سوريا.. هل كل مثقف أو رجل أعمال يصلح كرجل دولة؟
تاريخ النشر: 20th, April 2025 GMT
بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، كان صعود الرئيس رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة خطوة محورية لإعادة بناء الدولة اللبنانية، مستفيدًا من شبكة علاقاته الدولية، لا سيما مع السعودية وفرنسا. إذ لم يتمكن رئيسا الحكومة السابقان، عمر كرامي ورشيد الصلح من تجاوز هذه التحديات الصعبة، فكان لا بد من شخصية ذات ثقل اقتصادي ودولي.
وقد لعب الحريري دورًا مهمًا في إعادة إعمار لبنان، إلا أن هذا الإعمار دمر لاحقًا على يد الأسد وحزب الله.
وفي أوروبا الشرقية، برز الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل، أحد رموز "ربيع براغ" عام 1968، كوجه سياسي انتقالي بعد انهيار النظام الشيوعي، فتولّى رئاسة تشيكوسلوفاكيا بين عامي 1989 و1992، ثم أصبح أوّل رئيس لجمهورية التشيك بعد الانفصال من عام 1993 حتى 2003.
هل كل مثقف أو رجل أعمال يصلح أن يكون رجل دولة؟
أثناء الثورة السورية، راود كثيرًا من السوريين حلمٌ مشابه، فطُرحت أسماء ذات خلفيات اقتصادية وثقافية كمرشحين لقيادة الثورة السورية.
ومع تحرير سوريا وسقوط النظام البائد عسكريًا، عادت هذه الأطروحات إلى الساحة لبعض المواقع الهامة، في ظل الحاجة إلى إدارة المرحلة القادمة بوجوه معروفة، حققت نجاحات في مجالاتها التخصصية.
لكن السؤال الجوهري الذي يطرح هنا: هل يمكن لأي مثقف أو رجل أعمال أن يصبح رجل دولة، خصوصًا في المرحلة الانتقالية؟
إعلانمن الطبيعي أن تتجه الأنظار إلى شخصيات عامة ناجحة في مجالات الاقتصاد أو الثقافة أو الفكر، لكن تولي المناصب السياسية أو التنفيذية يجب أن يخضع لمعايير دقيقة تُراعي طبيعة المنصب وظروف المرحلة، خاصة بعد عقود من الاستبداد والخراب المؤسسي وتدمير البلاد.
فمعايير اختيار رئيس حكومة تختلف عن تلك المطلوبة لوزير أو محافظ أو عضو في البرلمان أو حتى دبلوماسي، بل إن معايير اختيار رئيس حكومة في مرحلة انتقالية تختلف عن تلك المطلوبة في مرحلة ما بعد الاستقرار وقيام نظام سياسي تعددي.
الشرع.. قائد المرحلة بعيون السوريينبعد انعقاد "مؤتمر النصر والحوار الوطني" وإعلان الحكومة الانتقالية، أجمع غالبية السوريين على اختيار الرئيس أحمد الشرع، الذي قاد عملية التحرير بنجاح فاق التوقعات.
يُفترض أن يترافق هذا الإجماع مع انفتاح القيادة الجديدة على الكفاءات الوطنية الموثوقة التي ساندت الشعب في محنته، لتسهم بخبراتها في بناء الدولة الجديدة معًا.
يتفق كثير من السوريين على أن الرئيس الشرع، القادم من خلفية عسكرية، قادر على فرض احترامه على الفصائل المسلحة، وبدء عملية بناء جيش وطني محترف، وجهاز أمني يعمل بكفاءة دون قمع أو تعسّف، شرط أن تُطبق معايير مناسبة لعمليات البناء والدمج ضمن مدد زمنية محددة.
أما طرح شخصيات من خارج المجال العسكري والأمني، لم تشارك في المعارك خلال الثورة، فإنها لن تستطيع فرض برامجها على الفصائل، بل ربما تُدخل سوريا في صراعات داخلية كالتي شهدتها دول أخرى في المنطقة، وتعد المنهجية الواقعية التي ينتهجها الرئيس الشرع أحد أسباب القبول الذي يحظى به من القيادات العسكرية؛ بسبب نجاحه العسكري، وبوادر ترحيب دبلوماسي عربي ودولي.
لكن الامتحان الأصعب الذي ينتظر الشرع هو في الانتقال من قيادة المعركة إلى قيادة الدولة، وبناء نموذج حديث يحترم الهوية الوطنية الجامعة بدعم من فريق عمل استشاري وتنفيذي محترف ومتنوع قادر على تقديم النصح والمشورة بجرأة وصدق.
إعلان شركاء في بناء الوطنفي المقابل، يبقى للمثقفين ورجال الأعمال والصناعيين والسياسيين دور محوري في نهضة سوريا الجديدة، عبر تقديم رؤاهم وخبراتهم ومشاركتهم الفاعلة في المشروع الوطني.
ومن المهم أن تتمتع القيادة بالقدرة على الإصغاء لهذه النخب، وأن تحتضن أفكارهم وانتقاداتهم، بما يعزز الحريات ويثري الحوار الوطني.
المرحلة المقبلة هي مرحلة بناء، تتطلب تجاوز الأيديولوجيات الضيقة والنماذج السياسية التقليدية التي أنهكت العالم والمنطقة، وهي بحاجة إلى استقطاب الكفاءات الوطنية أينما وُجدت، لبناء دولة حديثة، مدنية، ذات طابع حضاري وطني، تحتضن جميع مكوناتها بعيدًا عن المزايدات، أو المخاوف التي زرعها النظام البائد وأعداء الوطن.
هذا لا يعني التغاضي عن الجرائم والانتهاكات، بل يَشترط التزامًا واضحًا بتحقيق العدالة الانتقالية والمحاسبة وفق القانون.
إنّ سوريا المستقبل التي ننشدها، لن تُبنى إلا بسواعد جميع أبنائها، دون إقصاء أو تهميش، وعلى أسس صلبة من العدالة، والمواطنة، والكفاءة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
جذور ومؤشرات.. دراسة تتناول الأبعاد النفسية والاجتماعية للعنف في سوريا
شهدت سوريا في السنوات الأخيرة تصاعدا ملموسا في حوادث العنف الأهلي، وسط حالة من الانقسام الاجتماعي والسياسي يتداخل فيها البعد الطائفي مع العوامل الاقتصادية والثقافية والسياسية.
وفي هذا السياق، أصدر مركز عمران للدراسات الإستراتيجية دراسة تحليلية موسعة بعنوان "مؤشرات العنف الأهلي في سوريا.. مقاربة نفسية اجتماعية لبنية الصراع المحلي"، للباحثة حلا حاج علي، إذ سلطت الضوء على جذور العنف الأهلي وتداعياته، واستعرضت الآليات الكفيلة بتعزيز السلم الأهلي وإعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2قارة غنية مستغلة.. أفريقيا بين فرص الشراكة وتحديات المكانةlist 2 of 2محلل أميركي يتنبأ: تورط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران سيحطم إرث ترامبend of listواستعرضت الدراسة عددا من تجارب الدول بعد النزاعات، وحاولت أخذ الدروس الممكنة في بناء السلم الأهلي.
ومن أبرز التجارب التي عرضت لها الدراسة، تجربتي ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. كما استعرضت الدراسة خروج دول من النزاع وتحقيق السلام بمعنى إنهاء الحرب الأهلية فقط دون تأصيل للتعايش الحقيقي، مثل ما حدث في لبنان بعد اتفاق الطائف، وكذلك في تونس وليبيا واليمن.
مع مقاربة ما سبق بالحالة السورية، تبدو هذه الأخيرة أكثر تعقيدا، بفعل تداخل العنف السياسي مع البنية المجتمعية وتاريخ طويل من القمع والتهميش، إذ راكمت سنوات الصراع في سوريا أنماطا متنوعة من الكراهية وعدم الثقة، أضيفت إلى إرث الحقد الناتج عن سياسات الاستبداد والظلم ما قبل الثورة.
ما يُميّز الدراسة هو تبنيها مقاربة نفسية اجتماعية لا تكتفي برصد الأرقام، بل تغوص في تحليل روافد الصراع والهويات القلقة، وتسلط الضوء على أدوار الجهات الأمنية والمؤسسات المحلية وآليات العدالة الانتقالية والمجتمع المدني في التصدي لهذه الظاهرة.
كما تقدم قراءة معمقة للخطابات المغذية للعنف وتوزع الحوادث على المستويات الجغرافية والاجتماعية، مع اقتراح حزمة سياسات إصلاحية.
إعلان تحليل بنية العنف.. الهويات الخائفة وسرديات المظلوميةواعتمدت الدراسة على توثيق 50 حادثة عنف أهلي خلال فترة زمنية محددة، شملت نماذج مختلفة من العنف "التقليدي" المباشر (كالصدامات المسلحة والاشتباكات المحلية)، والعنف "غير المباشر" أو الرقمي، الذي يتم عبر منصات التواصل الاجتماعي والخطابات التحريضية.
وتراوحت دوافع هذه الحوادث بين الطائفية والمناطقية والإثنية والعشائرية والسياسية، إلا أن الدافع الطائفي تصدر المشهد بنسبة 56% من مجموع الحالات المرصودة، في مؤشر خطِر على هشاشة النسيج الاجتماعي.
كما تركزت هذه الحوادث في مناطق ذات تركيبة سكانية متداخلة، يغلب عليها سجل من التعددية وصراعات الولاءات، ما يعكس وجود واقع اجتماعي هش قابل للاشتعال مع كل أزمة أو شرارة.
تذهب الدراسة إلى أن تصاعد مشاعر القلق والخوف ضمن مجموعات سكانية معينة يدفع الأفراد إلى البحث عن الحماية في الهويات الفرعية الضيقة (دينية، طائفية، أو قبلية)، ما يؤدي إلى تكريس الاستقطاب وإضعاف أشكال المواطنة الجامعة. كما خلصت الدراسة إلى أن الفضاء الرقمي تحوّل إلى ساحة صراع موازية، يجرى فيها تبادل الاتهامات والتحريض وترويج روايات المظلومية من كافة الأطراف.
ومن الملاحظ -بحسب الدراسة- غياب ثنائية واضحة بين "ضحية" و"جلاد"، حيث يمتلك كل طرف خطابا متماسكا عن مظلوميته وطموحاته، مع انتشار ظاهرة العدالة الانتقائية واستغلال رواية "الحق" لإقصاء الخصوم وتبرير العنف. كما تؤكد الدراسة، أن هذه الانقسامات الهوياتية تُنتج واقعا اجتماعيا متصدعا يصعب تجاوزه دون مشروع وطني جامع.
العوامل المغذية للعنفتحدّد الدراسة جملة من العوامل التي تُسهم في إذكاء مظاهر العنف الأهلي في سوريا، من أهمها:
ضعف دور الدولة المركزية: وغياب سلطة القانون وانتشار السلاح بين المدنيين بما يسمح باندلاع المواجهات بسهولة. تراجع الثقة في المؤسسات الأمنية: بفعل ممارسات سابقة ارتبطت بالقمع أو المحاباة أو الفساد، ما يجعل المواطن ينظر إلى الأجهزة الأمنية كجهة غير محايدة. تضارب مصالح القوى المحلية: إذ تلعب الولاءات الضيقة (طائفية، عشائرية، حزبية) دورا رئيسيا في تحريك النزاعات. العامل الاقتصادي: الأزمات المعيشية وغياب العدالة في توزيع الموارد تؤدي إلى توتر العلاقات الاجتماعية وتصاعد النزاعات على الموارد المحدودة. انتشار الخطابات التحريضية: خصوصا على وسائل التواصل الاجتماعي مع غياب الضوابط اللازمة، ما يحوّل الفضاء الرقمي إلى خزان للكراهية والاستقطاب. توصيات عملية لتعزيز السلم الأهليفي ضوء ما سبق، قدمت الدراسة حزمة شاملة من التوصيات العملية للجهات الحكومية والمجتمع المدني وصناع القرار، من أبرزها:
تفكيك العنف الرمزي وإعادة بناء الذاكرة الجمعيةأكدت الدراسة ضرورة مراجعة الخطابات الرسمية وغير الرسمية التي تحمل مضامين إقصائية أو تبث الكراهية، وإشراك المختصين التربويين والنفسيين في مراجعة المناهج المدرسية وتعزيز قيم التسامح والسلم المجتمعي. كما أوصت بدعم المبادرات الفنية والثقافية التي تعيد صياغة روايات الحرب بصورة إنسانية جامعة. إصلاح المؤسسة الأمنية وبناء ثقة المواطن
دعت الدراسة إلى إعادة هيكلة العقيدة الأمنية، بحيث تتحول من "فرض الأمن" إلى "حماية المواطن"، وتفعيل دور الرقابة المجتمعية والتدريب المشترك بين الأمنيين والمدنيين لتعزيز ثقافة الشراكة. هندسة هوية وطنية جامعة
شددت على أهمية إطلاق حوارات وطنية شاملة، تراعي حساسيات الماضي واحتياجات جميع المكونات، بهدف صياغة ميثاق وطني جديد تضمن فيه العدالة في التمثيل وعدم الإقصاء. توسيع صلاحيات الإدارة المحلية وتعزيز اللامركزية
طالبت بإعطاء مجالس الإدارة المحلية صلاحيات أوسع باستخدام أدوات رقمية لتعزيز الشفافية والرقابة الشعبية على الخدمات والموارد. تفعيل عدالة انتقالية شاملة
أوصت الدراسة بإعطاء الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية دورا أكبر في جبر الضرر ومعالجة ملفات الضحايا والمغيبين، جنبا إلى جنب مع إطلاق برامج اقتصادية تكافح آثار التهميش والإقصاء. دعم وتمكين المجتمع المدني
أكدت أهمية توفير التمويل والإمكانات لمنظمات المجتمع المدني المستقلة، وإشراك الجاليات السورية في الخارج في جهود المصالحة وبناء المشاريع التنموية. تطوير الفضاء الرقمي للحوار
حثت على دعم المنصات الرقمية المستقلة والمنتديات الحوارية، وسن تشريعات صارمة تجرم التحريض وخطاب الكراهية الرقمي، مع بناء شراكات مع شركات التكنولوجيا. إعلان خاتمة
تختتم الدراسة بالتأكيد على أن الطريق إلى السلم الأهلي في سوريا ليس دربا قصيرا، بل يتطلب شجاعة سياسية وإرادة جماعية ومشروعا وطنيا جامعا يعيد الاعتبار لفكرة المواطنة ويلتزم بحقوق الإنسان والمساواة. وترى الدراسة أن التصدي لجذور العنف وتحقيق الاستقرار لن يتم من بإجراءات أمنية أو سياسية منعزلة، بل بمعالجة شاملة للانقسامات وإعادة بناء الثقة والذاكرة الجمعية.
وبذلك تضع الدراسة أمام صناع القرار والمجتمع السوري خارطة طريق عملية للتعافي المجتمعي، محذرة من أن تجاهل هذه التوصيات سيعني استمرار العنف الأهلي، وترسيخ الانقسامات، وعرقلة أيّ فرص حقيقية لإعادة بناء سوريا على أسس مستدامة من العدالة والسلام.
إن غياب الحرب لا يعني بالضرورة حضور السلام، طالما أن الخوف من الآخر وما ينتجه من تباعد بين الهويات الفرعية عن الهوية الوطنية حاضرا على الساحة السورية، وعليه فإنه لا يمكن الخروج من حالة التمزق المجتمعي نحو أفق التعايش المشترك بحلول أمنية أو سياسية ضيقة ومؤقتة، بل يتطلب مشروعا إستراتيجيا طويل الأمد يعيد بناء الدولة من القاعدة، أي من الإنسان، ويعيد صياغة العقد الاجتماعي والرمزي لدى السوريين.