسى نكاية في رجل مبارك الذى كان عند كثيرين يمثل «فلول مبارك»، إلا أنه على الطرف الآخر كان هناك من يرفض صعود الإخوان لحكم مصر.

وراح مرشح الإخوان يدغدغ مشاعر الشعب المصري ونجح في استقطاب من عرفوا وقتئذ بـ «عاصري الليمون» أي الذين سينتخبونه مضطرين، فالبديل هو عودة رجل مبارك.

أعلن مرسي «مشروع النهضة» حيث قدم من خلاله حلول جذرية لكل مشكلات مصر وأمراضها المزمنة، كمشاكل النظافة والمرور والوقود ورغيف الخبز والأمن.. .. إلخ.

مشروع النهضة - محمد مرسي

وبتاريخ 14 يونيو 2012 أعلنت المحكمة الدستورية العليا حل مجلس الشعب، وعاد التشريع للمجلس العسكري، وانتهت الانتخابات، إلا أنه قبل انتهاء عمليات الفرز بدأت الجماعة تستبق الأحداث وتعلن أن مرشحها محمد مرسى هو الفائز، وبدأ إرهاب المجلس العسكري وأعضاء اللجنة الانتخابية، حيث تسربت خطط إحراق مصر كلها في حالة إعلان فوز أحمد شفيق، ووفقا للتصريحات التي نشرت بعد رحيل الجماعة فإن المشير طنطاوي والمجلس العسكري وضعوا بين خيارين من أصعب ما يمكن، إما الإعلان عن فوز مرشح الإخوان محمد مرسى حتى لو لم يكن هو الفائز، وبين تعرض البلاد لفوضى لا يمكن معرفة النتائج التي ستترتب علها، وكانت مؤشرات خطة إحراق مصر قد بدأت بالفعل، حيث احتشد خمسمائة من مليشيات الإخوان بميدان التحرير وهم يحملون أكفانهم، ويرددون أن مرسى هو الرئيس، وأنه إذا لم تعلن النتيجة بفوزه سيقومون بنسف المتحف المصري، والجامعة الأمريكية، وجامعة الدول العربية، ومجمع التحرير والمجمع العلمي.

وتكشفت الحقائق بعد ذلك، كانت النتيجة الحقيقية في جولة الإعادة لصالح أحمد شفيق، بفارق 1% أي حوالى 30 ألف صوت لكن اللجنة أعلنت فوز محمد مرسى بنسبة 51.73% مقابل 50.72%.

أحمد شفيق - محمد مرسي

انفرجت أسارير الجماعة وازدادت ثقتها في قوتها، ها قد حانت اللحظة التاريخية التي لم تكن تحلم بها، وأصبحت تحكم مصر، وعلى الطرف الآخر، أصدر المجلس العسكري يوم 18 يونيو 2012 إعلانا دستوريا مكملا في محاولة لتقليص سلطات رئيس الجمهورية.

وتسلم الرئيس الإخوانى محمد مرسي العياط الحكم يوم 24 يونيو 2012، كان المشهد لا يزال مضطربا، احتفل عدد كبير من الإخوان وغيرهم بعدم فوز أحمد شفيق رجل مبارك، ولم يسترح عدد أكبر لفوز عضو مكتب الإرشاد.

وبدأت أحاديث الرئيس الإخواني وتصريحاته تستفز المصريين بعد أن نسب نفسه وجماعته للثورة، وبعدما أعلن أنه متحدث باسمها واسم الشباب، وأعلن أنه لن يحلف اليمين إلا أمام مجلس الشعب المنحل ثم تراجع، وحلف اليمين في ميدان التحرير أمام مؤيديه والإخوان في محاولة لتأكيد أن شرعيته مستمدة من الثورة والميدان، إلا أنه وتحت الضغط عاد واضطر لحلف اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، ولم يكن هذا التراجع هو التراجع الوحيد خلال السنة التي حكمها محمد مرسى، لقد ثبت أنه عديم الخبرة، وأن الحاكم الحقيقي هو مكتب الإرشاد.

ولم يتمكن مرسي من تحقيق مشروع النهضة الذى أعلن عنه، بل دفعت البلاد إلى فوضى رهيبة نتيجة للأخطاء التي ارتكبها، كان في مقدمة هذه الأخطاء، وبعد أسبوع واحد من تسلمه رئاسة مصر، قام بسحب القرار رقم 350 لعام 2012 الصادر عن المحكمة الدستورية العليا الذي قضى باعتبار مجلس الشعب منحلا، وأمر بعودة المجلس للانعقاد، لكنه سرعان ما تراجع عن قراره، وحاول أن يتخلص من النائب العام عبد المجيد محمود، ثم تراجع تحت ضغط نادى القضاة.

ونموذج آخر على إصداره قرارات متسرعة ثم رجوعه عنها، القرار الذى صدر يوم 30 أكتوبر 2012، بإغلاق المجال التجارية فى العاشرة مساء، ثم أعلن تأجيل تطبيق القرار، ثم أعيد التأكيد على أن قرار الإغلاق لا يزال ساريا.

وفى التاسع من ديسمبر أصدر قرارا بزيادة أسعار الخمر والمياه الغازية والغاز والكهرباء والسجائر، وغيرها من السلع، ولكنه سرعان ما تراجع عنه وأعيد للحكومة.

وفي الثاني من فبراير 2013، شهدت مدن القناة مظاهرات عنيفة بسبب صدور أحكام بالإعدام بشأن المتهمين في مجزرة بورسعيد الذي قتل فيها 72 شابا من أولتراس أهلاوي، عقب مباراة الأهلي والمصري، وأصدر مرسى قرارا بفرض حظر التجوال، لكن الأهالي سخروا من القرار ورفضوا تنفيذه، وأقاموا مباريات كرة القدم في الشوارع في أوقات الحظر تحديا له ولحكومته، فتراجع وخفض ساعات الحظر.

مظاهرات عنيفة بسبب أحكام الإعدام في مجزرة بور سعيد

هكذا كانت السمة الغالبة ومنذ بداية الحكم (إصدار قرارات غير مدروسة ثم التراجع عنها).

بدأت النخبة التي «عصرت الليمون على نفسها» وانتخبته، تراجع نفسها، وتكتشف قدراته، وضبابية رؤيته.

اقرأ أيضاً«المستشار طاهر الخولي»: رجال القضاء تقدموا الصفوف الأولى لإزاحة الإخوان في ثورة 30 يونيو

بندوة «عهد جديد لوطن يستحق».. إعلام الدقهلية يحيي غدًا الأربعاء ذكرى ثورة 30 يونيو بحضور مصطفى بكري

مقالات مشابهة

  • السيطرة على تسرب للغاز الطبيعى بالسيل الجديد بأسوان
  • تسرب للغاز الطبيعى بأسوان.. والمحافظ يتابع جهود السيطرة والإصلاح لخط الضغط العالى للغاز الطبيعى
  • النائب مصطفى بكرى يصل الغرفة التجارية بالدقهلية على هامش المشاركة فى احتفالية ذكرى ٣٠ يونيو
  • برج الحوت.. حظك اليوم الأربعاء 25 يونيو 2025: تسوية الخلافات القديمة
  • في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (2 من 2)
  • في ذكرى 30 يونيو.. كيف سطّر «الإخوان» نهايتهم في حكم مصر (1 من 2)
  • تفاصيل | مشاركة محافظة مطروح فى معرض الجيزة للتراث والحرف اليدوية
  • الرئيس عون استقبل الحوت: نقدر جهود جميع العاملين في شركة طيران الشرق الأوسط
  • برج الحوت .. حظك اليوم الثلاثاء 24 يونيو 2025: ابتعد عن التفاهات
  • برج الحوت .. حظك اليوم الإثنين 23 يونيو 2025: عشاء رومانسي