السرديات المضللة في حرب السودان… حكاية الغزو الأجنبي
تاريخ النشر: 18th, May 2025 GMT
السرديات المضللة في حرب السودان… حكاية الغزو الأجنبي
فيصل محمد صالح
في إطار التحولات المستمرة لسرديات الحرب في السودان تغيّرت التسميات من مقاومة تمرد الميليشيا، إلى محاولة الانقلاب، وإلى حرب الكرامة… وانتهت إلى حكاية الغزو الأجنبي. فالقول الجديد الآن أن السودان يتعرض لغزو أجنبي ينبغي حشد كل الإمكانات والموارد للتصدي له، وكل من لا يسهم في هذا الاتجاه إما أنه متآمر وإما ساكت على الغزو الأجنبي ومؤيد له بطريقة ما.
ليست هذه هي المرة الأولى في حروبات السودان المتعددة أن تُطلق الحكومات على الحروب الأهلية تسميات تحاول أن تحشد بها الناس، وترفع الحرج عن عدم قدرتها على المواجهة بالقول إن ما يحدث هو مؤامرة كونية ضد السودان، وغزو أجنبي يفوق قدرات البلاد.
حدث هذا في حرب الجنوب الأولى «1955-1972»؛ حيث كانت تُسمى مؤامرة استعمارية كنسية من تدبير الدوائر الغربية المسيحية، تستهدف ثقافة السودانيين ودينهم، ثم انتهى الأمر بتفاوض تحت رعاية مجلس الكنائس العالمي، تم على أثره توقيع اتفاقية أديس أبابا في 27 فبراير (شباط) 1972، وتم تعيين زعيم المتمردين الجنرال جوزيف لاقو في عدة مناصب، من بينها نائب رئيس الجمهورية.
ثم جاءت حرب الجنوب الثانية «1983-2005»، وهي أيضاً كان يتم توصيفها بأنها مؤامرة صهيونية وأميركية على السودان وسيادته، وحين تقدّمت قوات «الحركة الشعبية» بقيادة الدكتور جون قرنق في بعض المحاور تمت تسمية ذلك بالغزو الأوغندي الإثيوبي، وشهدت تلك المرحلة عمليات الحشد والتجنيد تحت شعارات الجهاد لمواجهة الغزو الأجنبي الذي «يستهدف دين الأمة وعقيدتها»، وكان يتم تصوير جون قرنق صوراً مشينة. خاضت الحكومة مفاوضات مع «الحركة الشعبية»، برعاية أميركية غربية، وانتهت بتوقيع اتفاق السلام الشامل في نيروبي يناير (كانون الثاني) 2005، وأيضاً انتهت المرحلة بالدكتور جون قرنق نائباً أول لرئيس الجمهورية، ثم خلفه سلفا كير.
ثم تكرر الأمر مع حركات دارفور المسلحة، التي يتولّى أحد قادتها الآن وزارة المالية، والآخر حكم إقليم دارفور، ويتحالفون مع الحكومة ويقاتلون مع الجيش الذي سبق أن قاتلوه.
هو تقليد قديم إذن، أن نتجنّب الاعتراف بحقيقة الحروب الأهلية التي تتقاتل فيها أطراف سودانية لأسباب متعددة، ونحول الأمر كأنه غزو أجنبي، وهناك ظنٌّ أن في الأمر فوائد آنية، منها حشد الطاقات الوطنية، واستقطاب الدعمين الإقليمي والدولي، وإيجاد التبرير المناسب في حالة عدم القدرة على المواجهة، بحجة وجود إمكانات كبيرة لدى الطرف الأجنبي، ثم إلقاء اللوم على الآخرين بالتسبب في الحرب بدلاً من لوم النفس.
هذه حرب سودانية بين أطراف سودانية، ومن انتهكوا وارتكبوا الجرائم وقتلوا وذبحوا المدنيين هم، مع الأسف الشديد، مواطنون سودانيون، ومن قصفوا المنشآت المدنية ومحطات الكهرباء والأسواق العامة هم أيضاً سودانيون، ولن تُغير نسبتهم لبلاد أجنبية من هذه الحقيقة، ولن تُفيد محاولات الإنكار وإلقاء اللوم على الآخرين.
هل يعني هذا الأمر نفي وجود تدخل أجنبي في الحرب الحالية وحروب السودان السابقة…؟
الإجابة بالتأكيد لا كبيرة… وكبيرة جدّاً، فالتدخلات الإقليمية والدولية لم تغب يوماً عن الشأن السوداني، بل في كل البلاد التي تشهد صراعات ونزاعات داخلية. ومن المؤكد أن البلاد تتدخل وفقاً لمصالحها هي أولاً، ثم تأتي بعد ذلك العوامل الأخرى التي يمكن أن تُشكل مبررات موقفها. لكن الفرق كبير بين التدخل عبر مساعدة طرف ودعمه بالسلاح وبالتأييد السياسي، والغزو الذي يستلزم دخولاً مباشراً في الحرب بعناصر أجنبية مقاتلة.
لو استمرت الحرب الحالية بما يملكه الطرفان من أسلحة وذخائر لما استمرت ثلاثة أشهر، بعدها لن يملك طرفا الحرب ما يتقاتلان به غير السلاح الأبيض، لكن الإمداد الخارجي، الذي هو شكل من أشكال التدخل، وهو الذي تسبب في استمرار الحرب. ولم يأتِ هذا السلاح والإمداد لأي من طرفي الحرب حبّاً وكرامة، وإنما هو جزء من استراتيجية التدخل والتأثير في مجريات الأوضاع، ومحاولة الاستفادة من أوضاع الحرب ومآلاتها ونتائجها.
الأفضل للسودانيين أن يبدأوا من حقيقة مسؤوليتهم عن الحرب واستمراريتها، وأن يعرفوا أن عملية وقف الحرب يمكن أن تتم إذا توفرت إرادة وطنية حقيقية، عندها فقط يمكن قفل الباب أمام التدخل الدولي الضار والخبيث، أما غير ذلك من التوصيفات والتسميات فلن يفعل شيئاً غير ذر الرماد في العيون..
نقلاً عن الشرق الأوسط
الوسومالحركة الشعبية الحروب الأهلية السرديات المضللة جون قرنق حرب السودان... الغزو الأجنبي مؤامرة صهيونيةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحركة الشعبية الحروب الأهلية السرديات المضللة جون قرنق مؤامرة صهيونية
إقرأ أيضاً:
حقائق و بديهيات «للأسف يجب ان تقال»
حقائق و بديهيات «للأسف يجب ان تقال»
بكري الجاك
الحقيقة الموضوعية التى لايمكن مقارعتها بالغلاط و الهتاف ان السودان ظل فى حالة احتراب داخلي منذ ماقبل الاستقلال (أغسطس ١٩٥٥ حركة الأنانية ون) حينها كانت منطقة الخليج تحت الانتداب البريطاني و لم يكن هنالك دول مثل الامارات و قطر و لاغيرها و التى كانت موجودة كانت لا تملك قوت عامها.
و الحقيقة الموضوعية التى لا يمكن محوها انه كان هناك نظام يسمي الانقاذ أتى بانقلاب عسكري فى عام ١٩٨٩ و قام بتأجيج الحرب الأهلية باسم الجهاد و استثمر فى خلق الصراعات القبلية و تكوين المليشيات و تقنين الفساد و تطبيعه حتى ظن الناس الاستقامة هى ضرب من ضروب الخيال.
و الحقيقة الموضوعية التى لا يمكن تغييرها بالاكاذيب ان الشعوب السودانية قامت بثورة عظيمة فى ديسمبر ٢٠١٨ شاركت فيها كل فئات المجتمع السوداني و ان القيادة المدنية التى قادت مشروع الثورة اتخذت تقديرات سياسية اتضح لاحقا ان بعضها كان غير صحيح و لكن لم تفشل الفترة الانتقالية، و كما لا يمكن ان نساوي بين ٢٦ شهر للحكم الانتقالي و ثلاثين عاما من التخريب الممنهج و النهب المشاع للانقاذ، و لم تفشل المرحلة الانتقالية و لكن انقلب عليها من يتحاربون الآن، كما عمل على افشالها تحالف المال و السلطة الذي عماده الاسلاميين و ربائبهم بالتامر و التخريب اولا و الانقلاب ثانيا و اخيرا الحرب.
و الحقيقة الموضوعية التى لا يمكن نفيها بإعادة كتابة التاريخ ان حرب السودان بدأت بين السودانيين و لها عدة اسباب مباشرة و غير مباشرة من بينها الخلل البنيوي فى بنية الدولة حتى قبل اعلان استقلالها.
عليه اي محاولة لتصوير حرب السودان كحرب خارجية او غزو اجنبي او كلها محض عدوان خارجي هو ذهول عن رؤية قرص الشمس او رفض حقيقة ان الشمس تشرق من الشرق و هذا لا يعني انه ليس هناك عوامل خارجية ( شبكة مصالح و دول) اصبحت ذات تأثير عالي فى استمرار حرب ١٥ أبريل و هذه العوامل سيكون لها دور فى الطريقة التى ستنتهي بها الحرب.
و جوهر القول انه بدلا من ترديد ان الحرب غزو اجنبي كشكل من أشكال الهروب الي الا مام علينا ان نتسائل عن ما هو دورنا نحن كسودانيين لايقافها بدلا من لعن الظلام و الخارج؟ اية محاولة للوم الخارج فقط و كفي هو ليس فقط نوع من الكسل الذهني بل هو التخلي عن ال agency اي قدرتنا على الفعل.
قليل من الموضوعية لا يضر و مهما كانت المواقف من الحرب و الرؤي فى تفسيرها لا يوجد ما يجب ان يقدم على ايقافها باي صيغة كانت و الا فما قيمة ان يكون الفرد منا علي صواب فى التشخيص و لكن المريض قد أصبح جثة هامدة؟ فلنعمل جميعنا على إسكات البنادق و لنواصل اختلافنا و جدلنا عن ما حدث حينما نجد الامان فللحقيقة اوجه عدة.
بكري الجاك
١٨ مايو ٢٠٢٥