كنت أتحدث مع صديق يمني مغترب في لندن، حديث طويل امتد بين الذكريات والواقع. قال لي وهو يحدق في نقطة بعيدة، وكأنه يرى اليمن من هناك: “أشتاق لليمن يا جرادي… لا يمر يوم إلا وأتذكر تفاصيلها.”
ابتسمت وقلت: “وأنا كذلك، لا يوجد مغترب يمني لا يحمله هذا الحنين. ليس ضعفًا، بل هو شيء من فطرتنا… نحن أبناء الجبال والوديان، أبناء الشمس والتراب، نولد ومعنا اليمن في القلب والذاكرة.
اليمن تسكننا، نعم، لكننا نعيش اليوم واقعًا مختلفًا، فهل نبقى عالقين في الحنين، أم نستثمر في اللحظة؟ ماذا نفعل بما تبقى لدينا من وقت وطاقة وأبناء؟
قلت له: “دعني أروي لك قصة، ليست من الخيال، بل من لحمنا ودمنا، قصة تحمل الجواب بصدق ووضوح. إنها قصة الدكتور عبد القادر الجنيد، طبيب أطفال يمني معروف من تعز. عاش حياة مستقرة، بنى بيتًا في صبر وآخر في قلب المدينة، ظن أنه استثمر في المكان الصحيح، وأنه خط لنفسه مستقبلًا آمنًا كما يحلم به أي يمني، لكن الحرب جاءت دون إنذار، فاختطفته، وسجنته، وأخذت منه كل شيء: المال، الأمان، وحتى من ظن أنهم سند له، خذلوه، كما كتب بنفسه.”
في لحظة من الانهيار، تذكر الطبيب الماهر استثمارًا واحدًا لم يكن يراه كبيرًا حينها، لكنه كان الخيط الوحيد الذي أعاده إلى الحياة؛ تذكر أنه علم ابنته. لم تكن تملك سلاحًا، ولا بيتًا، ولا جاهًا، لكنها كانت تملك شيئًا لا يُشترى: المعرفة.
ابنته، التي تعيش في كندا، وأصبحت عضوة في البرلمان وذات مكانة سياسية مرموقة في المجتمع الكندي، لم تنس، ولم تتخل، بل كانت الوطن الذي لم يخنه؛ رتبت له أوراقه، جمعت شمله، وأعادته إلى حياة كريمة بعد أن ضاقت به الأرض التي استثمر فيها جل حياته.
في كندا! كانت شهادة ابنته هي جواز عبوره من العجز إلى الكرامة.
تأمل المفارقة؛ بيوت تُهدم، مدن تسقط، واستثمار صغير في تعليم فتاة واحدة ينقذ حياة أسرة بأكملها. لم تنقذه القبيلة، ولا المنازل التي بناها، بل قرار قديم زرع فيه بذرةً، ونبتت يوم جفَّ كل شيء آخر.
نحن نعيش في زمن صار فيه العقل هو الوطن الحقيقي، والتعليم هو الحصن الأخير؛ ابنك قد يكون الانتماء حين تتشظى الأرض، وابنتك قد تكون الجسر الذي تعبر عليه إلى ضفة أكثر أمانًا.
قلت لصديقي: “لم تنفع الدكتور الجنيد بيوته في تعز، بل أنقذته شهادة ابنته في كندا، فاستثمر فيما يبقى، لا فيما قد يُهدم بقرار جاهلٍ قفز على ظهر الدولة.”
نحن من اليمن، وسنعود إليها يومًا ما، لكن العودة الحقيقية لا تبدأ حين نطأ أرضها، بل حين نمنح أبناءنا ما يجعلهم يستحقونها. في كل لحظة نعلم فيها طفلًا، نبني وطنًا متنقلًا في عقله، وطنًا لا تدمره الحروب، لا ينهبه الفاسدون، ولا تغتاله الميليشيات ليلًا؛ لأن طائفةً من الناس قررت أن لها الحق وحدها في الحكم.
اكسب نفسك، وعلم أبناءك، ابنِ لهم بيتًا في وعيهم، لا في طينٍ هش، ازرع جذورهم في قيمٍ تصمد حين ينهار كل شيء؛ سيأتي يوم يصبحون فيه وطنك.
اليمن في القلب، نعم، لكنها لن تُستعاد بالحنين وحده، بل بأبنائها الذين نحسن إعدادهم. كل شهادة يحملها ابنك هي حجر في جدار اليمن القادم، كل فكرة يتعلمها، كل كتاب يقرأه، كل لغة يتقنها، هي فعل مقاومة في وجه الانهيار، ولبنة في بناء وطنٍ لا يهتز أمام العواصف.
كندا لم تمنح الدكتور عبد القادر الجنيد وطنًا بالمجان، بل منحته فرصةً جديدة لأنه استثمر في الشيء الوحيد الذي لا تهدمه الحرب: التعليم.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةطيب ايها المتصهين العفن اتحداك كمواطن يمني ان تقول لسيدك ترا...
رعى الله أيام الرواتب حين كانت تصرف من الشركة. أما اليوم فهي...
اتحداك تجيب لنا قصيدة واحدة فقط له ياعبده عريف.... هيا نفذ...
هل يوجد قيادة محترمة قوية مؤهلة للقيام بمهمة استعادة الدولة...
ضرب مبرح او لا اسمه عنف و في اوقات تقولون يعني الاضراب سئمنا...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: فی الیمن
إقرأ أيضاً:
قصة يمني مع النزوح والجوع.. انتظار مؤلم لمساعدات غابت عامين
صنعاء- لم يتمالك يوسف محمد نفسه من الفرح حين قرأ في صحيفة محلية خبرا يتحدث عن قرب استئناف منظمات الأمم المتحدة تقديم المساعدات الإنسانية للنازحين والفقراء في اليمن. بدا له الخبر وكأنه بشارة خير تعيد الأمل إلى قلبه وقلب ملايين اليمنيين الذين أرهقتهم الحرب والنزوح والجوع.
ويقول يوسف للجزيرة نت، وهو يجلس أمام منزله المؤقت في صنعاء، "لو صح هذا الخبر، فسيكون العام الحالي عام الإغاثة الحقيقي، فالناس أنهكهم الجوع، وانقطعت عنهم المساعدات منذ عامين تقريبا".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2رحلة كيس الطحين.. أب يعود منتصرا من جبهة الجوعlist 2 of 2قافلة مساعدات إنسانية جديدة تدخل محافظة السويداء السوريةend of listوتزايد الأمل مع انعقاد لقاء موسع في صنعاء الأربعاء، 30 يوليو/تموز الماضي، نظمته وزارة الخارجية التابعة لجماعة أنصار الله اليمنية، بمشاركة الممثل المقيم للأمم المتحدة جوليان هارنيس، وعدد من كبار المسؤولين وممثلي منظمات دولية ومحلية.
وناقش الاجتماع تداعيات الانخفاض الحاد في التمويلات المالية المقدمة من المانحين الدوليين، وتوقف كثير من مشاريع الإغاثة الحيوية، بما في ذلك برامج الغذاء والمأوى والصحة.
يوسف، البالغ من العمر (47 عاما)، يستعيد للجزيرة نت تفاصيل رحلته مع النزوح قائلا "لم أتوقع يوما أن أترك منزلي 10 سنوات متواصلة. خرجت من تعز في 2015 مع بداية الحرب، بعدما أصيبت ابنتي بشظية في ظهرها ونقلتها إلى صنعاء للعلاج. بعد الجراحة أغلقت الطريق الرئيسية في الحوبان، ولم أستطع العودة إلى بيتي وحارتي التي تحولت لساحة قصف متبادل".
خلال السنوات الأولى، عاش يوسف مع أسرته بين المخيمات والمساكن المؤقتة، متنقلا بين المدارس والمساجد التي خصصت لاستقبال النازحين.
ويقول إن الفرج جاء حين بدأت منظمات الإغاثة بتقديم مساعدات غذائية ومستلزمات إيواء، "كانت تصلنا السلة الغذائية شهريا: دقيق وأرز وزيت وسكر، إضافة إلى خيم وبطانيات، أنقذت حياتنا وحياة آلاف الأسر".
إعلانلكن هذه الرحلة لم تكن سهلة، إذ عاش النازحون سنوات وصفها يوسف بـ"العجاف"، تحت القصف الجوي والخوف المستمر وارتفاع الأسعار، بينما توقفت رواتبهم وفقدوا مصادر رزقهم.
ومع ذلك، ساهمت التدخلات الإنسانية، وفقا ليوسف، في تخفيف وقع الكارثة حتى توقف الدعم قبل عامين، ليجد يوسف نفسه مضطرا للعمل في أي مهنة مؤقتة لتوفير لقمة العيش لأسرته؟ ويضيف "أكثر ما يؤلمني هم النازحون الذين لا يملكون أي دخل، هؤلاء حياتهم معلقة على عودة المساعدات".
يقول رئيس منظمة "منى للإغاثة والتنمية" فاتك الرديني، للجزيرة نت، إن توقف التمويل الدولي ترك أثرا بالغا على حياة ملايين اليمنيين، فالكثير من الأسر كانت تعتمد بشكل كامل على برامج المساعدات الإنسانية.
ويقول "كنا نعمل مع برنامج الغذاء العالمي وأوكسفام واليونيسيف والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين. هذه البرامج توقفت أو تقلصت، ومعها توقفت مشاريع الاستجابة السريعة التي كانت تنقذ النازحين عند حدوث سيول أو حرائق في المخيمات، وتؤمن لهم مياه الشرب والمأوى المؤقت".
ويرى الرديني أن الحرب المستمرة والقصف الأميركي والإسرائيلي على موانئ الحديدة ومطار صنعاء فاقم الأزمة، إذ أعاق وصول المساعدات ورفع كلفة النقل والإمداد، مما انعكس مباشرة على حياة النازحين والفقراء.
ويضيف أن منظمته، التي تعمل منذ 2015 في قطاعات الأمن الغذائي والصحة والمياه والصحة البيئية والحماية والإيواء، أصبحت تواجه صعوبة كبيرة في تأمين التبرعات من الخارج، مما قلص بشكل حاد قدرة الفرق الميدانية على تغطية الاحتياجات الأساسية.
يزداد المشهد الإنساني في اليمن اليوم قتامة، فبعد 10 سنوات من الحرب والنزوح، ارتفعت معدلات الفقر والجوع إلى مستويات غير مسبوقة.
ويوضح الرديني أن كثيرا من الأسر باتت بلا مصدر دخل، ويعيش أفرادها على وجبة واحدة أو أقل يوميا، في حين يعتمد آخرون على مساعدات متقطعة من أقارب في الداخل أو الخارج.
وتؤكد تقارير أممية هذا الواقع المأساوي، فقد وضع تقرير الأزمات الغذائية لعام 2025 اليمن ضمن قائمة أسوأ 4 دول عالميا تواجه أزمة غذاء حادة، إلى جانب السودان ومالي وقطاع غزة، محذرا من مستويات جوع كارثية تهدد حياة ملايين اليمنيين.
وأشار التقرير إلى أن نحو 48% من سكان اليمن، البالغ عددهم أكثر من 35 مليون نسمة، عانوا انعداما حادا في الأمن الغذائي بين أواخر 2024 ومطلع 2025.
وبيّن أن هذه الأزمة تفاقمت نتيجة استمرار الحرب وتدهور الاقتصاد وارتفاع أسعار الغذاء، إلى جانب الظواهر المناخية القاسية، مثل موجات الحر الشديدة والسيول الموسمية التي دمرت مساكن النازحين وأغرقت مخيمات كاملة وألحقت أضرارا بالقطاع الزراعي.
ويحذر التقرير من أن استمرار توقف المساعدات سيقود إلى كارثة إنسانية واسعة، قد تتجاوز آثارها الحدود اليمنية، في ظل اعتماد ملايين الأسر على المعونات الخارجية كوسيلة وحيدة للبقاء.
إعلانويترقب اليمنيون بفارغ الصبر أي تحرك دولي حقيقي يعيد شريان الحياة إلى مخيمات النزوح والمناطق الفقيرة. لكن المراقبين يحذرون من أن استمرار غياب التمويل أو تأخره قد يدفع اليمن إلى مرحلة جديدة من الانهيار الإنساني يصعب احتواؤها لاحقا.