منال الشرقاوي تكتب: التتر السينمائي.. حكاية ما قبل البداية وما بعد النهاية
تاريخ النشر: 12th, August 2025 GMT
دعني أسألك سؤالًا بسيطًا: متى كانت آخر مرة شاهدت فيها تتر فيلم دون أن تضغط زر "تخطٍ"؟ هل تتذكر شكل الخط؟ اسم المصور؟ أو حتى صوت الموسيقى التي تنساب مع ظهور الأسماء واحدًا تلو الآخر؟ الأغلب – وأقولها بلا لوم – لا يفعل.
التتر صار شيئًا يشبه التحية الواجبة التي نقفز فوقها، كما نقفز فوق مقدمة كتاب مليئة بالإهداءات أو تنويهات الناشر.
لكنني أصدقك القول: التتر ليس مجرد قائمة أسماء.
إنه لحظة تأمل، جسر زجاجي بين الواقع والفيلم، بداية صامتة – أو صاخبة – تقول لك: "اجلس. سنبدأ رحلة صغيرة. تفضل واهدأ." وربما، فقط ربما، يكون التتر هو أجمل ما في الفيلم كله.
في زمن صارت فيه المتعة تُختصر، والقصص تُقضم بسرعة الوجبات السريعة، يظل التتر وفياً لطبيعته المتأنية.
هنا، لن نكتفي بالنظر إلى التتر من الخارج كغلاف أنيق، لكننا سنتسلل إلى قلبه، نفك خيوطه، ونتأمل في تلك اللحظات التي لا يتوقف عندها أحد... إلا من يحب السينما حقًا.
التتر – أو كما يسميه أهل الصناعة "الكريدتس" – هو ذلك المشهد الهادئ نسبيًا، الذي يظهر عادة في البداية أو النهاية، تتوالى فيه أسماء الأشخاص الذين قضوا شهورًا، وربما سنوات، في صناعة الفيلم الذي شاهدته.
أسماء تمر أمامك بسرعة، المخرج، الكاتب، مدير التصوير، مهندس الصوت، مساعد المخرج الثاني، وحتى من أحضر القهوة في الكواليس... الجميع يمر من أمامك، كأنها طوابير الجنود العائدين من المعركة.
لكن الغريب حقًا؟ أنك لا تتذكر معظمهم. وفي الحقيقة، لا أحد يلومك.
التتر لم يُخلق لكي يُحفظ، وإنما وُجد ليكرم من ساهموا في العمل الفني. مثل لوحة تذكارية على جدار طويل، لا يتوقف عندها أحد إلا إذا كان يبحث عن اسمه.
هناك من التترات ما يظهر في البداية، ويهيئك نفسيًا للدخول إلى عالم الفيلم. يضبط الإيقاع، يلعب بالموسيقى والألوان، يخبرك أنك على وشك أن تُفلت الواقع. وهناك تترات تأتي في النهاية، تتدفق معها الأسماء كموجة شكر جماعية، تضع يدها على كتف كل من ساهم في بناء الحلم.
في بدايات السينما، لم يكن هناك ما يُعرف بالتتر على النحو الذي نعرفه اليوم. السينما الصامتة كانت مشغولة بما هو أعقد، كيف تحكي دون صوت؟ كيف تُفهم دون شرح؟ فكانت أسماء الطاقم مجرد معلومات عابرة، بلا فن، بلا اهتمام.
ثم جاء عصر هوليوود الذهبي، وبدأ كل شيء يتغير.
صارت الأسماء تُعرض بخط جميل، والموسيقى ترافقها، وصار هناك إدراك بأن اللحظات الأولى في الفيلم لا تقل أهمية عن أي مشهد درامي داخله.
ثم أتى سول باس (Saul Bass)، رجل لم يكن مخرجًا لكنه غير شكل التتر إلى الأبد. مصمم جرافيك أعاد تعريف البداية السينمائية. جعلها تتحرك، تنبض، وتقول شيئًا من دون كلام. أعماله لأفلام هيتشكوك وكوبريك مثال يُدرس في تحويل التتر إلى قصيدة بصرية قصيرة.
ومع التطور التكنولوجي، بدأ المخرجون يستخدمون التتر كمساحة للتجريب.
في السبعينيات والثمانينيات، صار التتر لوحة فنية مستقلة. وفي التسعينيات، ومع دخول المؤثرات الرقمية، بدأت الألوان تتراقص، والخطوط تنكسر وتعود، والرسائل الخفية تختبئ خلف الصور المتحركة.
اليوم، في زمن المنصات الرقمية، صار التتر يصرخ كي يُرى. لم يعد أمرًا مفروغًا منه، وإنما محاولة للفت الانتباه وسط زحام "تخطِ المقدمة".
بعض التترات تهمس لك بما سيحدث، دون أن تفسد عليك المفاجأة. تأتي كالنبوءة الصامتة، لا تفهمها إلا بعد أن ينتهي كل شيء.
أحيانًا تكتشف بعد مشاهدة الفيلم أن التتر كان يحكي القصة من البداية، لكن بلغة رمزية. مشاهد سريعة، رموز، صور، موسيقى تتغير فجأة... كلها إشارات بأن الفيلم بدأ قبل أن تعرف أنت ذلك.
في بعض الأفلام، التتر هو المشهد الأول بالفعل. لا تمهيد، لا مقدمات... فقط إيقاع بصري وسمعي يأخذك من يدك، ويرميك في قلب الفيلم. وأحيانًا يكون وسيلة المخرج لقول ما لا يستطيع قوله في السيناريو. همسة سرية للمشاهدين الذين يعرفون أن السينما تُقرأ كما تُشاهد.
التتر لن يغيّر العالم، لكنه يظل، في هدوئه، من أصدق لحظات الفيلم.
هو تحية لكل من آمن بالقصة، وعمل على إخراجها للنور.
أن تُشاهد التتر، يعني أنك تُكمل الحكاية حتى آخر كلمة... حتى آخر نبضة.
ولربما، في زمن السرعة والتخطي، أن تكون من الذين ينتبهون للتتر... هو فعل نادر.
في المرة القادمة، قبل أن تضغط زر "تخطٍ"، جرب أن تبقى... فقط دقيقة…
في البداية يُرحب بك التتر، وفي النهاية يودعك... وبين الترحيب والوداع، هناك فيلم، وهناك روح… لا يراها إلا من اختار أن يُشاهد كل شيء، حتى الأسماء.
المصدر: صدى البلد
إقرأ أيضاً:
نجاة عبد الرحمن تكتب: من طرف خفي (55)
من "فيسبوك" إلى "تيك توك": كيف كان الربيع العبري مخططًا صهيونيًا لتفتيت المجتمعات العربية هذا ما استعراضه خلال سطور ذلك المقال :
في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، شهد المجتمع العربي ظاهرة لم تكن عفوية، بل جزءًا من مخطط معقد، تمثل في ما سُمي بالربيع العبري. كانت وسائل التواصل الاجتماعي في قلب هذه الظاهرة، حيث استُخدم فيسبوك كأداة فعالة لحشد الشباب وتوجيه غضبهم السياسي. صفحات وحركات إلكترونية مثل “كلنا خالد سعيد” لم تكن سوى جزء من آلة ضخمة قادتها أجندات خارجية بهدف اختراق المجتمع العربي من الداخل وتفكيك بنيته الثقافية والسياسية. وتؤكد دراسة جامعة هارفارد لعام 2018 تحت عنوان "The Weaponization of Social Media" كيف استُغلت هذه المنصات من قبل أجهزة استخبارات غربية، من بينها إسرائيل، لتوجيه الحركات الثورية وتحويلها إلى أدوات تفكيك سياسي واجتماعي.
المرحلة الأولى: فيسبوك والحشد الجماهيري في خدمة المخطط الصهيوني
في عام 2011، برز فيسبوك وتويتر كمنصات ثورية أظهرت قدرة غير مسبوقة على تجميع الجماهير العربية خلف شعارات الحرية والكرامة. ومع ذلك، فإن دراسة متأنية تشير إلى أن تمويل وتدريب نشطاء هذه الحركات جاء من جهات مرتبطة بالاستخبارات الصهيونية والأمريكية، التي وجدت في هذه الحركات وسيلة لإعادة هندسة المنطقة سياسيًا عبر إحداث فوضى داخلية. تدعم تقارير واشنطن بوست ومجلة Foreign Affairs هذه الرؤية، حيث أوضحت أن مراكز بحث أمريكية وصهيونية شاركت في تدريب النشطاء على صناعة الفوضى. وتُظهر بروتوكولات حكماء صهيون، رغم كونها وثيقة تاريخية مزيفة، كيف تحدد أدوات السيطرة، ومنها إشعال الفتن عبر شبكات التواصل، مما يفسر استغلال صفحات مثل "كلنا خالد سعيد" كنقطة انطلاق لحملات منظمة تهدف إلى تحطيم نظام القيم والسلطة التقليدية.
المرحلة الثانية: أدوات مسرحية.. من خالد سعيد إلى التجييش الإلكتروني
استُثمرت قضية خالد سعيد إعلاميًا بشكل ذكي، وحولت من قصة محلية إلى رمز إقليمي للثورة. هذه الأداة استخدمت لنقل رسائل موجهة تخدم تفكيك البنية الاجتماعية، إذ عملت على تحويل الغضب الشعبي إلى أداة تصادم داخلي بعيدًا عن الإصلاح الحقيقي. وثقت صحيفة الجارديان البريطانية تحقيقًا يوضح كيف كانت قضية خالد سعيد أداة إعلامية منظمة لجذب الغضب الشعبي، بينما أظهرت وثائق مركز Carnegie للشرق الأوسط وجود تمويل خارجي لحملات إلكترونية موجهة. شهادات ناشطين محليين تؤكد أيضًا وجود دعم خارجي لتدريب النشطاء على إدارة الحملات الإلكترونية، مما يوضح كيف أصبح الشعب غير مدرك أنه يستخدم كوسيلة لتدمير كيانه.
المرحلة الثالثة: من الحشد إلى التفتيت الثقافي.. صعود تيك توك وأغاني المهرجانات
بعد انتهاء مرحلة الحشد السياسي المكثف، بدأت مرحلة جديدة تهدف إلى تفكيك المجتمع من الداخل عبر تغيير الوعي الثقافي. منصة تيك توك، التي انطلقت عالميًا في 2017 بعد إطلاقها محليًا في الصين عام 2016 باسم Douyin، أصبحت المسرح الأبرز لنشر ثقافة التفاهة والسطحية بين الشباب. تقرير صادر عن European Center for Media Pluralism and Media Freedom (ECMPMF) عام 2022 أكد خطورة المحتوى السطحي والسلبي المنتشر عبر هذه المنصة. كذلك، أظهرت تحليلات مؤسسة RAND الأمريكية عام 2021 كيف يساهم المحتوى الترفيهي السطحي في تقويض الوعي الجمعي، فيما سلطت تقارير إعلامية مصرية الضوء على انتشار أغاني المهرجانات وأثرها السلبي في تهديم القيم الاجتماعية التقليدية، وتعزيز النزعات الفردانية والاستهلاكية.
خطورة تيك توك: غسيل أموال وصناعة نجوم من القاع
لم تعد تيك توك مجرد منصة ترفيهية، بل أداة تُستخدم في عمليات غسيل أموال ضخمة عبر صناعة نجوم مزيفة. تحقيقات صحيفة Financial Times في 2021 أظهرت كيف تُستخدم المنصات الرقمية في عمليات غسيل أموال عبر إعلانات وهمية وحسابات بمبالغ ضخمة بلا رقابة واضحة. كما كشفت تقارير أمنية أوروبية وأمريكية عن وجود شبكات منظمة تستغل الترفيه الرقمي لتبييض الأموال. يتم اختيار أفراد من القاع الاجتماعي والثقافي، غير متعلمين غالبًا، وتلميعهم فجأة ليصبحوا نجومًا بثروات ضخمة، يروّجون لأنماط حياة سطحية من خلال بثوث مباشرة تستعرض ثرواتهم وأسلوب حياتهم المرفه، ما يؤثر بشكل سلبي على عقول الشباب والصغار الذين يتوهمون أن النجاح الحقيقي هو الثراء السريع لا بالعلم أو العمل. هذا الاستعراض الفج للثراء يؤدي إلى تآكل البوصلة الاجتماعية، مع فقدان العلماء والمثقفين لجمهورهم، ما يخلق جيلًا مستهلكًا ومفتقدًا للوعي الثقافي، مما يهدد النسيج الثقافي والهوية الوطنية، ويدفع المجتمعات إلى الانهيار.
المرحلة الرابعة: المخططات الكبرى والتنسيق بين القوى
تتداخل هذه الظواهر مع ما ورد في بروتوكولات حكماء صهيون التي تدعو إلى إشغال الشعوب بالمجون والفساد لإضعافها، مع مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يسعى لإعادة رسم خرائط المنطقة عبر كيانات هشة ومتقاتلة. وثائق مسربة من مراكز أبحاث إسرائيلية تؤكد وجود خطة استراتيجية تُعرف بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد"، الذي يهدف إلى خلق كيانات متناحرة هشة بدلاً من دول مستقرة. كما تبرز تصريحات ودراسات أمنية إسرائيلية خطة جيورا إيلاند التي تسعى إلى تغيير ديموغرافيا المنطقة بما يخدم المصالح الاحتلالية، وتحقيق السيطرة عبر إضعاف البنى الثقافية والاجتماعية للمجتمعات.
المرحلة الخامسة: النتائج الميدانية
النتائج كانت انهيار الثقة في المؤسسات والقيم، تفكيك الأسرة والمجتمع، وتشويه الوعي الوطني، مع بروز نجوم وسائل التواصل الذين يمثلون القيم المضادة، كل ذلك في ظل استعمار ثقافي واقتصادي يفرض أنماط حياة وأفكار مستوردة تجهض الهوية.
يبقى السؤال: هل يدرك المجتمع العربي حقيقة ما حدث وما يحدث؟ وهل من مقاومة فكرية وثقافية قادرة على استعادة الهوية وحماية المجتمع من هذا التفكيك المدروس؟