في السادس من شهر أيار/ مايو الجاري، تحررت جماعة الحوثي اليمنية من أخطر التحديات العسكرية التي مثلتها الضربات الأمريكية واسعة النطاق على مدى 52 يوما، وأثرت بعمق في بنيتها العسكرية، واستهدفت منشآت حيوية؛ كانت تدخل في صلب العمليات اللوجستية المتصلة بالنشاط العسكري للجماعة في اليمن وتلك العابرة للحدود، وأفضت إلى نتائج يُعيدُ الحوثيون تكييفها كمكتسبات سياسية وعسكرية في مواجهة استحقاق الحسم السياسي والعسكري للحرب اليمنية المستمرة منذ أحد عشر عاما.



لا أحد أكثر إدراكا لخطورة التطور في الموقف الأمريكي السياسي والعسكري والأمني في اليمن من جماعة الحوثيين، التي حازت المكانة التي هي عليها الآن نتيجة الدعم المزدوج الإيراني والأمريكي، والأخير كان حاسما لجهة الوصول السريع للجماعة إلى سدة السلطة في صنعاء، وحيازة مقدرات الدولة اليمنية بسرعة هائلة. لقد كان هذا الدعم جزءا من مخطط لإعادة احتواء ثورة التغيير في اليمن، وتحطيم حواملها السياسية وبالأخص الإسلامية منها. ولامس هذا التوجه مخاوف غير مبررة لدى دول الرفاه الخليجية؛ من تداعيات ذلك التغيير الذي لم يكن سوى محاولة من الشعب اليمني لإنهاء عهد من الخراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي والفساد المهول في ممارسة السلطة، واحتواء مخاطر الانزلاق نحو مرحلة فشل الدولة.

وقف الضربات الأمريكية على اليمن حاجة مشتركة وملحة لكلا الجانبين، الأمريكي والحوثي. فثمة حاجة ملحة للرئيس دونالد ترامب إلى القيام بجولة هادئة للمنطقة منتصف هذا الشهر، حيث يخطط لإنجازات فارقة في سياساته الخارجية، لعل من أهمها بناء شراكات جديدة تكون جزءا من حاجز الصد الأمريكي أمام القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية، بالإضافة إلى صفقة لإنهاء الحرب في غزة تعد ضرورية لنجاح أمريكا ورئيسها في بناء تلك التفاهمات
وبالتقاء هذه العوامل أمكن للحوثيين أن يصلوا إلى أهدافهم الثمينة في الاستحواذ على الدولة اليمنية، محمولين على الحقد الأيديولوجي لبعض الدول الإقليمية وسوء تقديرها الخطير للأمور، والدوافع المذهبية لإيران، والحسابات الأنانية للولايات المتحدة الأمريكية والغرب وتأييدهما اللاهوتي الأعمى للكيان الإسرائيلي، ولا ننسى الدعم المفعم بالحماس الذي قدمته شبكة واسعة من المنظمات الأهلية والحكومية الغربية ووكالات الأمم المتحدة للحوثيين، وساهمت من خلاله في نحت صورة جميلة ومثالية لجماعة طائفية قبيحة وعنيفة.

خرج الحوثيون للتو من مواجهة عسكرية مميتة مع القوة العظمى، وسط ادعاءات بتحقيق النصر، الذي لا يعني سوى أن قادة الجماعة نجوا من الموت بسبب الجغرافيا الشاسعة المليئة بالمخابئ، في حين تُركت المنشآت والمقدرات عرضة للضربات الجوية الأمريكية، زاد من وطأتها العدوان الإسرائيلي يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين إلى تدمير شبه كلي لميناء الحديدة ومطار صنعاء وتدمير مصنعي أسمنت باجل وعمران، في ما يمثل أسوأ نتائج هذا الاشتباك غير المتكافئ.

إن وقف الضربات الأمريكية على اليمن حاجة مشتركة وملحة لكلا الجانبين، الأمريكي والحوثي. فثمة حاجة ملحة للرئيس دونالد ترامب إلى القيام بجولة هادئة للمنطقة منتصف هذا الشهر، حيث يخطط لإنجازات فارقة في سياساته الخارجية، لعل من أهمها بناء شراكات جديدة تكون جزءا من حاجز الصد الأمريكي أمام القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية، بالإضافة إلى صفقة لإنهاء الحرب في غزة تعد ضرورية لنجاح أمريكا ورئيسها في بناء تلك التفاهمات؛ التي لم تعد مرتبطة بشكل ملحّ بالتطبيع أو بالاتفاقات الإبراهيمية، إذ لم تعد رافعة موثوقة لبناء سلام حقيقي في المنطقة، وإلا لكان الكيان الإسرائيلي على قائمة زيارة ترامب، ناهيك عن التطورات المتصلة بتدهور العلاقة الشخصية بين ترامب ونتنياهو.

الماكينة الدبلوماسية الإقليمية تحركت سريعا لتهيئة أرضية الزيارة المرتقبة للرئيس ترامب، وبدأت بالزيارة التي قام بها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في 28 نيسان/ أبريل الماضي إلى سلطنة عمان ولقائه نظيره العماني بدر البوسعيدي في الجبل الأخضر، ومنها بدأت سلطنة عمان بالتواصل مع مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف، بما لديه من تفويض شامل من رئيسه، ومع ممثلي جماعة الحوثي في مسقط، التي حصلت على إشارة خضراء من إيران للنزول من الشجرة، والتوقف عن نشاطها العسكري في جنوب الأحمر، وهو الشرط الذي وضعته أمريكا في عهد الرئيس السابق جو بايدن وكان واضحا بصورة أكبر لدى الرئيس ترامب.

لم تكن الضربات الأمريكية جزءا من جهد عسكري شامل لتقويض نفوذ الحوثيين وإعادة السلطة نفوذ السلطة الشرعية إلى الجزء الشمالي من البلاد، لكنها بالتأكيد شكلت نقطة مفصلية في مسار الحرب اليمنية
توقفُ الحوثيين عن استهداف الملاحة البحرية وبالذات السفن التي تعود لكل من إسرائيل والولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم يُبن على تحقيق الأهداف، بل جاء بطعم الاستسلام، تماما كما وصفه الرئيس ترامب. ويعود ذلك إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية بدأت بالتحول العكسي الخطير الذي تجاوزت معه معظم الخطوط الحمر التي كانت قد وضعتها بنفسها، في سياق موقف هدف منذ أكثر من عشر سنوات لحماية المشروع السياسي الحوثي بشكل واضح لا لبس فيه. وتجلى هذا التحول المعاكس للموقف الأمريكي في شمولية أهداف الحملة الجوية التي أطلقها ترامب، منتصف شهر آذار/ مارس، حيث بات قادة الجماعة هدفا للضربات الجوية، واتسع نطاق الضربات جغرافيا ليشمل معظم المحافظات وحتى جبهات التماس، حيث تتواجد العناصر المسلحة والآليات التابعة للجماعة في حالة جهوزية لمواصلة الحرب مع القوات الحكومية.

والأهم من ذلك أن الضربات الأمريكية طالت الموانئ اللوجستية كميناء رأس عيسى الذي تتلقى من خلاله الجماعة معظم احتياجاتها من المشتقات النفطية، مما شكل مؤشرا خطيرا على أن أمريكا جادة بالفعل في إلحاق الأذى بالوجود السياسي والعسكري والأمني للجماعة، وتقويض إمكانياتها ومواردها الاقتصادية، ليس فقط من خلال العقوبات ولكن أيضا من خلال الضربات الجوية المباشرة.

لم تنجح الضربات الأمريكية في إنهاء سلطة الحوثيين على شمال اليمن، وهذا شيء متوقع، كما لم تكن الضربات الأمريكية جزءا من جهد عسكري شامل لتقويض نفوذ الحوثيين وإعادة السلطة نفوذ السلطة الشرعية إلى الجزء الشمالي من البلاد، لكنها بالتأكيد شكلت نقطة مفصلية في مسار الحرب اليمنية، التي قد تنتهي إلى الحسم الذي يعيد الدولة إلى الشعب، أو تضع اليمن أمام خيار الشرعيات المتعددة، أو الكانتونات المتصارعة في ظل سلطة شرعية لا مخالب لها ولا نفوذ.

x.com/yaseentamimi68

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الحوثي اليمنية امريكا اليمن الحوثي مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الضربات الأمریکیة جزءا من

إقرأ أيضاً:

بعد انتهاء التصعيد الإسرائيلي الإيراني| ترامب يهاجم الإعلام الأمريكي.. وخبير: كانت تمثيلية

بعد انتهاء التوتر بين إيران وإسرائيل وتصاعد الأزمة لتطول منطقة الخليج، وبالتحديد قاعدة "العديد" الأمريكية في قطر التي تعرضت لهجوم إيراني غير مسبوق، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توجيه الحديث نحو "نجاحات" الضربات الأمريكية التي استهدفت منشآت نووية إيرانية، متجاهلًا تمامًا استهداف القوات الأمريكية في الخليج، هذا الموقف أثار تساؤلات عدة حول حقيقة التصعيد الحاصل، ومدى جدّيته، وما إذا كان مجرد استعراض سياسي تم التفاهم عليه مسبقًا، كما يرى بعض المحللين.

ترامب يتحدث عن "الضربات الناجحة".. ويتجاهل "العديد"

في سلسلة منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تفاخر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالقصف الأميركي الذي طال منشآت نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، قائلاً: "المواقع التي ضربناها في إيران دُمرت بالكامل، والجميع يعلم ذلك". ولم يكتف بذلك، بل شنّ هجومًا عنيفًا على وسائل الإعلام الأمريكية التي وصفها بـ"الكاذبة"، متهمًا إياها بمحاولة التقليل من أهمية الضربات الأمريكية.

وأضاف ساخرًا من شبكة CNN وقنوات NBC وABC، متهماً إياها بفقدان المصداقية وبأن نسب مشاهدتها وصلت إلى أدنى مستوياتها بسبب "فسادها الإعلامي"، على حد وصفه.

إدانات عربية ودولية واسعة للهجوم الإيراني على قاعدة العديد

وعلى الطرف الآخر من المشهد، سارعت عدد من الدول إلى إدانة الهجوم الإيراني على قاعدة العديد الجوية، من بينها مصر والسعودية والإمارات والكويت والبحرين والأردن والعراق ولبنان وسلطنة عمان وفرنسا والسويد. أما روسيا فقد دعت مواطنيها إلى تجنّب الإقامة الطويلة في الدوحة، في مؤشر على تخوفات من تصعيد محتمل.

مصادر أمريكية.. كنا نعلم بالضربة مسبقًا

ونقلت شبكة "فوكس نيوز" عن مصادر في وزارة الدفاع الأمريكية أن الجيش الأمريكي كان على علم مسبق بالضربة الإيرانية على القاعدة، بل وكان مستعدًا لها تمامًا، وهو ما أثار شكوكًا إضافية بشأن نوايا إيران الفعلية من هذا الهجوم.

من جانبها، كشفت وكالة "رويترز" أن إيران قامت بإبلاغ الولايات المتحدة والدوحة قبل ساعات من تنفيذ الهجوم، ما أتاح للجانب القطري اتخاذ الإجراءات اللازمة لإخلاء القاعدة.

قطر.. القاعدة أُخليت مسبقًا ولا إصابات

وفي بيان رسمي، أكدت وزارة الخارجية القطرية أن قاعدة العديد قد تم إخلاؤها في وقت سابق ضمن الإجراءات الأمنية الوقائية، وتم اتخاذ كل التدابير اللازمة لحماية العاملين فيها. وأضاف البيان أن الهجوم لم يسفر عن أي خسائر بشرية أو مادية، ما يعزز فرضية أن الهجوم كان مدروسًا لتفادي التصعيد المباشر.

“نيويورك تايمز”.. تنسيق إيراني قطري سابق للهجوم

ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز، فإن طهران نسقت بالفعل مع المسؤولين القطريين قبل تنفيذ الهجوم، وأبلغتهم بنيتها شن الضربات لتقليل الخسائر. الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن ما جرى لم يكن مفاجئًا لأي من الأطراف.

اللواء نصر سالم.. المشهد تمثيلي بتفاهم مسبق

وفي مداخلة لافتة، قال اللواء نصر سالم، رئيس جهاز الاستطلاع الأسبق خبير الاستراتيجية العسكرية، إن الضربة الإيرانية التي استهدفت قاعدة العديد القطرية ليست سوى "تمثيلية متفق عليها". وأضاف أن هناك تفاهمًا مسبقًا بين إيران والولايات المتحدة وقطر، تم من خلال قنوات اتصال رسمية وغير مباشرة، بحيث أبلغت إيران الجانبين بتوقيت الضربة ومكانها لتفادي الخسائر.

وأشار سالم، في تصريحات خاصة، إلى أن الصواريخ الإيرانية التي استهدفت القاعدة تصدت لها الدفاعات الجوية القطرية، فيما سقط صاروخ وحيد قرب القاعدة من دون أن يسفر عن أي ضرر يُذكر. واعتبر أن ما جرى لا يتعدى كونه "حفظًا لماء الوجه" أمام الداخل الإيراني الغاضب.

هل التصعيد مجرد مقدمة للتفاوض؟

واختتم اللواء سالم تحليله بالإشارة إلى أن هذه الأحداث، رغم طابعها العسكري، لا يُتوقع أن تتطور إلى مواجهة واسعة. بل على العكس، يرى أن كل هذه المناوشات قد تكون مقدمة للعودة إلى طاولة المفاوضات، خصوصًا إذا لم ترد الولايات المتحدة على الهجمات الإيرانية حتى صباح اليوم التالي.

بين الضربات والرسائل المشفّرة

وما بين صواريخ تُطلق وتصريحات تتطاير، تبقى الحقيقة ضائعة بين الحسابات السياسية والتكتيك العسكري. هل نحن أمام تصعيد حقيقي، أم مجرد عرض مسرحي لإعادة رسم خطوط التفاوض؟ الأيام القادمة فقط هي من ستحمل الإجابة.

طباعة شارك مصر الخليج ترامب السعودية الدوحة

مقالات مشابهة

  • بعد انتهاء التصعيد الإسرائيلي الإيراني| ترامب يهاجم الإعلام الأمريكي.. وخبير: كانت تمثيلية
  • وزير الدفاع الأمريكي: لا معلومات استخباراتية تفيد بنقل إيران لليورانيوم
  • وجهنا لهم صفعة قاسية.. خامنئي يقلل من تأثير الضربات الأمريكية
  • ترامب يعترف بتقييم الاستخبارات حول وضع مواقع إيران النووية بعد الضربات الأمريكية
  • ترامب: الضربات الأمريكية أعادت برنامج إيران النووي عقودًا إلى الوراء
  • وزير الدفاع الأمريكي: ضرباتنا التي استهدفت المواقع النووية بإيران كانت مثالية
  • ترامب: الضربات الأمريكية أنهت الحرب وإيران لن تمتلك السلاح النووي
  • ترامب يهاجم "سي إن إن" و"نيويورك تايمز": شوهوا الضربات الأمريكية لإيران رغم نجاحها التاريخي
  • البيت الأبيض ينفي تقارير فشل الضربات الأمريكية في تدمير النووي الإيراني
  • تقرير استخباراتي سري: الضربات الأمريكية لم تدمر البرنامج النووي الإيراني